وجهة نظر

«ماسيّتان» «لبنان الكبير».. والفساد!
إعداد: جورج علم

السفينة تترنّح، أمواج الفساد عالية، وعواصف الهدر عاتية، ورياح الصفقات تضرب من كل حدبٍ وصوب، والقلق يتربّص بالجميع، وفي ذروة التأرجح ما بين المصير المرسوم والمستقبل المحتوم، يرتفع الصوت المسؤول: «لا بد من المواجهة. لا بد من التصدّي لهذا التنّين المخيف قبل أن يبتلع الجميع!».


الرحلة قد تطول، لكنّها بدأت، لأنّ الإرادة مصمّمة، وقد أمسكت بالدفّة، وحدّدت اتجاه البوصلة، ورسمت الخيارات المتاحة، بمعزلٍ عن البعثات الدبلوماسية، والإملاءات الخارجية، والشروط المالية. هنا في قمرة القيادة بزّة شرف وتضحية ووفاء، شبعت من رائحة تراب هذه الأرض الطيبة، وواكبت الوجنات السمر تزرع نبتة التبغ في منبسطات الخيام ومرجعيون، وعركت تراب البقاع، موطن الهمم العالية، والعزائم الأبيّة، تستخرج من أديم العطاء مواسم الخير والبركة، وآلفت مواكب الأبطال من عرين الشمال مصنع الهامات الشامخة، والسيوف القاطعة. هنا أيقونة لبنانية آلت على نفسها أن تحرق بخّور الصوامع، لتطهّر وطن الأرز من روائح الفساد والفاسدين.

 

«ماسيّتان!»
تُمعن هذه الشخصية المجرَّبة النظر جيدًا في كتاب التاريخ... إنّه العام 1920، ولادة «لبنان الكبير». منذ ذلك الحين والفساد يتناسل، ينمو، يتمدّد، يتعاظم شأنه، ويصبح متأصّلًا في مراتب السلطة وإدارة الشأن العام من دون أن نرى كبيرًا أمام القضاء، ولا رأسًا معمّمًا بطربوش الفضائح أمام قوس العدالة؟! ما هذه المفارقة ؟! أيُعقل أن يحتفل لبنان بعد أشهر قليلة بـ«ماسيّتين»: الأولى، مرور مئة عام على إعلان «لبنان الكبير»، والثانية، مرور مئة عام على الفساد؟!.
وإذا كانت السياسة فنّ إدارة الشأن العام بحسٍّ عالٍ من الضمير، والمسؤولية الوطنية المجرّدة، فإنّه ليس من الجائز تحريف الأمور عند كل خطوة إصلاحية، تهدف إلى بناء الدولة عبر استنهاض الهمم والعصبيّات للتغطية على الارتكابات والتجاوزات، فالمواطن في النهاية هو المستهدف، وعندما تندثر الحجارة، ينهار البناء.

 

شبكة «عنكبوتية»
تعود «فيروسات» هذا الوباء المتفشّي، إلى مراحل مضت من تاريخ لبنان اتخذ خلالها أشكالًا مختلفة متنوعة، ولكنّنا أصبحنا اليوم أمام «منظومة» و«شبكة عنكبوتية» معقّدة تبدأ بالإدارة المالية للأموال السيادية، وبالقيود المحاسبية للمال العام، مرورًا بالهبات، والمخصّصات، والسلفات، ووصولًا إلى أصول الصرف، والترف في الإنفاق على مقرّات الوزارات والدوائر والأسفار، والتوظيفات العشوائية غير المنتجة، والمحسوبيات، فضلًا عن الرشاوى و«الإكراميات» المعشعشة في الدوائر كي يتمكن المواطن من إنجاز معاملته.
لقد أصابت هذه «الظاهرة غير الطبيعية» مختلف مفاصل الدولة الحيوية المنتجة، وانعكست سلبًا على بنيان الاقتصاد الوطني وهيكليته، وفتحت جرحًا نازفًا في خزينة الدولة، ما قد ينذر بأشد العواقب إذا لم يجرِ العمل سريعًا على معالجته بخطواتٍ عملية مسؤولة، وبقرارٍ سياسي حاسم بعيدًا من أي اعتبارات أو مصالح فئوية.
بحسب «منظمة الشفافية الدولية»، يعود تفشّي الفساد إلى فقدان الثقة في النظام اللبناني القائم على «الديموقراطية التوافقية»، وهذا «التوافق» غالبًا ما يكون على حساب الدستور، والقوانين الناظمة، والتمكّن من بسط سلطة القانون، ما أدى إلى إضعاف الاستثمارات الأجنبية، خصوصًا وأنّه لا توجد أي سياسات اقتصادية عملانية تعتمدها الحكومات المتعاقبة لمكافحة ظاهرة الفساد، وتشجيع الاستثمارات، هذا فضلًا عن كون السياسات المتبعة في إرساء المناقصات تعتمد مبدأ التمييز، والمحاصصة للشركات المحسوبة على هذا أو ذاك، أو التي تدفع رشوة، لا التي تقدّم العروض الأفضل لمالية الدولة.

 

الفساد السياسي.. ومآثره!
وفق «مؤشر مدركات الفساد» الذي أصدرته «منظمة الشفافية الدولية»، حلّ لبنان في العام 2017 في المرتبة 136 على قائمة 175 دولة، وفي العام 2018 كان في المرتبة 149 من بين 180 دولة، وفي المرتبة 13 من أصل 19 دولة في المنطقة العربية، ما يدل على مدى استشراء الفساد فيه. فالنظام السياسي يحتكره واقع الفساد السياسي الذي أدّى إلى إضعاف فاعلية الدولة، وقدرتها على المحاسبة والمساءلة، بالإضافة إلى ضعف الثقافة المؤسّسية، وغياب تام للمجتمع المدني وهيمنة للبنى المجتمعية التقليدية، يقابلها ضعف في الانتماء الوطني، والهوية الوطنية، وسهولة الانجرار لخدمة المصالح الشخصية. كل ذلك ولّد حالة يصعب معها التعامل مع فكرة الدولة القانونية، نظرًا للتناقض الكبير في المفاهيم الاجتماعية لأسس بنائها.

 

قوانين «وشوائب»!
ترى «الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية» (لا فساد)، وهي الفرع الوطني لـ»منظمة الشفافية الدولية»، أنّه رغم إقرار ثلاثة قوانين رئيسية لتعزيز الشفافية هي: قانون الحق في الوصول إلى المعلومات، وقانون انتخاب جديد، وقانون الموازنة العامة للمرة الأولى منذ العام 2005، إلّا أنّ شوائب عديدة رافقت هذه الإصلاحات وحالت دون إمكان تطبيقها الفعلي.
وأعطت الجمعية مثالًا في هذا الصدد حول قانون الحق في الوصول إلى المعلومات، إذ لم تعمد معظم الإدارات العامة والبلديات إلى النشر التلقائي للمعلومات، ولم تعيّن موظفًا لتلقّي طلبات المواطنين واستفساراتهم. ويضاف إلى ذلك تأخير إقرار موازنة العام الحالي، واعتماد – ولو مرحليًا - القاعدة الإثني عشرية في الصرف، من دون إقرار قَطْع الحساب منذ العام 2004، وهو الأمر الذي يخالف مبدأ الشفافية المالية، ويناقض حق المواطنين بمعرفة كيفية حصول الإنفاق، وقيمة الواردات الحقيقية التي تمّت جبايتها.
يعاني نظام النزاهة اللبناني، استنادًا إلى نتائج التقييم الذي تعدّه الجمعية، شوائب عدة أدّت إلى إضعاف أطر الرقابة، وانعدام المحاسبة، أبرزها غياب الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وعدم فعالية قانون الإثراء غير المشروع، وضعف الهيئات الرقابية الأساسية الأربع (الهيئة العليا للتأديب، ديوان المحاسبة، مجلس الخدمة المدنية، والتفتيش المركزي)، وأيضًا ضعف الرقابة التي يمارسها المجلس النيابي على الأداء الحكومي، وعدم اعتماده الجلسات العلنية، فضلًا عن عدم تطوير نظام المناقصات العامة، والتعاقد في الإدارات العامة كونه ذا طابع سياسي وانتخابي.

 

أرقام متقهقرة
سجّلت الجمعية، أنّ المواطنين يعانون نقصًا حادًا في تقديم الخدمات العامة، فعلى سبيل المثال، ما زالت الدولة عاجزة عن توفير الكهرباء بشكلٍ مستدام، وعن وقف الهدر الذي بلغ عشرات المليارات عبر السنين. أما خدمة الإنترنت فهي الأسوأ عالميًا لناحية السرعة، وفق المؤشر العالمي (حلّ لبنان في المركز 131 من أصل 133 دولة). غياب ضمان الشيخوخة، والبطاقة الصحية التي يستفيد منها جميع المواطنين، أمور أساسية يُحرم منها اللبنانيون. غياب حلٍ مستدام لأزمة النفايات أدّى إلى ردم المكبّات البحرية والبرية، وتوسيعها، وإلى تلوّث المياه بشكلٍ خاص، والبيئة بشكلٍ عام، بعد إنشاء المكبّات العشوائية التي يصل عددها إلى 941 بحسب آخر دراسة أعدّتها «هيومن رايتس واتش».
وحذّرت الجمعية من أنّ عدم إقرار قانون حماية كاشفي الفساد، يفتح الباب واسعًا أمام التضييق على الإعلاميين والناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، كما يحدّ من شجاعة المواطنين للتبليغ عن الفساد. من هنا يجب الضغط لإقرار هذا القانون، إضافة إلى قوانين أخرى إذ ثمة اقتراح جديد لقانون الإثراء غير المشروع، وآخر للتصريح عن الذمّة المالية، وثالث لإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.

 

شمعة في النفق الطويل المظلم
في 24 نيسان 2018، أطلقت وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية مشروع «الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، والخطة التنفيذية»، وذلك بالتنسيق والتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
وتهدف هذه الاستراتيجية إلى إرساء الشفافية المتمثّلة بحق الوصول إلى المعلومات (وبخاصة المتعلّق منها بالصفقات العامة)، والقرارات الإدارية، والقضائية، والتعاميم، ونشر الأحكام، والتقارير الدورية والسنوية الصادرة عن القضاء، أو تلك الصادرة عن أجهزة الرقابة، والإعلان عن نتائج التحقيقات النهائية المُحالة أمام المحاكم، وكذلك الإعلان عن الأحكام القانونية ذات الصلة. كما تهدف إلى تفعيل المساءلة، وصولًا إلى معاقبة مرتكبي الفساد وشركائهم من دون أي عائق دستوري، أو إداري، أو قضائي، أو أي حسابات سياسية.

 

لا بد من قيادة حازمة
إنّ أهم مقوّمات نجاح الاستراتيجية الوطنية، هو وجود قيادة سياسية حازمة وعالمة بمكامن الفساد، وآثاره الخطيرة على الدولة والمجتمع، وتملك إرادة واضحة ومصممة، وتتمتع بالصلاحيات الضرورية والكافية لاتخاذ القرارات الصائبة والجريئة بغية التصدّي للفاسدين والمفسدين ومحاكمتهم، واسترداد الأموال التي حصلوا عليها من جراء أعمالهم الفاسدة.

 

مليارات الدولارات...وبارقة أمل
استنادًا إلى تقارير مدقّقة وضعها خبراء اقتصاديون، فإنّ كلفة الفساد في لبنان تبلغ نحو 10 مليارات دولار سنويًا، أي ما يعادل 20 بالمئة من قيمة الإنتاج المحلّي الإجمالي، تتوزّع بين خسائر مباشرة على خزينة الدولة، ناتجة من فساد في التخمين العقاري، والجمارك، والواردات، والمؤسسات التي تقدّم خدمات عامة، والأملاك البحرية والنهرية، والمخالفات، والضرائب والرسوم، وغيرها، فضلًا عن الفرص الاقتصادية الضائعة، التي كان بإمكان هذه الأموال المهدورة تأمينها.
وسط هذا النفق، تعطي الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد فرصة «أمل للقيادة الحكيمة الحازمة التي قررت إنقاذ سفينة الوطن من تنّين الفساد، والعودة بها إلى شاطىء الأمان، والمسألة هي مسألة وقت. إنّ العودة بدأت، فعلى الرغم من الموانع والاعتراضات والصعوبات، ومقابل الأعاصير الهوجاء والرياح العاتية، هناك إرادة عنيدة مصمّمة...والصبر مفتاح الفرج!».