كلمتي

«سَلْ دماء الشهداء»
إعداد: العميد الركن صالح حاج سليمان
مدير التوجيه

لم يكن الاستقلال إلاّ زرعاً مباركاً في تاريخ الشعوب، يرويه العرق والدماء، وتحميه السواعد متضامنة متضافرة في هناءته وفي أيامه الصعبة على السّواء. وشعب لبنان كان بين تلك الشعوب، لا بل في طليعتها، ساعياً الى الحرية في كل ظرف وأوان، تدعوه الى ذلك، وتلحّ عليه، الميزتان الطبيعيتان فيه: صلابة الصخر ووعورة الجبال الصاعدة دوماً الى العلى، وثبات الشاطئ وانفتاحه على الأزرق الأبدي المتمادي في أصقاع الدنيا في لعبة الخشب وتلاطم الأمواج.
وكانت المحطات الكبرى في الاستقلال اللبناني الحديث: مواجهته لأعواد مشانق الاستعمار العثماني سنة 1916، ورفضه للانتداب الفرنسي سنة 1943، واستبساله في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي وفي دحره سنة 2000. وكانت المحطة الوســــطى (1943)، هي المصيرية في تثبيت الكيان السياسي، وطناً سيداً، لجميع أبنائه، مثالاً في الديموقراطية، مؤسساً في الجامعة العربية، متفاعلاً مع قضايا أمته، متضامناً مع أبنائها، وعضواً فاعلاً في المنظمات الدولية، منادياً بحق الشـــعوب في الحرية والاستقلال، ومؤكداً على ان ذلك إنما ينطلق من تحديد حقوق الإنسان وواجباته، تجاه أخيه الفرد، وبالتالي تجاه مجتمعــه ووطنــه وباقــي الأوطــان، من هنا الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان.
وكان لبنان في كل ذلك مثالاً في التنوع، منفتحاً على الأديان والمعتقدات والحضارات، غنياً بالعادات والتقاليد، حريصاً على التمسك بالمبادئ السامية والفضائل الحميدة، محتضناً أفكار محيطه العربي وتطلعات كتّابه ومفكّريه قولاً وكتابةً ونشراً وتعميماً، متلقفاً للثقافات العالمية المتنورة، من هنا الخطر الكبير الذي داهمه به الكيان الصهيوني العنصري الطارئ غداة إنشاء الدولة المغتصبة في فلسطين سنة 1948، بسبب التناقض الواضح بين الكيانين، وكان ما كان من اعتداءات إسرائيلية واجتياحات وتأجيج فتن داخلية، الى أن كانت المواجهة الصلبة في السنوات الأخيرة من القرن الماضي، التي انتهت بالتحرير الكبير، فأضيفت بذلك صفحة جديدة الى تاريخنا المجيد، وزيّن صخور نهر الكلب توثيق باهر يؤكّد للأجيال حجم التضحيات التي قدّمها شهداؤنا مسترخصين الموت في سبيل الدفاع عن تراب الوطن.
إنّ وطناً هذا شعبه لن يموت، وإن شعباً هذا وطنه لن يبخل بأي غالٍ من أجله، وإن أرضاً هذا جيشها وهؤلاء أبناؤها لن تطول مآسيها، وستصدق فيها الأمنيات.