وجهة نظر

«فائض القوّة» ليس البديل عن «فائض الحوار»
إعداد: جورج علم

بقي الحوار على قارعة الطريق، خارج معاهد «التأهيل»، لأنّ الحاضنة منهمكة بتهذيب المشاغبين. لقد تعبت الشوارع والساحات، وتلبّدت الأجواء من ضجيج المطالب، وصرخات الوجع. وتَلوّن العنف اللفظي بلون الأحمر القاني من جراء رمية حجر، أو ضربة آلة حادة، وبارت مواسم التلاقي، وتراجعت محاصيلها في ساحات الحرية المسؤولة؛ ربما بلعها غول الفساد الآتي من غياهب الظلامية المتدثّرة بغلالة التعددية والتنوّع الثقافي!


ساحاتنا مرآة مجتمعاتنا. ساحة القرية هي امتداد لحنين الماضي، وحكايا الأمجاد، وطاولات الطرنيب، والنرد، ولفائف خبز التنور، والمناقيش بزعتر، وغوى التنانير المتراقصة أمام النظرات المختلسة المشرقطة ببريق الحبّ والإعجاب. ساحة المدينة عنوان الحضارة، والتقدّم، والتطور، إنّها الشاهد على المستوى الذي بلغته المدنية المعاصرة في السلوك، والإبداع، والرقي في معارج الاستقرار والازدهار، إلاّ أنّ ساحاتنا على امتداد هذا الشرق المضطرب لم تعد – بمعظمها – كذلك، إنّها مرآة الحزن، والخيبة، والإحباط. إنّها مسرح واسع للثورات والانتفاضات، ومرتع للفوضى العارمة، وحضن للخيبات والمآسي. وحده الحوار اليتيم المشرّد الهائم على وجهه في شوارع الفراغ لا معيل له، ولا أم تذرف عليه دمعة الحزن والحسرة.


مسقط الانفتاح والحوار
كانت مسقط، عاصمة سلطنة عمان، الساحة العربية المكتنزة بصالونات التلاقي، المنفتحة على الجميع، الهادئة الآمنة المستقرة، كاتمة الأسرار، وحافظة الأخبار، تؤدي أدوارًا مختلفة في المنظومة الدولية، لا صداقة مفرطة، ولا عداوة مطلقة، تعرف حدود واجباتها والتزاماتها على ضفاف خليج هادر.
على مدى خمسين عامًا تمكّن السلطان قابوس من أن يرسي مداميك الاستقرار والازدهار، ويفتح الأبواب وسيعة أمام الأقربين والأبعدين لفضّ خلافاتهم، ومعالجة شؤونهم وقضاياهم عن طريق التخاطب، والتشاور بعيدًا من الكاميرات الفاضحة، والأضواء الكاشفة. ليس اللؤلؤ وحده مفخرة التضاريس الصخرية المروّسة في الخلجان الثلاثة، بحر العرب، وبحر عمان، والخليج العربي، بل هناك التبر الوهّاج الصافي الذي يقدمه المحيط العماني إلى محترفي المعادن الثمينة، والجواهر النادرة، لصياغة قلاّدة الحوار المنتج، والتي تتدلى على صدور الكثير من زعماء العالم روّاد السلام والاستقرار.
عندما نشرت شمس المغيب تِبرها على الأفق العماني، انهالت برقيات التعزية، وتقاطرت الوفود الرسمية من كل حدب وصوب إكرامًا لرجل فرض احترامه خلال مسيرة حافلة بالإنجازات امتدت سحابة ٥٠ عامًا متنقلًا بين العواصف الإقليمية، والأعاصير الدولية مبحرًا بسفينته إلى شاطئ الأمان والاستقرار. جاءه الأميركي طالبًا النصيحة والمشورة بعد خروج الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي، وكانت له الكلمة المأثورة «فائض القوة ليس البديل عن فائض الحوار». زاره تباعًا وزراء سابقون وحاليون من ريكس نيلرسون، إلى جيمس ماتيس، ومن مايك بومبيو إلى مارك إسبر، إلاّ أنّ مقاربته لم تتغيّر «تدوير الزوايا الحادة ممكن، وباب الصالون مفتوح، ولا بدّ من ولوجه للوصول إلى تفاهمات، لأنّ الأثمان مهما كانت باهظة تبقى أقل كلفة من الخيارات الأخرى المشحونة بالغضب والانفعال».
عندما ذهب الرئيس ترامب بعيدًا في معاركه الاقتصادية مع الصين، وأرسل بوارجه إلى البحر الأصفر في استعراض قوة للترهيب والترغيب، تذكّر النصيحة السلطانية: «فائض القوة ليس بديلًا عن فائض الحوار»، فاقتنع بفتح الحوار.دخل الجميع إلى القاعة، وتحلّقوا حول الطاولة، ووقّعوا ما يكفي من الاتفاقيات والمعاهدات التي تحفظ حقوق الجميع، وتحافظ على مقتضيات الاستقرار والازدهار.
ولم تذهب بريطانيا العظمى إلى الـ«بريكست» بأساطيل تشرشل، ونسور الملكة اليزابيت، بل بالحوار والإقناع.


ماذا عن لبنان؟
لكن ماذا عن لبنان؟ لبنان التاريخ، والموقع، والفرادة النموذج العصيّ. قالت عنه الجامعة العربية إنّه حديقة العرب، ومصيفهم، ومنتجعهم، وجامعتهم، ومستشفاهم، ومآل حريتهم. وقال عنه الغرب إنّه جسر العبور إلى الشرق، والبوابة المفتوحة أمام الجميع، والمنفتحة على الجميع. وقالت عنه الأمم المتحدة إنّه أرض الحوار، ومنحته صك براءة، وأفردت له، في الآونة الأخيرة، علمًا وخبرًا، كي يكون أرض التلاقي والانفتاح بين الأديان والحضارات والثقافات. ورأت أن تكون هناك مؤسسة، ومدرسة، وجامعة، وهيكلية إدارية وتنظيمية، ومؤسسات تتسع لمختلف النشاطات الفكرية والثقافية التي تحوّل «الوطن الرسالة» إلى واحة حرية، ومختبرًا حيويًا ناشطًا لنشر الثقافة الإنسانية في رياح الأرض الأربع كبديل عن الهمجية الحديثة التي تغزو عالم اليوم، وتنشر ثقافتها المدمّرة تحت عناوين كثيرة مقلقة. من الإرهاب بفنونه وتنظيماته وكوادره ومصطلحاته شتى، والفاشيّة الجديدة بقبضاتها وشعاراتها، إلى العنصرية التي تقوّض تماسك المجتمعات بحججها ونظرياتها، الانعزالية المتلبّسة بالقومية المتشددة ضد الآخر، حتى ولو كان عنصرًا منتجًا في المجتمع.
إلاّ أنّ البوتقة الإنسانية بتجلياتها الحضارية قد كشفت نواقص ومنغّصات، فالمخزون الفكري والثقافي والحضاري الذي يميّز لبنان، ويخصّه بعلامات فارقة في التنوع والإبداع، اصطدم ويصطدم بحقائق مدمّرة، منها على سبيل المثال لا الحصر غياب المناعة الداخلية الصلبة أمام السلوكيات العشوائية، والتي تنطلق من خلفيات فئوية لخدمة أنانيات ومصالح فردية على حساب المصلحة العامة، ثم غياب المعطف الوطني الجامع الذي توفّره الدولة القوية القادرة والعادلة والمبدعة، والتي ظلت في كلّ العهود، وعلى مدى عقود الاستقلال رهينة التسويات، والمحاصصات، وبشكل نافر، ومغاير لمنطق الدستور، والقوانين المرعيّة الإجراء التي تنظم شؤون المواطنين. وقد أدى هذا الخلل الفظيع إلى غياب المراقبة والمحاسبة، وإن وُجدت، تصطدم بالشعبويات المذهبية والطائفية، والدليل أنّه من سابع المستحيلات أن يتقدم أي نافذ سابق، أو حاضر، إلى قوس العدالة للمرافعة عن تهمة، لأنّ «الشعبوية المستنفرة مذهبيًا» بالمرصاد، وهي على أتم الجهوزية للدفاع عن الشرف الرفيع!


انفصام مريع
ولعلّ الانفصام في الشخصية المجتمعية له الأثر الأكبر على الانحدار المريع في الأخلاقيات، والممارسات، والمعالجات، والدليل أنّ الساحات تضجّ بانتقاد الطبقة السياسية بغالبية رموزها، ووجوهها، وتطالب بالتغيير، وترفع الشعارات البرّاقة، لكن عند الامتحان تعيد العصبية الفئوية، والطائفية، والمذهبية الثقة بالوجوه والرموز نفسها، من خلال صندوقة الاقتراع. وهذا ما يشير إلى خواء رهيب بين القول والفعل، وبين الشعارات الصادقة، والممارسات الخاطئة التي تجعل التغيير الجذري المطلوب من سابع المستحيلات. وتكشف الحقيقة الساطعة أنّ الوطن الذي يراد له أن يكون وطن رسالة حوارية حضارية منفتحة على الآخر - أي آخر - بثقافاته، ومعتقداته، وقيمه، وأخلاقياته، ليس هو المتجر، أو «سوبرماركت الفوضى»، التي تنشط فيها التجارة بكامل أصنافها، وأوصافها، وفنونها. وهذا ما دفع بالمجتمع الدولي، من الأمم المتحدة، إلى المجموعة الدولية لدعم لبنان، والمؤتمر الدولي في باريس (الذي استضافه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون) والاتحاد الأوروبي، والجامعة العربية (التي أرسلت من يمثلها إلى بيروت للاستطلاع)، إلى الالتقاء على كلمة سواء: أنقذوا السفينة قبل أن يخطفها الغرق. سارعوا إلى دعم المرتكزات قبل أن ينهار السقف على الجميع. شكّلوا فريق عمل وزاري يحظى بثقة المجتمع الدولي كي يبادر الأخير إلى المساعدة في ورشة الإنقاذ. التطاول المتمادي على القانون والدستور، والتحايل والتذاكي، وممارسة الفساد بكل فنونه وأوصافه، لا يؤدي إلى استعادة وطن.
وبين لبنان المؤهل كساحة للحوار، بحكم موقعه الجغرافي، وطبيعته المعتدلة، وتركيبته المجتمعية التعـددية، وانفتاحه، وثقافته المتنوعة، وتاريخه، وماضيـه الحضاري، وبين سلطنة عمان التي تلعب الدور، وتجيد ببراعة اقتصاد المؤتمرات، فرق شاسع. هناك دولة، وهيبة سلطة، وقانون، ومحاسبة، ومراقبة، وساحة هادئة آمنة منفتحة بقيود صارمة، وهنا؟!... كان الله بعون لبنان واللبنانيين الذين يستحقون وطنًا لا مزرعة.