الجيش والمجتمع

«فرصة» يستحقها شبابنا
إعداد: ريما سليم

لم يكن ذلك اليوم عاديًا في حياة سامر. الشاب العشريني الذي شاهد عبر شاشة إحدى المحطات التلفزيونية خبر افتتاح مركز «فرصة» لإعادة تأهيل المدمنين على المخدرات. شعر بشيءٍ يتحرك في أعماقه، سمع صوتًا يعلن له أنّ النجاة ممكنة، وأنّ ثمة أيادٍ ستكون ممدودة للمساعدة. ككثيرين من أبناء جيله وقع في دوامة المخدرات، في أعماقه صراع بين الرغبة في الخلاص، وبين الاستسلام لما هو فيه والاعتقاد بأنّ الخروج من النفق بات مستحيلًا. 

 

سامر اليوم كما آخرين بات أمام استحقاق مهم، فإلى أي خيار سيتجه؟ كان كلما كلّمته والدته عن العلاج يسألها كيف السبيل إلى ذلك؟ ما أنفقته على المادة اللعينة التي تريحني قليلًا لا يغدو كونه جزءًا بسيطًا من كلفة علاج قد يطول. من جهتها، تخبرنا والدته بأنّها تأمل أن يتخذ القرار الصحيح. في أعماقها تدرك بأنّ ابنها إنسان يستحق حياة كريمة ومستقبلًا، وهي مصممة على الوقوف إلى جانبه ودعمه ليتخلّص من إدمانه ويعود ذاك الشاب الممتلىء حيوية وأملًا. أما هو فيخبأ وجهه بيديه ويقول: «إن شاء الله خير». لكن ماذا عن «فرصة»؟

لأنّ كل فرد يستحق فرصة ثانية لمحو أخطاء الماضي والانطلاق من جديد، كان مشروع «فرصة» الذي تكاتفت من خلاله جهود مديرية التعاون العسكري-المدني في الجيش اللبناني (CIMIC)، والمملكة الهولندية، لإنشاء مركز إعادة تأهيل المدمنين على المخدرات، في مركز طرابلس الصحي الاجتماعي، دوار نهر أبو علي، التبانة في طرابلس. وهو الأول من نوعه في منطقة الشمال. 

المركز هو الأول من نوعه في منطقة الشمال، وهو خطوة متقدمة في سياق الجهود التي يقوم بها الجيش لمحاربة آفة المخدرات ومنع تفاقمها، سواء أكان على المستوى الأمني من خلال ملاحقة التجار والمروّجين وتوقيفهم وإحالة المتعاطين إلى المراكز المختصة، أو على مستوى التوعية الإعلامية، وذلك بحسب ما أكد مسيّر أعمال مديرية التعاون العسكري-المدني في الجيش اللبناني العقيد الركن إياد العلم الذي مثّل قائد الجيش العماد جوزاف عون، في حفل افتتاح المركز في ختام شهر كانون الثاني. 

يعكس المركز المذكور الشراكة الحقيقية بين جمعيتَين غير حكوميتَين من طائفتَين مختلفتَين من جهة وبين الجيش اللبناني من جهة أخرى، ما يعبّر عن وحدة وطنية جامعة، تهدف أولًا إلى تقديم الخدمات الطبية للمجتمع بشكلٍ أفضل، وتعمل في موازاة ذلك على تفعيل الترابط الاجتماعي وتعزيز التعايش المشترك ضمن مختلف فئات المجتمع. كما أنّه يشكّل تجسيدًا للدعم الدولي وتحديدًا الهولندي الذي تلقاه جهود مديرية التعاون العسكري –المدني. 

والمركز هو «فرصة» أيضًا لإعادة دمج المدمنين كأفرادٍ منتجين في المجتمع، من خلال تقديم الرعاية الصحية اللازمة لهم، وهذا ما لا يتيسر لمعظمهم في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، إذ باتت كلفة العلاج مرتفعة جدًا، ومن الصعب تأمينها. 

 

مشهد وطني جامع

استهل العقيد الركن العلم كلمته مؤكدًا أنّ للقاء اليوم في هذا المشهد الوطني الجامع بمناسبة إنجاز مركز «إعادة تأهيل المدمنين على المخدرات» في مركز طرابلس الصحي الاجتماعي مجموعة من المضامين السامية التي تصب في خدمة وطننا ومجتمعنا، أوّلها توحيد الجهود الرامية إلى محاربة آفة المخدرات وإبعاد خطرها المدمّر عن شبابنا وعائلاتنا، وثانيها تأكيد مساعي قيادة الجيش المتواصلة عن طريق مديرية التعاون العسكري-المدني في الجيش للوقوف إلى جانب أهلنا اللبنانيين، وبخاصةٍ في هذه المنطقة العزيزة، وتنفيذ مشاريع إنمائية مختلفة لتحسين نوعية حياتهم في ظل الأزمة الحادة التي تعصف ببلدنا.

وأشار إلى أنّ لظاهرة انتشار المخدرات أضرار شديدة الخطورة على الإنسان والمجتمع، إذ تطال القدرات الذهنية والجسدية والمكانة الاجتماعية للمدمنين. ومِن أخطر جوانبها أنّها تستهدف الشباب على وجه التحديد، فهُم ركيزة المجتمع وطاقته الحيوية ومصدر قوته، ما قد يحوّل مناطق بأكملها إلى أحزمة بؤس ومراتع للجريمة، فضلًا عن التبعات الصحية والنفسية والقانونية التي يتحمّلها كل من يُبتلى بهذه الآفة المميتة.

 

المساران الأمني والعلاجي

وأضاف مؤكدًا أنّ المؤسسة العسكرية وضعت في طليعة أهدافها مكافحة انتشار المواد المخدرة بمختلف أنواعها، سواء أكان على المستوى الأمني من خلال ملاحقة التجار والمروّجين وتوقيفهم وإحالة المتعاطين إلى المراكز المختصة، أو على مستوى التوعية الإعلامية، وذلك انطلاقًا من واجبها الوطني في الدفاع عن لبنان وأهله ضد جميع الأخطار مهما كانت التضحيات والصعوبات. وأوضح أنّ «افتتاحنا لمركز إعادة تأهيل المدمنين على المخدرات خطوة أساسية في هذا الاتجاه، نواكب من خلالها المسار الأمني بمسارٍ موازٍ لاحتضان المدمنين والأخذ بيدهم للخروج من نفق المخدرات المظلم، كي يصبحوا أعضاء منتجين في مجتمعهم».

وختم شاكرًا المملكة الهولندية بشخص سفيرها السيد Hans Peter Van Der Woude وفريق عمله، وجمعيّتَي المنهج وأم النور على المساهمة الفاعلة في إنجاز المشروع.

 

الشراكة الفاعلة في كنف الجيش

تستدعي آفة المخدرات الاستنفار على جميع المستويات، وهذا ماشددت عليه المديرة التنفيذية لجمعية منهج الخيرية بشرى حجازي التي قالت: «واجبنا جميعًا بشكلٍ أو بآخراحتواء المدمن وتأمين علاجه الكامل وصولًا إلى متابعته وضمان إعادة دمجه كفردٍ منتج في المجتمع».

وإذ لفت رئيس بلدية طرابلس أحمد قمر الدين إلى أنّ الأرقام المتعلقة بآفة المخدرات وصلت الى حجم مخيف، 

وأكد أنّ اختيار مركز طرابلس الصحي الاجتماعي في باب التبانة، هو دليل على حرص قيادة الجيش على أمن أهلنا في طرابلس والشمال وسلامتهم، جازمًا أنه سيخفف من المعاناة ويساعد على الحد من الإدمان. 

وكانت كلمة لمركز جنیف لحوكمة قطاع الأمن (DCAF)، ألقاها رئیس مكتب لبنان آدم ستیب ريكوفسكي، الذي أمل في أن یساهم هذا المركز التأهیلي الأول من نوعه في المنطقة، في تخفیض نسبة الإدمان على المخدرات ما يساهم في تراجع معدل الأعمال الإجرامية والحرمان الاجتماعي والاقتصادي وأي عمل خطیر ناجم عنها.

وأعرب مؤسس تجمّع أم النور المطران غي بولس نجيم عن فرحه للتعاضد بين التجمّع وجمعیة المنهج الخیریّة كمنظمتَين مدنيتَين من جهة، والجیش اللبناني كجهةٍ رسمية من الجهة الأُخرى. كما عبّر باسم الجمعية والتجمع والشعب اللبناني، عن تقديرهم لحكمة قائد الجيش وصموده في المحافظة عليه واحدًا. ورأى في دعم الجيش المالي وسهره التقني اليومي على حسن ترميم مبنى المركز خير تثمين لمشروع «فرصة» الهادف إلى مساندة طالبي التحرر من وطأة المخدرات الخانقة، مشيرًا إلى أنّ أهم ما في المشروع، هو أنّه مشترك بين مؤسستَين، إحداهما إسلامية، والثانية من وحي مسيحي.

من جهته أكد مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد إمام أنّ الجيش هو قوة الوطن العامرة بأداء الواجب، المفعمة بقيم التوازن، المتشبّعة بروح التضحية، وهو فوق ذلك -كما نشهد اليوم- القبضة الحانية واليد الواعية والهمة الساعية إلى خير المواطن وبلسمة أوجاعه وحلّ أزماته. كما أكد ضرورة التكاتف للتصدي لمشكلة المخدرات ومكافحتها بكل الوسائل معتبرًا أنّ جمعية المنهج الخيرية وتجمّع أم النور «قدّما أمثولة وطنية في الشراكة الفاعلة، سنشهد ثمراتها الطيبة ابتداء من افتتاح هذا المركز في منطقتنا العزيزة». 

 

الدعم الهولندي يتجدد

بدوره، أوضح السفير الهولندي Hans Peter Van Der Woude أنّه على الرغم من التحديات العديدة التي يواجهها لبنان، وبخاصةٍ الأزمة الاقتصادية والفقر وحالات العنف والبطالة، لا يمكن التغاضي عن أهمية علاج الأشخاص الذين يعانون الإدمان على المخدرات، مشيدًا في هذا الإطار بمشروع «فرصة». وإذ أكد دعم المملكة الهولندية لمديرية التعاون العسكري-المدني، فقد أعلن أنّ «شراكتنا مستمرة لغاية هذا اليوم، وأنا سعيد بإعلان تجديد المملكة الهولندية دعمها لمديرية التعاون العسكري-المدني للسنوات الثلاث المقبلة». وأضاف: «تؤمن المملكة الهولندية بقدرة المديرية على تعزيز الاستقرار على المستوى المحلي، ومن خلال التفاعل مع المجتمع والتنسيق مع الوزارات المعنية يمكن للمديرية تفعيل الترابط الاجتماعي عبر تفعيل الثقة بين الجيش والمجتمع المحلي، الأمر الذي يساعد الجيش على الاضطلاع بدوره الجوهري في تأمين سلامة لبنان وتعزيز استقراره». وإذ شكر لأم النور والمنهج العمل الذي تقومان به في مجال الرعاية الصحية الأولية ورعاية المدمنين وإعادة تأهيلهم، وأكد أنّ جهودهما ستُحدث الفارق المهم في المجتمع. وختم مؤكدًا أنّ هذا المركز الأول من نوعه في شمال لبنان لا يوفر الخدمات الطبية للمجتمع بشكلٍ أفضل وحسب، بل يعمل على تفعيل الترابط الاجتماعي وتعزيز التعايش المشترك ضمن مختلف فئات المجتمع. 

تحتل طرابلس عاصمة الشمال وقلبه حيزًا مهمًا على جدول أعمال مديرية التعاون العسكري-المدني خلال هذه الفترة، وفق ما أكد لنا العقيد الركن العلم مشيرًا إلى مشروع «يوم طبي» في المدينة يتم الإعداد له مع إحدى المستشفيات الجامعية في لبنان. وسيتم تأمين حوالى عشرين عيادة تقدّم معاينات وفحوصات طبية لأبناء المنطقة، وذلك في إطار تقديم الرعاية الصحية لمن يحتاجها من المواطنين. 

عين جيشنا على أهله في طرابلس وفي سائر المناطق، وهو لن يوفر جهدًا لخدمتهم، ولن يتوانى عن تقديم كل مساعدة لهم. وعده الدائم أنّ يظل العين الساهرة عليهم، واليد الممدودة لإعانتهم، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالشباب مستقبل الوطن وكنزه.

 

خدمات المركز

يشمل عمل المركز ثلاثة محاور: أولًا خدمة الاستقبال، حيث تُقبل طلبات العلاج وتتم دراسة كل حالة على حدة لاتخاذ القرار بالعلاج المناسب مع تحفيز مقدم الطلب على المضي بالعلاج والمثابرة عليه. 

المحور الثاني هو العلاج، حيث يتم تحويل حالات الإدمان إلى مركز تأهيل للعلاج الداخلي (أي داخل المركز)، فيما يتولى مركز طرابلس – أبو سمرا العلاج الخارجي للأشخاص الذين لم يبلغوا حالة الإدمان. ويقوم بهذه العملية طاقم متخصص في العلاج النفسي والاجتماعي والتربوي والسلوكي. 

المحور الثالث يشمل حملات التوعية التي يقوم بها المركز في المدارس والجامعات لتحذير الشباب من مخاطر المخدرات. كما يمكن عقد حلقات تدريب لأساتذة المدارس وغيرهم من المعنيين بتوعية الشباب، وذلك في قاعة الاجتماعات في المركز التي تستوعب ٣٥ شخصًا. 

الجدير ذكره ان أبواب المركز مفتوحة أمام طالبي العلاج من مختلف المناطق اللبنانية في منتصف أيام الأسبوع من الساعة الثامنة صباحًا وحتى الرابعة بعد الظهر، علمًا أن المركز لديه القدرة على استيعاب ما يقارب المئة وخمسين شخصًا في الشهر..