موضوع الغلاف

«دايمًا بالبال»...
إعداد: ندين البلعة خيرالله

 

هم المتقاعدون الذين أمضوا سنين شبابهم في خدمة وطنهم وجيشهم. قضوا نحو أربعين عامًا في الخدمة قبل أن يفرض بلوغهم السن القانوني تقاعدهم. هي المؤسسة الأم، التي تحتضن أبناءها دائمًا وأبدًا، وتسعى إلى تأمين حاجاتهم طوال سنوات خدمتهم، تُبقيهم في صلب اهتماماتها بعد تقاعدهم، فترافقهم وتوفّر لهم الخدمات، وفي مقدمها الخدمات الصحية من خلال الطبابة العسكرية.

 

الاهتمام الكبير الذي توليه القيادة لشؤون الطبابة، عبّر عنه قائد الجيش العماد جوزاف عون مرارًا وتكرارًا بمبادراتٍ كثيرة. وخلال افتتاحه في أواخر شهر تشرين الثاني الماضي قسم العمليات الجراحية في المستشفى العسكري المركزي، نوّه بـ«التطور المستمر الذي تشهده الطبابة العسكرية التي توفر أفضل الخدمات الطبية لأكثر من ٤٠٠ ألف مواطن بين عسكريين على العاتق ومتقاعدين وعائلاتهم»، مؤكدًا «استمرار الدعم للطبابة والسعي الدائم لتطويرها».

والطبابة العسكرية التي حازت تنويه نائب رئيس مجلس الوزراء وزيرة الدفاع زينة عكر ووزير الصحة العامة الدكتور حمد حسن خلال جولة لهما في تموز الماضي، في أرجاء المستشفى، تعمل بكل قواها لمواكبة التطور والحداثة في مختلف الأقسام، وهذا ما لاحظه بوضوحٍ زائروها في الآونة الأخيرة.

 

زيارة عزيزة

لبّى ضباط متقاعدون من رابطة قدامى القوات المسلّحة، وممثلون عن مختلف الدورات من العام ١٩٦٧ إلى العام ١٩٨٦ دعوة القيادة إلى زيارة الطبابة العسكرية، وهناك تأكدوا مرة جديدة من عمق التزام قيادتهم الوفاء والتقدير لكل من قدّم سنين عمره وضحّى بهنائه وراحته ومصلحته الشخصية، فارتدى البزّة المرقطة هوية ومضى إلى الخدمة.

لقد عرفوا الطبابة العسكرية على امتداد سنوات طويلة، اختبروا خدماتها، أحيانًا كانوا يفرحون بنهضتها وأحيانًا كانت لهم ملاحظات على أدائها. لكنهم في زيارتهم الأخيرة لمسوا التطوّر الذي بلغته والتحسّن الملحوظ في خدماتها، وتأكدوا أنّها تستحق ثقتهم.

«عم بتشهّونا نمرض»! تعليق مضحك ولكنّه أصدق ما يُقال عن الطبابة العسكرية على لسان الضباط الزائرين، بعد جولة قاموا بها برفقة رئيس الطبابة العسكرية العميد الركن جورج يوسف وضباطها، في أرجاء المستشفى العسكري المركزي والأقسام التي تم تحديثها أو استحداثها. جولة أشعرتهم حقًا باهتمام القيادة بهم وبالآراء التي أبدوها سابقًا، وكانت من بين العوامل التي أسهمت في تحسين الكثير من الخدمات.

 

اليوم ليس كما الأمس

بروح الشباب ونشاطه، ساروا على مدى ساعتَين من الوقت، صعدوا الأدراج ودخلوا إلى كل غرفة ومكتب. تلقّوا التحية والتقوا رفاق السلاح، التقطوا الصور ودوّنوا الملاحظات باهتمامٍ كبير، لينقلوا صورة الطبابة العسكرية الحديثة إلى رفاق دورتهم.

وكأنّهم يرون المستشفى العسكري لأول مرة... صورة الطبابة اليوم هي غير ما كانت عليه. صحيح أنّ الطبابة استمرت على مدى سنوات برعاية العسكريين وعائلاتهم ولم تتخلَّ عنهم يومًا رغم تواضع إمكاناتها، لكنها اليوم تشهد نقلة نوعية.

لحظ الزائرون الاهتمام بالطاقم الطبي كما بالمعدات والحجر، نقلة نوعية بالعديد والعتاد على حد سواء. بدأت الجولة في مطبخ الطبابة الذي يهتم بالنظام الغذائي للمرضى، وهو أمر أساسي وضروري لفت الزائرين الذين انتقلوا بعدها إلى قسم أمراض الدم المُرمَّم حديثًا... كانوا يسيرون وعلامات الرضى والإعجاب ظاهرة على وجوههم، يهزّون الرأس ويطرحون الأسئلة الاستيضاحية.

 

Top of the line

كل ذلك كان طبيعيًا إلى حين الوصول إلى قسم العمليات الجراحية المُفتتح حديثًا، الذي أبهر الحضور بحداثته وتقنيات العام ٢٠٢٠ التي جُهّز بها والتي أبت القيادة إلا أن تكون على أعلى المستويات وأكثرها تطورًا في العالم Top of the line. في هذا القسم، شعروا بالأمان والثقة بإجراء أي عملية قد يحتاجون إليها، وخصوصًا في ما يتعلق بالأمراض التي تصيب المتقدمين في السنّ من مشاكل في العظام، والعيون وغيرها،... فقد وجد القيّمون على الطبابة حلًا بديلًا للتخدير العمومي الذي يشكّل خطرًا على الكبار في السن من خلال تخدير الأعصاب الموضعي، وأحضروا أحدث المعدات والتمديدات المخفية، ومنها آلة تصوير الأشعة التي تتحرك عوضًا عن تحريك المريض. كل اللازم للحدّ من خطورة العمل الجراحي وانزعاج المريض.

يعلّق أحدهم: «ليك الفرق، الأمر يستحق الثقة والتقدير!».

ويسأل آخر: «هل ستحضرون الروبوت الطبي؟» فيسارع رئيس الطبابة بالإجابة: «لقد حصلنا على موافقة قائد الجيش على هذا الأمر وسيكون بمتناول اليد قريبًا».

انتقلوا إلى قسم العناية المشدّدة حيث كاميرات المراقبة والفريق الطبي الجاهز ٢٤/٢٤ للتنبّه إلى أي طارئ قد يعانيه المريض. لقد خُصِّص طبيب لكل مريض خلافًا لما هو الأمر عليه في المستشفيات المدنية. مرّوا بقسم الطوارئ حيث قابلوا «مغاوير الطبابة العسكرية» وأثنوا على جهودهم، وقسم الكورونا الذي يشكّل إثباتًا آخر على خطوات الجيش الاستباقية والسباقة في إحضار المعدات المتطورة وخصوصًا آلات التنفّس. إلى قسم غسيل الكِلى وعمليات تفتيت الحصى التي كانت تُحوَّل إلى الخارج، والمبنى الخاص بعيادات العظم (حيث أكبر نسبة من المرضى) الذي حل مكان القسم الصغير في الطرابلسي. «ما في شي من بو قريبو، يعلّق البعض!».

هنا هانغارات وكاراجات كانت موجودة على أيامهم، تحوّلت إلى عيادات وأقسام مرتّبة للاستفادة من المساحات وتوسعة الأمكنة بما يريح المرضى نفسيًا ويزرع في نفوسهم الطمأنينة والثقة ويخفّف من الضغط، ويسرّع الخدمات الطبية نظرًا لزيادة عدد العيادات والأطباء. فلطالما كانت النية في الطبابة العسكرية بتأمين المعاينة وخدمة المستفيدين موجودة، ولكن المشكلة كانت بالنقص في المساحات، ما كان يسبّب الضغط والزحمة التي اعتادها المستفيدون وشكوا منها لسنوات. «هيدا حكي» يقول أحدهم، «شي بيفشّ الخلق وبريّح القلب!».

 

ثقة أكبر

في مبنى الصيدلية القديمة، تعرّف الزائرون إلى call center - جهاز مراقبة الخدمات الطبية، الذي لم يكن معظمهم يعلم باستحداثه. إنّه مركز الاتصالات الأساسي الذي قلّص العمل الورقي ووفّر «الروحات والمَجيات» على المريض، لإتمام العمل الإداري اللازم لدخول المستشفى المدني. بات تنظيم كل المعاملات يتم باتصالٍ واحد، كما أدى هذا الجهاز إلى التوفير في فاتورة الاستشفاء الخارجي من ٢٢ مليارًا إلى حوالى ١٥ مليارًا شهريًا!

محطات عديدة تركت أثرًا إيجابيًا في نفوس الضباط المتقاعدين، الذين كانوا يتهامسون بالتعليقات الإيجابية وردود الفعل التي عكست ارتياحهم لما أصبحت عليه الطبابة اليوم. يقول أحدهم وقد كان رئيسًا للطبابة في الماضي: «لقد مرّت الطبابة العسكرية بمراحل كثيرة، وفي كل مرحلة كانت تُحقَّق الإنجازات، ولكنّنا اليوم لاحظنا قفزة كبيرة جدًا... نحن في الجيش عائلة واحدة في الخدمة وفي التقاعد، والمريض ليس زبونًا بل فردًا من هذه العائلة، لذا فإنّنا نلمس هذا الاهتمام الكبير من قبل فريق العمل، ونكنّ كل التقدير له».

قبل اختتام الجولة، مرّ الزائرون بالقسم الذي يعنيهم مباشرة، وهو مكتب الضباط المتقاعدين الذي اختبر بعضهم مدى فائدته. «فرق كبير بين ما كان من قبل وما أصبح الوضع عليه اليوم»، هذا المكتب سهّل أمور الضباط المرضى المتقاعدين ومن هم على العاتق، باعتراف عدد من الحاضرين. يعاينهم طبيب صحة عامة ويحيلهم إلى الطبيب المختص عند الحاجة، فيرافقهم عنصر من الطبابة مزوّد بطاقةٍ خاصة لتسهيل أمورهم في كل العيادات.

إشادة من أحد الضباط المتقاعدين: «كنّا نخاف من إجراء أي عملية هنا، ونركض إلى المستشفيات المدنية في حين أنّنا بتنا اليوم أفضل من معظم هذه المستشفيات، وهذا ما لمسناه في هذه الجولة. اليوم يهتمون بنا، وغدًا يأتي دور سوانا، إنّها خطوة مهمة سيستفيد الجميع منها عندما يبلغون سنّ التقاعد. صحيح أنّ الواحد منا يمضي ٤٠ عامًا في المؤسسة، و«لكن آخرتنا هنا في الطبابة». معارفنا ورفاق السلاح هنا، وهنا نحظى بالاهتمام المُطلق والتعاطف والاحترام... ندعو الجميع للمجيء والتعرّف عن قرب إلى الطبابة الجديدة الحديثة».

تعليق يتشاركه الجميع: «المستشفى العسكري اليوم يختلف عن الذي كان في أيامنا، والإنجازات هائلة وتشجعنا على المجيء إليه عند الحاجة من دون التفكير بمستشفياتٍ أخرى. كل ذلك يشعرنا بأنّ القيادة تحضننا، فألف تحية وشكر لقائد الجيش العماد جوزاف عون، ولرئاسة الطبابة والعاملين فيها».

 

المحطة الأخيرة

في ختام الجولة أُقيم كوكتيل على شرف الزائرين في مكتب عائلات الشهداء، حيث توجّه العميد الركن يوسف بكلمةٍ للضيوف «أهل البيت» شكرهم فيها على ردود فعلهم الإيجابية التي «تنسينا التعب والجهد الكبيرَين الذي نبذله». وشدّد على اهتمام العماد قائد الجيش بالطبابة العسكرية ودعمه المطلق لها، إضافة إلى اهتمامه الاستثنائي بالضباط المتقاعدين وذوي الشهداء ومصابي الحرب الذين كانوا من ضمن أولوياته، فكانت توجيهاته دائمًا بالمساعدة وعدم التردّد.

كل شيء يتغيّر... السنون والعمر والحياة... ولكن المؤسسة العسكرية هي هي، أمٌّ تحمل همّ أبنائها، وتسعى مهما كانت الظروف، للتخفيف من عبئها عليهم. فلا هم قصّروا في واجبهم الوطني وخدمتهم وتضحياتهم اللامحدودة واللامشروطة، ولا هي تقصّر في وفائها لهم ولتقديماتهم الثمينة منذ لحظة تشرّفهم بالهوية العسكرية وحتى النهاية!