مناسبة وكلمة

«بلاكن ما في بلد»

«من دونكم لا وجود للبنان»، تلك هي الرسالة الأساسية التي وجّهها قائد الجيش العماد جوزاف عون إلى متخرّجي دورة الرتباء السادسة والعشرين عندما زارهم في ثكنة محمد مكي. وهذه المقولة التي ركّز عليها تتخطّى معناها العام، إذ أنّ التلازم بين وجود الدول وجيوشها ليس شأنًا يحتاج إلى تأكيد، فما الذي قصده؟


لقد أراد قائد الجيش أن يؤكّد للرتباء الذين يحتلّون موقعًا بالغ الأهمية في هرمية الجيش خصوصًا، وللعسكريين عمومًا، أنّ ثباتهم في وجه الأزمة الكاسرة، واستمرارهم في أداء واجبهم وكأنّ كل شي من حولهم بألف خير هو أساس بقاء لبنان متماسكًا، وشرط نهوضه مجددًا، وأنّ التضحيات التي يقدّمونها في كل يوم وكل لحظة، هي ما يحتاجه لبنان وما يراهن عليه مواطنوهم. التضحية، تلك الكلمة التي تتوسط شعار الجيش، تكتنز اليوم كل معاني النُبل والشرف والوفاء، ويعتنقها العسكريون إيمانًا لا تزعزعه عواصف. «بإيمانكم بوطنكم تحمون حدودكم»، أكّد العماد عون.


وتطرّق إلى «تخريج رتباء ذكور وإناث من مختلف الاختصاصات العسكرية القتالية للمرة الأولى في تاريخ الجيش، وهذا خير دليل على الكفاءة العالية التي تتميز بها المرأة والتي أثبتت جدارتها فحظيت بثقةٍ واحترام كبيرَين».


وأضاف: «أيام قليلة تفصلكم عن تخرّجكم للالتحاق بمراكز خدمتكم في الوحدات العسكرية المنتشرة على جميع الأراضي اللبنانية بعد سنتَين من العمل والمثابرة والتدريب. نعلم حجم التحديات التي واجهتموها في ظل الظروف القاسية والأزمة الاقتصادية التي نمرّ بها، لكنّكم رغم ذلك أثبتّم جدارة وتميزًا في مواجهتكم لكل هذه الظروف».


التضحية بذاتها
قالها العماد عون بكل وضوح وثقة، «اللي عم تعملو ما حدا عم يعملو»، و«لولاكم ما في بلد» ولا مهرجانات ومؤسسات تعمل. كانت زيارته لهم متزامنة مع حلول عيد الأضحى، وقد اعتبر أنّ كل يوم في حياتهم هو أضحى، وأنّ وجودهم على الحدود وفي مراكز عملهم هو التضحية بذاتها. توقّف عند مهماتهم الكثيرة التي ضاعفتها الأزمات وزادت من ثقلها، مثمّنًا تحمّلهم مسؤولياتهم بالجدارة التي تضع كلًا منهم في مصاف الأبطال، وإيمانهم بوطنهم مهما اشتدت الشدائد عليه. هذا الإيمان الذي يتجلى في وقفة الإباء والعنفوان ويمدهم بالصلابة. كما توقّف عند تشاركهم المسؤولية الوطنية ذكورًا وإناثًا يتفانون في واجبهم، وهذا أحد وجوه تميّز دورتهم.


خاطب عنفوانهم: «عندما تخلّى غيركم عن مسؤولياته تجاه بلده، كنتم أنتم مدرسة الشرف والتضحية والوفاء التي لا تتخلّى عن مسؤولياتها، لستم ممن يتخلّون عن بلدهم ولا عن قَسَمهم، نحن من مدرسة الأخلاق والتربية الحسنة»... وأكّد من جديد، «بلاكن ما في بلد، ما في مسؤول بيقدر يروح عبيته أو على شغله، ولا فندق ولا مطعم بيقدر يشتغل. السياحة وحركتها الناشطة نتيجة لسهركم، وما في أمان بالبلد إلا لأنو إنتو موجودين...».


وحدكم مصدر الثقة
وحيّا العماد عون ضمير العسكريين الحي قائلًا: «في حين غفا ضمير البعض وأخذ ضمير البعض الآخر استراحة من العمل، كان ضميركم النابض بالحياة يكمل واجبه كاملًا من دون انتظار الشكر من أحد»، وأضاف: «ما تنطروا من حدا يتطلع فيكن، تطلعوا بضميركن وإيمانكن بالبلد والمؤسسة، في شعب عم يتطلع فيكن وعنده ثقة فيكن، ما عنده ثقة بحدا تاني إلا إنتو».
 
تعزيز روح القيادة والمسؤولية
وفي تنويه بأهمية دور الرتباء في المؤسسة العسكرية قال قائد الجيش: «سوف تستفيد المؤسسة العسكرية من كل ما اكتسبتموه من معارف خلال مرحلة التعليم ومن تعزيز روح القيادة والمسؤولية التي غُرست فيكم، خصوصًا بعدما تم تطوير المناهج لتتلاءم مع متطلبات العمل العسكري الحديث، فأنتم عصب الجيش وعموده الفقري ودوركم أساسي في نقل أوامر القادة للعسكريين ولدينا ثقة كبيرة بكم. ما عليكم إلا أن تكونوا على قدر المسؤولية التي تقع على عاتقكم والثقة التي مُنحتم إياها وعليكم يقع واجب الحفاظ على المؤسسة واستمراريتها وعلى الوطن ومنعته».


إلى جانبكم
يُدرك قائد الجيش حجم المعاناة في صفوف عسكرييه، لكنّه يراهن على المستقبل فالأزمة لن تدوم، والقيادة لن تتخلّى عن أولادها: أنتم أغنياء بأخلاقكم، فقر الحال لن يدوم، الأخلاق هي التي تدوم، الكرامة هي التي تخلّد، عزة النفس هي التي تبقى... لا تخافوا أنا بجانبكم ولن أرتاح قبل أن ترتاحوا، لكن جلّ ما أطلبه منكم في الوقت الحالي هو الصبر، فالصبر مفتاح النجاح، وبالنجاح بإذن الله في المستقبل القريب...
 
معهد المعرفة والعطاء
أُنشئ المعهد في الأول من آذار من العام 1967 في ثكنة حنا غسطين في عرمان، وهو متمركز في الوقت الحالي في ثكنة محمد مكي في بعلبك.


ترمز الأرزة الخضراء في شعار المعهد لخلود لبنان ومجده، بينما تبثّ أشعة الشمس الساطعة المتوهجة نور المعرفة. أما الكتاب فهو رمز للمعرفة والعلم، فيما تدل الريشة على وسيلة نقل هذه المعرفة ونشرها. وأخيرًا، تتجلى قوة العسكري وصموده في وجود السيف على الشعار.


رموز ومعانٍ لها دورها في صنع لحمة المؤسسة وقوتها، وفي تحقيق إجماع اللبنانيين حولها، إجماع لا اختلاف على تفسيره: نحن نثق بك، ولا أمل لنا إلا من خلالك، نقوى بك ونكبر معك ولا خوف في وجودك، أنت غدنا الواعد وأملنا المشرق في ظلمة المحن...
 
بفضل دماء
الشهداء والجرحى...
في مسيرة طويلة مشهود لضباطها وعسكرييها بالعطاء والتفاني وتخريج الدفعات الواحدة تلو الأخرى على مر السنين، احتفل معهد الرتباء بتخريج دورة التلامذة الرتباء السادسة والعشرين (دورة الرقيب الشهيد حسن جعفر) التي ضمت 99 متخرّجًا بينهم 28 من الإناث. وقد ترأس اللواء الركن أمين العرم رئيس الأركان ممثلاً قائد الجيش العماد جوزاف عون الاحتفال الذي أُقيم في المعهد، في حضور عدد من الضباط وأهالي المتخرجين.


وألقى اللواء الركن العرم كلمة بالمناسبة أكّد فيها «إن المكانة العليا التي تتميز بها المؤسسة العسكرية بين مختلف مؤسسات الدولة لم تأتِ من عبث أو فراغ، بل هي ثمرة دماء شهدائنا الأبرار وجرحانا البواسل، واعتناقهم أسمى القيم والمبادئ العسكرية والإنسانية» وقال: «بفضل هذه الدماء والتضحيات، استطاع الجيش أن يصون وحدة البلاد في أوج الأحداث الأليمة التي عصفت بها، مشكلاً جسر تواصل بين اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم الفئوية والطائفية والمناطقية، ومرجعية وطنية موثوقة يلوذ بها الجميع عند كلّ منعطف خطير. وبفضلها أيضاً، تمكّن الجيش من درء الأخطار المحدقة بسيادة الوطن وسلامة أرضه وشعبه».


وختم رئيس الأركان مهنئاً المتخرجين، وأثنى على جهود الضباط والعسكريين المدربين في معهد الرتباء. وفي ختام الحفل تمّت إزاحة الستار عن لوحة تذكارية باسم الرقيب الشهيد حسن جعفر، وجرى عرض عسكري شاركت فيه الوحدات المتخرجة.