موضوع الغلاف

«مغاوير الأشغال»... رجال بأيادٍ كثيرة
إعداد: ندين البلعة خيرالله

«شو شعورك» عندما تقف تحت سقف يزن أطنانًا لا يمنعه من السقوط سوى بضعة «أشلاف» حديد، وتحت قدميك مواد قابلة للانفجار، لكنّك على الرغم من ذلك تبقى هناك لتنفّذ مهمة إنسانية؟ ما هي الأفكار التي قد تخطر ببالك حين تدخل مبنى على وشك السقوط لتنقذ وثائق رسمية؟ وماذا تفعل إذا انهالت عليك طلبات المساعدة من كل حدب وصوب لأنّك مصدر الثقة والالتزام الوحيد بالنسبة إلى الجميع؟

 

يا لها من مسؤولية عظيمة، ويا له من تفانٍ غير مشروط...ويا لهم من رجال!

إنّهم رجال فوج الأشغال المستقل، هذا الفوج الذي يستحق أن يُدعى «فوج مغاوير الأشغال»، «مغاوير الـ D9» كما كان يدعوهم اللواء الركن الشهيد فرنسوا الحاج. ففي كل معركة تشكّل آليات الفوج سدًّا منيعًا وخط دفاع أول في مقدمة القوى المناورة، وأينما تقوم ورشة بناء أو ترميم أو تدعيم، تجد عناصره خلية نحل تعمل بمنتهى التكامل والتنسيق.

 

عرف الفوج نقلة نوعية في السنوات الأخيرة، وذلك على مستوى الفعالية والسرعة في العمل، وأيضًا على مستوى ابتكار مزيد من وسائل التوفير في كلفة المشاريع. تنظيم العمل وحسن إدارته أسهما في رفع الجهوزية إلى أقصى درجاتها، الأمر الذي كان العامل الأساس في استجابة الفوج الفورية عندما وقعت الواقعة.

كارثة المرفأ أزاحت الستار عن جنود مجهولين، كان لهم الفضل في فتح الطريق أمام فرق الإطفاء والإسعاف ليلة الانفجار، وفي الحفر بالمجهول لإيجاد المفقودين، واستمرّت مهمّاتهم لمعالجة تداعيات هذا الانفجار، من دون تقصير في المهمات الأساسية التي ينفّذها الفوج على كامل الأراضي اللبنانية.

 

فوج يجيد القتال على عدة جبهات

يبدأ الحديث ولا ينتهي عن الأعمال والمهمات التي ينفّذها فوج الأشغال... تقاطعه بعص الاتصالات الهاتفية: «الشباب» يجهّزون السقالات لنقلها إلى موقع المبنى الأثري لوزارة الخارجية والمغتربين المُهدد بانهيار سقفه، لتركيب ممرات آمنة وسحب ملفات الوزارة ونقلها إلى مكان آخر لحفظها...

اتصال آخر من ممثل الاتحاد الأوروبي يشيد بالجهود الجبارة التي بذلها الجيش، وبحرفيته وإدارته الحكيمة بالرغم من تواضع الإمكانات المتوافرة... فيشير قائد الفوج العقيد الركن يوسف حيدر إلى مئات العسكريين الذين ينفّذون مهمات إزالة الركام وفرزها داخل المرفأ، في بقعة أشبه بأرض معركة لناحية الخطورة الناتجة عن مواد مسرطنة في العنابر والتي تتطلب معالجة فورية وصديقة للبيئة... إضافةً إلى الحاجة لرفع الجسور المعدنية الضخمة بواسطة الآليات الهندسية بشكلٍ مُتقن... ويؤكد قائد الفوج: سنستكمل هذه العملية باللحم الحي مهما بلغت الصعاب والتضحيات!

سيدة تطلب المساعدة في إزالة الردم من أمام منزلها في الجميزة، يصدر قائد الفوج أوامره بتلبية النداء فورًا وبالتنسيق مع غرفة الطوارئ المتقدمة...

اتصال آخر من الجرد هذه المرة: إفادة عن سير عمل آلية D9 تشقّ طريقًا في الجرود لأحد المراكز العسكرية، ومفرزة تقوم بتركيب تحصينات Hesco...

من الواضح أنّ مهمات الفوج متعددة والعمل كثير والجهود كبيرة ولا يمكن معرفة حجمها سوى من خلال التعرّف عن قرب إلى هذه القطعة الأساسية في المؤسسة العسكرية والتي تخصص لها 30% من موازنتها العامة.

 

صدمة إيجابية

السلفات المالية وتحقيق العتاد والمواد هي محرك فوج الأشغال المستقل وفق ما يشرح لنا قائده. هذه العملية مضنية لما فيها من حسابات وأرقام، فكيف إن كانت تسير «على الدقة القديمة»؟ لذلك كان لا بد من خطة للاستفادة من التكنولوجيا والتطور.

وها هو الفوج يحقق مركزًا مُمَكننًا يحوّل عروض الأسعار الورقية اليدوية إلى عروض إلكترونية E-PROCUREMENT. هذه التجربة حازت إعجاب قائد الجيش الذي أوصى بتعميمها على القطع والوحدات العسكرية كافة، لما لها من مردود إيجابي على أصعدة كثيرة.

يتطلب تحقيق المواد والمعدات عادةً عملًا إداريًا ولوجستيًا كبيرًا، فمن استهلاك الآليات والمحروقات والمطبوعات إلى العدد الكبير من العناصر، والتأخير في التنفيذ، وأحيانًا عدم الدقة.

التجربة الجديدة أنتجت توفيرًا في كل هذه المجالات، وشكّل العمل الورقي السابق أساسًا لهذه النقلة النوعية التي بُنِيت على داتا معلومات ضمّت كل أسماء التجار الذين يمكن التعامل معهم في مختلف المجالات التي يختصّ بها فوج الأشغال، بهدف تأمين أفضل المواد بأنسب الأسعار.

طُبّقت في هذه العملية كل معايير الأمان الإلكتروني لحماية سير عروض الأسعار والتواصل مع التجار، وحُصرت مسؤولية إدارة البريد الإلكتروني بعددٍ محدد من العناصر إلى جانب قائد الفوج، حفاظًا على السرية والخصوصية.

أتاح التواصل الإلكتروني مع الفوج الفرصة أمام الشركات جميعها المسجلة في لبنان، لتقديم عروض الأسعار وبيع سلعها بكل شفافية وسريّة وفعالية. هذا الأمر أدّى بعد شهر واحد من تطبيقه إلى توفير 5 آلاف ليتر بنزين، فكانت الصدمة الإيجابية الأولى.

 

شفافية وتوفير

ضابط السلفات النقيب الإداري هادي بري، الذي عمل وفق الأسلوب التقليدي، يُفند إيجابيات التقنية الجديدة في تحقيق العتاد والمواد وفق الآتي:

- تسهيل التواصل مع التجار، فهذه العملية باتت تُنجز بواسطة رسالة تصل عبر البريد الإلكتروني إلى عشرات منهم في مختلف المناطق اللبنانية، عوضًا عن تكبّد الوقت والمحروقات والمجهود البشري.

- زيادة الشفافية والمصداقية في التعامل مع التجار، والتواصل معهم عبر البريد الإلكتروني مع الحفاظ على خصوصية عروض كل منهم.

- تعزيز صورة الجيش الممَكْنَن المتطور الذي يواكب التكنولوجيا، والذي اعتمد عملية E-Procurement في حين أنّ الكثير من كبرى الشركات لم تعتمدها بعد.

- تفعيل خطة ترشيد النفقات التي تعمل المؤسسة العسكرية على التزامها، ما أدّى إلى التوفير في الوقت، ومصروف المحروقات، والمطبوعات والقرطاسية، بالإضافة إلى التخفيف من استهلاك الآليات والطاقة البشرية والاستفادة منها في مهمات أخرى.

 

تحديات ذُلِّلت

تتمثل أبرز التحديات التي واجهت الفوج خلال وضع التقنية الجديدة قيد التنفيذ، في الآتي:

- إيجاد الإطار القانوني لهذه العملية: أحالت الحكومة على مجلس النواب المرسوم رقم 3553 تاريخ 3/8/2000 الذي يشمل التوقيع الإلكتروني. وبما أنّه لم يصدر حتى الآن أي قانون في هذا الإطار، قام الفوج بدمج المعاملات الإلكترونية والورقية لمتابعة المسار القانوني وفضّ العروض من قبل لجنة الشراء، وجهّز لوجستيًا غرفة لفضّ العروض إلكترونيًا في مرحلة لاحقة.

- مقاومة التغيير: كردة فعل أولية كان لدى الضباط والعناصر خوف من تغيير الطريقة التقليدية في العمل، ولكن أكثر من قاوموا هذا التغيير كانوا الأكثر استفادة منه، فآلية العمل باتت أسهل بكثير. وقد أسهمت خطة تطويع رتباء اختصاصيين التي اعتمدتها القيادة، في تزويد الفوج عناصر تقنيين فعّلوا استخدام التكنولوجيا.

- التقنيات المتوافرة لدى التجار: بعض التجار لا يملكون التقنيات المناسبة، ولا يتقبلون التغيير بسهولةٍ كونهم يعتمدون الطرق التقليدية، ومنهم لا دراية لديه بكيفية استخدام هذه التكنولوجيا، لكن معظمهم تجاوب مع رغبة قيادة الفوج.

 

صورة الفوج

بهدف زيادة الفعالية في تنفيذ مهماته، وإلى جانب التقنيات الإلكترونية، شهد الفوج ورشة تطوير على الأصعدة كافة بدءًا من الهيكلية، مرورًا باستحداث الأقسام وتحسين ظروف العمل وتحديث بيت الجندي...

باختصارٍ، تم العمل على تعزيز صورة الفوج ومعنويات عسكرييه من خلال مشاريع يتحدث عنها رئيس الفرع الثالث المقدم الركن حسن حرقوص، وأبرزها:

- ترميم أماكن منامة العسكريين وبيوت الحرس وتحسين ظروف العمل فيها، وتعبيد كل الطرقات داخل الثكنة، بالإضافة إلى دهن آليات الفوج بترقيطة البزّة العسكرية، وتأمين الهندام المناسب والضروري لحماية العسكريين. كل هذه الأمور زادت من عصبية القطعة لديهم.

- استحداث سرية الأشغال الرابعة لتغطية أكبر قدر ممكن من الورش في المراكز العسكرية والمشاريع الإنمائية، لمساعدة المدنيين في مختلف المناطق اللبنانية.

- تفعيل حضيرة الصحة لمكافحة وباء كورونا المستجد.

- تفعيل عمل مفارز متخصصة بإقامة أبراج المراقبة والتحصينات Hesco على الحدود الشرقية والشمالية وصيانتها.

- بسبب غلاء الأسعار تمّ تفعيل مشغل الطلاء في سرية المشاغل ليصبح قادرًا على تركيب الدهانات والتوفير في كلفتها، فثمن برميل «الطرش» في السوق 300 ألف ليرة لبنانية في حين تقتصر كلفة تصنيعه في الفوج على 30 ألف ليرة، ويُستخدم لطلاء كل المراكز العسكرية.

- تحويل بيت الجندي من «دكانة» متواضعة إلى «ميني ماركت» متطور يؤمّن معظم السلع التي يحتاجها العسكريون وعائلاتهم، ويديرها نظام محاسبة متطور أدّى إلى تجنّب الأخطاء البشرية. وبفضل هذا التطوير والاتفاقات المدروسة مع التجار ونظام الـcash back، بات بيت الجندي مصدر تمويل أساسي للمشاريع كافة التي يقوم بها الفوج.

- تركيب كاميرات مراقبة وكواشف حريق وشبكة صوتية داخل الثكنة.

- إنشاء خلية الدراسات التابعة للفرع الثالث، وهي تضم عناصر فنية متخصصة تقوم بدراسة كل ورشة أو مهمة توكَل للفوج، فتشكّل قوة عملياتية Task Force تنسّق العمل بين السرايا جميعها لضمان سرعة التنفيذ وفعاليته. وتكشف الخلية على موقع العمل قبل تنفيذ الأشغال وخلالها وبعدها، كما تراقب حسن تنفيذها نوعًا وكمّا QA/QC.

- إنشاء غرفة عمليات كأي قطعة قتالية نظرًا لانتشار وحدات الفوج على كامل الأراضي اللبنانية، وتخصيص خطة عمليات لأي مهمة يتولّاها، إذ تؤمّن الاتصال بين الورش وقيادته، وتدوّن المعلومات الخاصة بالأشغال والورش المُنفّذة يوميًا، كمـا ترصـد حركـة دخـول الآليـات وخروجهـا.

 

سرية كل المهمات

سرية العتاد في الفوج هي سرية الآليات الهندسية وآمرها الرائد منير عقيقي، تتابع تقديم الدعم الهندسي في الأمور الملحة والضرورية لكل الوحدات، على الرغم من الجهد الذي تركّزه اليوم في المرفأ ومحيطه.

تنفّذ هذه السرية ستة أنواع من المهمات:

- المهمات العملانية: يُذكر في هذا السياق مشاركة السرية في معارك الجيش من نهر البارد إلى «فجر الجرود». وقد أثبتت المعارك الحديثة أنّ وجود الآليات الهندسية على رأس الوحدات المتقدمة ضروري جدًا.

هذا الأمر كان سببًا إضافيًا لترقيط الآليات، وتطوير دروع واقية لها تحميها وتحمي العسكريين الذين تدرّبوا على أسس القتال مع هذه الوحدات، وزُوِّدوا أجهزة اتصال مقاومة للضجيج.

- المهمات الإنمائية: نفّذت السرية في الصيف الماضي بناء إحدى أكبر البحيرات الاصطناعية في لبنان (بحيرة دير الأحمر) التي تتراوح سعتها بين 150 و200 مليون ليتر ماء. وتعمل السرية بشكلٍ دائم على مساعدة البلديات في شق الطرقات لأهدافٍ إنمائية.

- مهمات الإغاثة ورفع الأنقاض: في الشتاء تحتفظ السرية بجرافاتٍ كاحتياطٍ في أعالي الجبال لدعم الوحدات العسكرية وتسهيل وصول العسكريين إلى مراكزهم، ولتنفيذ أعمال الإغاثة والإنقاذ.

- مهمة المرفأ: هذه السرية كانت الأساس في تحرير السفينة التجارية التركية Raouf H، وقد تدخّلت بعد الانفجار مباشرةً، فأنهت العمل اللازم على مساحة المرفأ البالغة مليونًا و400 ألف متر مربع. كما عملت في كل أحياء بيروت المتضررة وبشكلٍ يومي، في موازاة متابعة مهماتها المختلفة.

- مهمات على الحدود: اعتبارًا من العام 2014، قامت سرية العتاد بإنشاء حوالى 40 مركزًا عسكريًا محصَّنًا بالـ Hesco Basket بالتعاون مع المفارز المختصة بها. وتم ربط كل هذه المراكز بشبكة طرقات سهّلت القيام بدورياتٍ متواصلة مترابطة على الحدود.

يضاف إلى ما ذُكر، تنفيذ مهمات دعم هندسي لمصلحة كل وحدات الجيش (إنشاء السواتر، التحصينات، مهابط الطوافات، الساحات، الطرقات، مراكز الرمي...).

 

مغاوير المرفأ

كل الصعوبات تم تذليلها إلى حدٍّ ما... اجتمع الذكاء مع التكنولوجيا والمهارات التقنية التي تكلّلت بالالتزام والتفاني في العمل، فكانت خطة تطوير الفوج والإدارة المُتقنة لعمليات الشراء، ما أدى إلى توافر المواد اللازمة للعمل بشكلٍ فوري حين وقعت كارثة المرفأ، وهذا الأمر ساعد إلى حدٍّ كبير وأساسي في الاستجابة الفاعلة للكارثة.

فعندما وقعت الواقعة، «أفرج» الفوج عن كل احتياطاته، وركّز جهوده في المراكز العسكرية المتضررة بينما حضرت آلياته الهندسية وعناصره منذ اللحظة الأولى إلى المرفأ.

كان الردم والدمار والنيران في كل مكان، راح عناصر الفوج يفتحون الطرق للإطفائيات وفرق الإنقاذ، وكانوا يعملون بسرعةٍ ودقة لإزالة الردم مع التنبّه لجثث الضحايا. هذه المهمة كانت من أصعب المهمات، خصوصًا وأنّ العسكريين لم يكونوا على دراية بطبيعة المكان. مع ذلك، جاءت استجابتهم سريعة، وحتى من دون التفكير بالمخاطر. قُسِّمت المسؤوليات بسرعةٍ قياسية، بدأت مهمات البحث والإنقاذ، إلى أن جاء الأمر برفع الأنقاض من داخل المرفأ بعد أسبوع.

عمل عناصر الفوج على فتح الأرصفة وتنظيفها واضعين نصب أعينهم هدفًا أساسيًا ألا وهو إعادة المرفأ إلى العمل. وخلافًا لكل التوقعات، فُتحت الأرصفة وعاد المرفأ إلى العمل من جديد، فكان الإنجاز الأول للفوج.

بعدها وُضعت خطة لضمان فاعلية العمل، وشُكّلت أربعة لفائف فرعية عملت على مدى أسبوعَين بنمط 24/7 في مهمة رفع الأنقاض وترميم المنشآت وبنائها، لإيواء العسكريين داخل الثكنات المحيطة بالمرفأ.

استُنزفت الآليات و«العسكر استوى» وتعرّض للكثير من الأخطار ومن بينها التلوث، مع العلم أنّهم تلقوا جميعًا لقاح الكزاز تحسّبًا!

 

هذا ما قاله الآخرون

العنوان العريض للعمل مع الأجانب هو التعاون وتبادل الخبرات وتكامل القدرات، استفاد الجيش اللبناني من خبرتهم في ما يتعلق بتدابير الحيطة والأمان، وهم أشادوا بشجاعته والتزامه. فقد أتت إلى لبنان عقب وقوع الانفجار فرق من عدة بلدان شقيقة وصديقة، ولكنها غادرت تباعًا، وقدّمت فرق من اليونيفيل أيضًا المساعدة في المرفأ وشوارع بيروت.

 

الفريق الفرنسي

وُضعت المجموعة الفرنسية GT Ventoux عملانيًا بتصرف فوج الأشغال المستقل وتمّ تنسيق المهمات في المرفأ وتنفيذها بتكامل العتاد بين الطرفَين، ما أدّى إلى سرعة في التنفيذ. وقد صرّح قائد المجموعة Colonel Antoine De La Bardonnie أمام قائد الجيش العماد جوزاف عون أنّ فرقته استفادت من العسكريين اللبنانيين أكثر ممّا استفادوا منها هم. وبدوره أشاد ضابط التعاون التقني الفرنسي Colonel Philippe Debaisse بشجاعة اللبنانيين في اتخاذ القرارات الجريئة.

 

الإيطاليون

عمل الفريق الإيطالي المؤلف من مجموعة مهندسين إلى جانب عناصر الفوج في ورش خارج المرفأ، فأنهوا رفع الأنقاض من مدرسة الأشرفية الرسمية الثالثة، كما عملوا في حوالى 23 منطقة ضمن بيروت.

الملازم أول توفيق العجيمي ضابط الارتباط الموكل من الفوج بالتواصل مع الإيطاليين، يشيد بالعمل مع هذا الفريق، ويؤكد أنّه ارتكز على عنصرَي التعاون والتوازن بين الطرفَين Cooperation & Balance، وذلك على مستويَي العتاد والعناصر. وهو يوضح: عملنا معًا، وحين كان الإيطاليون يوقفون العمل، كنا نتابع لساعاتٍ متأخرة من بعد الظهر.

بدورهم، أبدى الإيطاليون ارتياحهم للعمل مع الجيش اللبناني الذي ساعدهم منذ البداية على حلّ كل المشاكل وتذليل الصعوبات وإيجاد الحلول المناسبة لها. هم يعتبرون أنّ التعاون كان فاعلًا، وقد تكاملت في إطاره قدرات الطرفين. ويؤكدون: عملنا يدًا واحدة لهدفٍ واحد One Task One Team. وإذ أشادوا بتفاني العسكريين اللبنانيين وحماستهم للمساعدة، أشاروا إلى أنّهم حين نزلوا إلى الشوارع بين المدنيين شعروا بالأمان والترحيب، ولمسوا تقدير الشعب لجيشه.

 

وزارة الخارجية والمغتربين

المهمة في وزارة الخارجية والمغتربين كانت محفوفة بأخطارٍ أكيدة، مع ذلك نُفِّذَت من دون أن يتعرّض أي عسكري للأذى. عمل عناصر الفوج على تدعيم مبنى الوزارة واستحدثوا ممرًّا آمنًا تحت سقفٍ مهدّدٍ بالانهيار بهدف نقل ملفات الوزارة إلى المركز المؤقت لها وحمايتها. وفي ما بعد، طُلب من الفوج تأمين سقف الوزارة وإزالة الخطر عنه، بعد تعذُّر الأمر على آخرين.

«لم يتمكن أحد غير الجيش من القيام بهذه المهمة»، يقول مدير الشؤون السياسية والقنصلية في الوزارة السفير غادي الخوري، الذي أشاد بحرفية هذا الجيش وجدّيته في التنفيذ مضيفًا: «أبى المنفّذون إلا أن يتأكّدوا من إتمام كل هذه العملية على أكمل وجه، وكانوا حريصين أكثر منا على كل خطوة، فهم لا يساومون!».

الخوري أعرب عن الامتنان لقيادة الجيش، وقال: «نحن مدينون لهذه المؤسسة وشاكرون لجهودها، وخصوصًا في الظرف الحالي».

 

أياد مشبوكة

للدفاع المدني مع الجيش قصة مختلفة، أيادٍ مشبوكة، قلوب تنبض معًا وعيون تسهر وتتشارك هَمّ الوطن وأهله. يوسف الملّاح متطوع في الدفاع المدني، يتحدّث عن هذه العلاقة والتعاون باندفاعٍ وفخر. يقول: تعلّمنا في المدرسة أنّ العسكري يحمل البارودة ويقف على الحدود، ولكنّنا كبرنا لنكتشف أنّ للجيش عدة أيادٍ: يد على الزناد، وأخرى تُلقي السلام، وثالثة تعطينا قارورة ماء، ورابعة تقود الجرافة وتحفر...

 

وفي الحديث عن مهمة المرفأ تعلو النبرة، وترتفع نسبة الحماسة، لأنّ الدفاع المدني بالتعاون مع الجيش استطاع تنفيذ مهمة شبه مستحيلة، ألا وهي إيجاد المفقودين التسعة داخل الإهراءات. لم نشعر للحظة بالفارق في ما بيننا، عملنا بمحبةٍ وروحيةٍ واحدة. التقدير والاحترام لكل عنصر من عناصر الجيش، وخصوصًا لسائقي الآليات الهندسية، هم الجنود المجهولون الذين لم يطفئوا آلياتهم على مدى اثنتَين وسبعين ساعة بعد الانفجار.

 

ويتابع: أذكر أنّنا عملنا لمدة 4 أيام تحت لوحة من الباطون معلّقة بأشلاف من الحديد وزنها بالأطنان، وتحتنا مواد قد تتسبّب بانفجارٍ أو تسمّم، مع العلم أنّ التوصية من الفريق الروسي جاءت بعدم الاقتراب من هذه النقطة. لم نستطع أن نغضّ الطرف عن أمّ تنتظر معرفة مصير ابنها. وثقتنا بالجيـش كانـت الدافـع الأكبر لمتابعة المهمة، فهو يملك من الخبرة والتجارب الفعليـة أكثـر من أي جيـش آخـر في العالـم... ونجحنـا في انتشـال جثـث تسـع ضحايا.

 

SUPER PRO

في المراكز العسكرية، توزّعوا خلايا «تنغل نغلًا»، تزيل الردم، تبني جدارًا هنا، تصلح بابًا ونافذة هناك، حديد وزجاج وباطون... باختصارٍ، ورشة إعادة إعمار، والهمّ الأساس إيواء العسكريين وعودة الحياة إلى المركز. والرأي بالأداء واحد: إنّه عمل جبار، وقد عدنا إلى مراكزنا في اليوم التالي للانفجار مباشرة، وخلال وقت قصير جدًا كانت 80% من الأشغال قد نُفِّذت... لو نفّذ هذا العمل مدنيون لكانت أجرة كل منهم لا تقل عن 150 ألف ليرة يوميًا!

 

أما بالنسبة للمدارس، فتُبدي رئيسة قسم الهندسة في وزارة التربية مايا سماحة تقديرها وإعجابها بالأداء العسكري: تعاونّا مع الجيش فأجرينا مسحًا سريعًا وتقييمًا للأضرار وبدأوا العمل فورًا. «كتير خدومين» لم يرفضوا لنا طلبًا، ولم يستطع أحد غيرهم تنفيذ هذه المهمات. ثقتنا بهم عمياء، هم مغاوير super pro ويعملون باللحم الحي.

 

نجول في بعض الشوارع، ورش في كل مكان. الجميع جيش... لولا البزّة العسكرية لما تمكنا من تمييز العسكريين عن المدنيين، يعملون يدًا واحدة للنهوض بمنطقتهم، وحيث يكون الخطر داهمًا يبتعد المدنيون وتُخلى الساحة لأصحاب المهمة. لمسنا نخوتهم واندفاعهم، و«شو ما طلبنا منّن بيلبّوا» تقول إحدى المواطنات. الأمر تلقائي بالنسبة إلى كل عسكري، واجبه محدد وواضح: توجيهات قائد الجيش أن يتم تيسير أمور المواطنين والاستجابة لطلباتهم والتخفيف من وطأة الكارثة عليهم، وهذه تعليمات على صفر.

 

... وبعد ثلاثة أشهر على الانفجار الكارثي، باليوم والساعة، أزال فوج الأشغال المستقل خيمته التي شكّلت محطة ثابتة لكل الوفود التي تفقّدت المكان طوال هذه الفترة، من المرفأ. فقـد أنهـى عملـه في إزالـة الركـام وتنظيـف المكـان مع الانتهـاء من الهنغـار 21، آخـر هنغـار يشكّـل خطـرًا علـى السلامـة العامـة... وسلّـم الساحـات نظيفـة لإدارة المرفـأ!

 

المهندس ابراهيم فضل الله العرب، من شركة المقاولات التي وضعت آليات ومعدات بتصرف الجيش خلال مهمته في المرفأ، يشيد بالأداء المتقن والاحترافي للفوج في هذه المهمة. ويؤكّد أنّه « لو أرادت أي شركة متخصصة القيام بهذه العملية، حيث الأضرار الهائلة التي تفوق الوصف، لما استطاعت التخطيط والتنظيم والتنسيق والتنفيذ بهذا الشكل بأقل من سنة... الجيش أنهاها بثلاثة أشهر!»

 

ويضيف قائلًا: «سر هذا النجاح يعود إلى خطة عمل متقنة نسّقت كل الجهود على الأرض...».

 

فوج الأشغال المستقل لم يتغيّر، فهو لطالما كان يضم كفاءات وخبرات مميّزة. الجديد في واقعه اليوم هو مزيد من التنظيم والفاعلية، وهذا ما انعكس إيجابًا على مهماته التي لا تُحصى ولا تُعدّ، وقد كانت كارثة المرفأ خير اختبار لقدراته ومهارات عناصره.

 

إدارة، ثقة بالنفس، قيادة وسيطرة... هي مقومات النجاح والتقدّم وتحقيق النتائج في أي مهمة كانت، عمل الفوج على صقلها وتعزيزها بين عسكرييه، فكانت مضافةً إلى الولاء للوطن كفيلة بأن تتغلّب على أعظم الصعوبات، وتنتصر على التحديات كافة.

 

حماية الإرث الثقافي

عمل الفوج على ترميم سقف مبنى وزارة الخارجية والمغتربين الأثري، والذي كان أول سقف مبنى في بيروت المنكوبة، بهذه المساحة الكبيرة، يتم الانتهاء من ترميمه قبل هطول أولى أمطار الشتاء. هذا العمل تمّ بدعم من «اليونيفيل» الذين استعانوا باللجنة الوطنية اللبنانية للـ Blue Shield وهي جزء من شبكة Blue Shield الدولية، والتي تلتزم بحماية الإرث الثقافي والطبيعي اللبناني في حال النزاعات والكوارث الطبيعية.

 

هذه الجمعية غير الحكومية موّلت المشروع، ورافق استشاريوها وخبراؤها عملية الترميم للحؤول دون المس بالعناصر التي تشكّل إرثًا ثقافيًا في المبنى، وحمايتها. وخلال سير هذه الأعمال، نظّمت الـBlue Shield داخل المبنى ورشة عمل لكيفية الاهتمام بهذا الإرث الثقافي وتغليفه في أثناء الترميم، تابعها ضباط وعسكريون من الفوج ومن اليونيفيل، تلّموا شهادات في نهايتها.

في هذا الإطار، وكون وطننا مليء بالأثارات التي قد نجدها في أماكن غير متوقعة، قد يشكّل هذا المشروع وهذه الورشة أساسًا لاستحداث فصيلة للحفاظ على الإرث الثقافي، ضمن هيكلية فوج الأشغال.

 

يُذكر...

يُذكر أنّ الفوج قام بتفريغ محتويات الهنغار 15 في المرفأ وردمه، نظرًا لعدم أهليته وخطر انهياره. هنا كانت توجد مادة Asbestos المسرطنة، وقد اتخذ العناصر أقصى تدابير الحماية وارتدوا البزّات المناسبة وأزالوا بأيديهم هذه المواد التي وُضعت في حفرة خاصة. وقام بفرز الحديد والردم في مبانٍ أخرى بمساعدة الإيطاليين واليونيفيل، ونُفّذ هذا العمل أمام وسائل الإعلام.

كذلك، نفّذ الفوج «مناورة»، لتأمين سقف الإهراءات حيث تسلّق رجاله الجدران، ربطوا الجسور الحديدية المعلقة والمهددة بالسقوط بالجنازير وسحبوها بالـ D9، حتى تمكّنت الفرق المدنية المختصة من أخذ العينات من الجدران لفحصها بعد زوال الخطر.

إلى ما سبق، نفّذ الفوج أيضًا مهمات لنزع اللوحات الإعلانية التي تشكّل خطرًا على السلامة العامة في محلة مار مخايل ومنطقة الكرنتينا، بالإضافة إلى رفع الأنقاض من محطة شارل حلو ومن الشوارع والأحياء الداخلية في المناطق كافة المتضررة من جراء الانفجار.

البضائع التي كانت موجودة لدى فوج الأشغال لبّت معظم المطالب والحاجات في هذه المهمة، ولم تكلّف ميزانية المؤسسة العسكرية أي مصروف إضافي، لأنّ معظمها كان مخزّنًا لدى الفوج قبل ارتفاع الأسعار. وُظفت المواد المخزّنة جميعها للاستجابة السريعة ومعالجة تداعيات انفجار المرفأ، ولكنّها بدأت تنفد بعد أن أجرى الفوج معظم أعمال الترميم في المراكز العسكرية.

 

ورش مُنفَّذة

آخر المشاريع التي قام الفوج بتنفيذها:

• تنفيذ أشغال لـ410 ورش خلال العام 2020 والتي تُقدَّر كلفتها بحوالى 1,7 مليار ليرة لبنانية، بالإضافة إلى إجراء 494 كشفًا هندسيًا في مختلف قطع الجيش.

• في موازاة مهمة المرفأ نفّذ الفوج 26 ورشة وثمة حوالى 20 ورشة قيد الانتهاء.

• تسليم الوحدات العسكرية المواد الأولية الهندسية المتوافرة في الفوج (ترابة سوداء، رمل، بحص، حديد)، بالإضافة إلى تصنيع مجسمات مسبقة الصنع من مخازن ذخيرة، محارس إسمنتية، مجسمات شكل تيه، مكعبات باطون، بوردورات، وفواصل إسمنتية (نيو جرسي).

• إنشاء قسم الكورونا في الطبابة العسكرية ومركزَين للحجر الصحي داخل ثكنة غازي الطويل وفوج الهندسة- الوروار.

• تأهيل مستشفى عين إبل ليُصار إلى تشغيله لمصلحة العسكريين وعائلاتهم في منطقة الجنوب.

• تنفيذ أشغال حفر وتركيز خزانات محروقات سعة 50 ألف ليتر (احتياط القيادة) في محيط محطات المحروقات لمختلف المناطق.

• تنفيذ معظم النصب التذكارية للشهداء في مختلف المناطق اللبنانية، وآخرها نصب «وفاءً لبيروت».

 

شهداء الفوج

لفوج الأشغال شهداء خلّد ذكراهم مجسّم صنعه النحّات شارل نصّار من بقايا الشظايا التي أدّت إلى استشهاد عدد من ضباطه وعسكرييه في حرب تموز 2006. هذا المجسّم يمثّل شخصًا يحمل العلم اللبناني وتحيط به قنطرة ترمز إلى الفوج كونها جزءًا من مهمّاته.

يتذكّر العقيد الركن مسعود أبي شقرا رئيس الفرع الثاني يوم قُصف الفوج، وقد كانت ظروفه مُبهمة عدا بعض الافتراضات التي بنَوها وفق المعطيات التي توافرت في حينها، ومفادها أنّ الفوج شكّل قوّة لوجستية فاعلة قادرة على إلغاء الكثير من مفاعيل العدوان.

سقط للفوج في اعتداء تموز 4 ضباط و7 عسكريين، وتكبّد في نهر البارد شهيدًا وعددًا هائلًا من الجرحى، بالإضافة إلى شهيد في جبل محسن وآخر خلال تنفيذ إحدى الورش.