من واقع الحياة

«سيزوبيل» إسم عريق في مجالات الرعاية والخدمة
إعداد: باسكال معوض بو مارون

وبالحب تتّسع الحياة لكل إنسان...


«سيزوبيل» و«أنت أخي» وجهان لعملة «ذهبية» واحدة لا توازي خدماتها أموال العالم، ولا يقاس ما تقدمه من محبة وعناية بمكيال أرضي فانٍ...
مؤسسة هي من الأوائل في رعاية المعوّق بغض النظر عن انتمائه الديني أو السياسي أو العرقي أو المناطقي أو مستواه الإجتماعي، لأنها تنظر إلى الإنسان وترى فيه قلبًا نابضًا وجسمًا مكبّلًا لا يستطيع تلبية طموحات هذا القلب الكبير، فتصل إلى أعماقه وتنتشله لتساعده في «الوقوف على قدميه»، فالحب أقوى من كل شيء!

 

البدايات
بدأت الحكاية مع إيفون شامي الممرضة والمساعدة الاجتماعية، والقابلة القانونية التي أسست مع بداية الحرب اللبنانية العام 1975 مؤسسة «سيزوبيل» لمتابعة حياة الأطفال المصابين بإعاقة منذ الولادة، والسماح لهم بعيش حياة كريمة ليصبحوا بدورهم شهودًا يحملون رسالة للآخرين.
اعتمدت المؤسسة المقاربة الشاملة لمرافقة الطفل المصاب بإعاقة على جميع الصعد المتعلّقة بحياته واهتمت بالتدخّل المبكر (stimulation précoce) والتربية المختصّة، إما في البيت قبل أن تبدأ الحضانة وإما من خلال دمجه ومتابعته في المدارس العادية وفق قدرته وحاجته.
عملت المؤسسة بدايةً على عدة محاور أوّلها مساندة الطفل المصاب بإعاقة ليعيش حياة كريمة بفرح ورجاء، على الرغم من الصعوبات التي تعترض طريقه. أما المحور الثاني فيبدأ بمتابعة العائلة ومساندتها لتقبّل الإعاقة وتبسيط مفاعيلها مع مساعدتها في المركز وتجهيز منزلها. وعملت أيضًا على توعية المجتمع للاعتراف بقيمة الطفل المصاب بإعاقة وحقّه بحياة لائقة مهما كانت إعاقته.
تتميّز «سيزوبيل» بشمولية خدماتها، وتقول مديرتها العامة السيدة فاديا صافي: «نحن نهتم بالمعوّق من الناحية الطبيّة التأهيلية التعليميّة والتنشئة الوجودية التي تشمل تقبّل الإعاقة وتبادل خبرات الحياة وتجاربها مع توفير أجوبة على جميع التساؤلات. كما نولي اهتمامًا خاصًا للناحية التشغيليّة والإجتماعيّة ومحيط المعيشة، ونُعنى بتأهيل منازل الأولاد بهدف تطوير طاقاتهم وتأمين الوسائل اللازمة لتسهيل الأعمال اليومية لمساعدتهم للوصول الى أقصى درجة من الاستقلالية الممكنة، مع تأمين الخدمات الطبيّة لهم في بيوتهم في الوقت الملائم لتجنّب مضاعفات الإعاقة. كذلك نركّز على المتابعة النفسية ومساندة الأهل بهدف تقبّل واقع الإعاقة والتعايش معه، ونحضّر الإخوة والأخوات عمليًا ونفسيًا ومعنويًا للإهتمام بإخوتهم المعوقين بوجود الأهل أو عند غيابهم، واستعادة التوازن المفقود واكتشاف فن العيش بتكامل، كلّ بحسب طاقاته، لأن العائلة هي في صلب عملنا ودعمها ومتابعتها أولوية لدينا وذلك للمحافظة على وحدتها».

 

خدمات متخصصة
في ما خصّ البرنامج اليومي في المؤسسة والمشاركين فيه قالت السيدة صافي: «يتمّ التعامل يوميًا مع حوالى 515 ولدًا وشابًا يتلقّون العلاجات المناسبة، مع تأمين الكراسي الخاصّة بهم من خلال برامج أساسها خبرات المهنيين والمتخصصين والباحثين في مجالات الإعاقة، وبمساعدة أطباء اختصاصيين يقدمون خدماتهم دوريًا وبشكل مجاني، ومعالجين متخصصين في مجالات التأهيل، وهكذا استطاعت المؤسسة تأمين الخدمات المتخصصّة (الطبية، النفسية، الإنشغالية، الفيزيائية، وتقويم الأعضاء) حيث يحيط بالأولاد فريق دائم من عدة اختصاصات تشمل عاملات إجتماعيات إلى مربّين واختصاصيين في العناية».
وأضافت: «تطوّر المؤسسة بشكل متواصل برامج متخصصة للمصابين بالإعاقات العقلية والجسدية وبمرض التوحّد حيث يراعى تطور كل منهم وحاجاته وتطلعاته. وقد باشرنا ببرنامج التأهيل المهني أو المساعدة من خلال العمل، فطورت المشاغل المحميّة إذ يتدرّب الشباب في مشاغل صناعة الشوكولا، والخياطة، والتصوير التخطيطي، والتحضير للطباعة، والزراعة، وصناعة المونة اللبنانية، والغسيل، إلى العمل في عرض منتجات المؤسسة وبيعها، والكافيتريا، وصناعة المسابح. وهنالك أمهات يعملن في مشاغلنا لمساعدة العائلة في الحياة المعيشية الصعبة، كما ونخضع الراغبات منهن بالعمل في المنزل لدورات تدريب مهني في فن الماكياج أو الخياطة أو الكومبيوتر».


أيادٍ خيّرة
عن كيفية تأمين المصاريف الضخمة للمؤسسة، أوضحت صافي أنه «بالإضافة إلى مصادر التمويل من هبات وبرامج التبنّي الأجنبية والمحلية، تسهم وزارة الشؤون الإجتماعية والجيش اللبناني في دعم المؤسسة ماديًا؛ كما يساعد بعض العائلات الميسورة والأهالي كلٌ على قدر استطاعته. وبدورنا أمّنا مصادر تمويل ذاتية كصناعة الشوكولا، والبياضات المنزلية وبطاقات المعايدة والمعارض الحرفية خلال فترة الأعياد، وعائدات تشغيل مختبر تحليل المشي والحركة والنشاطات المنظّمة سنويًا».
وفي الآونة الأخيرة، قدّمت «سيزوبيل» منتجًا جديدًا «جي الأرض الأم» (Gê The Mother Land وهو إسم آلهة فينيقيّة هي رمز الأرض والأمومة)، يضمّ أصنافًا متنوعة من المونة اللبنانية المحضّرة على الطريقة التقليدية من دون أي مواد حافظة وبجودة عالية.
وأشارت السيدة صافي إلى أنه و«إضافة إلى المركز الأساسي في عين الريحانة حيث البرامج التربوية والمتابعة الإجتماعية والطبيّة والتأهيل ومراكز المساعدة بالعمل ومشاغل الإنتاج، هنالك مركز مساعدة من خلال العمل لإنتاج المونة اللبنانية في كفرحونة - قضاء جزّين. وبعد إنشاء مركز استقبال، أقيم لأول مرة برنامج دمج مدرسي في المدرسة الرسمية الإبتدائية في البلدة بمساعدة وزارة التربية، حيث تمّ افتتاح أربعة صفوف يتلقّى فيها التلاميذ ذوو الحاجات الخاصة دروس المنهج المدرسي ضمن برنامج خاص بهم، ليلتحقوا بعدها برفاقهم في الصفوف العاديّة فيكملوا دراستهم في دمج كلي مع محيطهم.
والجدير بالذكر أن بلديات المنطقة وأهاليها يهتمون بتمويل هذ المشروع، إضافة إلى أنّهم يهتمون أيضًا بتأمين المونة اللبنانية من أرضهم وبيعها تحت رعاية مؤسستنا لتأمين مصادر تمويل إضافية».

 

مركز لمرضى التوحّد
ما هو جديد المؤسسة لناحية المصابين بالتوحّد؟
عن هذا السؤال تجيب صافي بالقول: «لقد بدأت المؤسسة العمل مع الأولاد المصابين بمرض التوحّد منذ العام ١٩٩٠، فوضعت برنامجًا خاصًا بهم وأنشأت مركز استقبال نهارًا ركيزته خبرة فريق العمل في المجال وخبرات كل الإختصاصيين من داخل لبنان وخارجه. يعمل البرنامج اليوم مع حوالى 40 ولدًا وشابًا يتابعون برنامجًا تربويًا وتأهيليًا متخصصًا قوامه كل المعايير والأسس التربوية المتبعة عالميًا حسب حاجة كل ولد.
وحديثًا وضمن البرنامج الخاص بهم قمنا بمشروع جديد لتعويدهم على الإستقلالية حيث تتمّ استضافتهم لمدة 3 أيام متتالية لتمضية النهار والنوم في غرفٍ خاصّة داخل المؤسسة بهدف جعلهم يتأقلمون مع محيط غريب عنهم. وقد لاقى هذا البرنامج منذ بدايته تجاوبًا كبيرًا من قبل الأهل والأولاد جعلنا نفكر بتأسيس مركز استقبال دائم يتم التخطيط لبنائه عندما تتوافر الاعتمادات لذلك، خصوصًا بعد أن قدّمت لنا البطريركية المارونية قطعة أرض لتنفيذه في المنطقة».

 

خطوات متقدّمة
«استطعنا في الفترة الأخيرة القيام بخطوات إلى الأمام، توضح السيدة صافي، فقد حضّرنا 5 تلامذة من أولادنا وبمساعدة أساتذتهم والمشرفين عليهم للتقدّم لامتحان شهادة البريفيه بعد اتصالات أجريت مع وزارة التربية لهذه الغاية.
كذلك أطلقنا حملة بعنوان «أطفال يدافعون عن حقوق الطفل» بدعم من الوكالة الاميركية للتنمية الدولية، ومشاركة «ألفا» والمنظمة الأسوجية لرعاية الاطفال - مكتب لبنان، الغاية منها اطلاع أولاد المؤسسة وتلامذة بعض المدارس على حقوقهم بحسب شرعة حقوق الطفل التي أقرّت في الأمم المتحدة، وتنظيم حملة ضغط على المواقع الإجتماعية والسياسية المؤثرة لتحقيق المطالب المتعلّقة بهذه الحقوق. ويندرج المشروع في اطار حملة تعزيز مفهوم الدمج في المدارس الرسمية والخاصة، بعدما بات حاجة ملحة لتكامل مجتمعنا ورفض أي من انواع التمييز بين أبنائه.
وفي هذا الإطار أيضًا، وعد وزير الشؤون الاجتماعية وائل بو فاعور بإصدار بطاقات خاصة تؤمن لأولادنا في المؤسسة والمعوقين وكل ذوي الحاجات الخاصة، دخولاً مجانيًا إلى المراكز السياحية والأثرية والنشاطات الثقافية على أنواعها».
وختمت السيدة صافي حديثها بالقول: «إن مؤسسة السيزوبيل تسعى دومًا لتأمين الأفضل لأولادها، فالإعاقة ليست سببًا للتقوقع والإنزواء، بل نحن نعمل على المجتمع بأكمله ليرى في الإعاقة وجهًا من وجوه الحياة. فالأهم هو التعرّف إلى قيمة الفرد كإنسان بغضّ النظر عن إعاقته، فيتمكن من أن يصبح شاهدًا لقضيته في المجتمع.
 نحن نعمل بشكل دائم على تطوير برامجنا وتحسينها بشكل يتناسب مع متطلبات أولادنا وتطلّعاتهم وأحلامهم، ونسعى دومًا لإيجاد حلول لمشاكلهم والصعوبات التي تعترض تقدّمهم في الحياة».

 

الحياة حلوة
في جولة لنا شملت أقسام المؤسسة, لمسنا مدى الإحاطة والعناية والفرح الذي يعمّ المكان حيث يعمل الإختصاصيون مع التلامذة في المناهج المدرسية, أو على تحفيز قدراتهم الجسدية والعقلية بواسطة الآلات الخاصة والكومبيوترات المجهّزة خصيصًا لتلبية حاجاتهم.
هناك التقينا إيلي وريتا وكلير الذين استقبلونا بابتسامة عريضة وشرحوا لنا «أن الإختلاف في الحياة غنىً والتكامل مطلوب في المجتمع لأنّ لكل إنسان دوره الخاص مهما كانت قدراته».
وأضافوا: «لقد تقبّلنا إعاقتنا واكتشفنا دورنا، إلاّ أن المشكلة تكمن في نظرة المجتمع إلينا، فالإعاقة لا تلغي الناحية الإنسانية. المهم أن نلقي الضوء على أن كل إنسان مهما كانت ظروفه ينبغي أن يعيش الفرح والسلام مع نفسه والآخرين. وصلنا إلى مكان متقدّم إلاّ أن الطريق لم تكن سهلة مع أنفسنا أو مع الآخرين لكننا اليوم تخطينا الواقع ونبحث كالجميع عن الفرح الذي نعمل على أساسه، ووجدناه بعد أن اختبرنا صعوبات جمّة... الحياة حلوة مهما كانت».

تصوير:
المعاون الأول شربل زغيب