وجهة نظر

«ملء عين الفتى.. سهلنا والقمم!»
إعداد: جورج علم

كانت لتلك الأيام نكهتها، وللمناسبات عاداتها وتقاليدها، حتى الأعياد، كانت على موعد دائم مع الفرح والبهجة، تجتهد الناس عندهــا لتبتكــر كــلّ ما من شــأنه أن يزيد من رونق المناسبة، ويضاعف من الغبطة والســلام الداخلــي، ويدفــع بالكبــار والصغار إلى عقــد حلقــات الدبكــة والرقــص، أو اســتذواق أشــهى أصنــاف الحــلوى.
كان لعيد الاستقلال وقعه الخاص في المنزل الوالدي، ما كنت أبالي بالدوافع والمحفّزات، ولكنّي أذكر جيدًا بأن والدتي، رحمها الله، كانت تحرص عشيّة العيد على تقديم صنفين متلازمين بعيد العشاء، فخّارة واسعة تضمّ «خلطة» شهيّة من الزبيب، مع التين المجفف، والجوز، واللوز، وصدر من النحاس تشغل واسعته أكواز الرمان.
سألتها مرّة عن هذا الكرم الحاتمي عشيّة هذه الليلة من كلّ سنة؟
أجابت بعفوية صادقة: إحتفاء بسعادة الإستقلال!
- وهل الاستقلال محافظ، او نائب، أو وزير، لكي نخلع عليه لقب صاحب السعادة، ونحتفي بقدومه؟!
- إنه أهم يا بني.. إنه الوطن، والكرامة، وغدًا عندما تعجنك الحياة، وتخبزك التجارب، و«تخشوشن» نعومة أظافرك.. ستدرك جيدًا ما معنى الإستقلال وعظمته؟!
- ولما الإصرار على تقديم الجوز واللوز والتين والعنب؟
- إنها عاداتنا وتقاليدنا. وما نقدّمه، هو بعض ما تجود به هذه الأرض، وهذه الأصناف إنما هي فاكهة الفرح في مواسم الفرح، تجود علينا الأرض، ونحن نجود على من نحب، بما تجود به.. ما نقدّمه هو من رائحة هذا التراب وعصارته.. أرضنا كريمة، وإنها خطيئة إن لم نبادر إلى المجاهرة بكرمها في الأوقات السعيدة!
- والرمان؟.. لماذا الرمان تحديدًا؟!
- الرمان هو الرمز الأبلغ، الرمانة وفق تقاليدنا القروية ترمز إلى الوطن الجامع، الحاضن، الواحد، الموحّد. وحبيبات الرمان ترمز إلى الشعب. الحبيبات بكبيرها وصغيرها متلاصقة، متراصّة، منسجمة، متعاونة، متحدة، بعضها إلى جانب البعض الآخر، وتشكّل بمجموعها المكوّن الرئيس للرمانة. هكذا الشعب بكبيره وصغيره، بمناطقه، ومواقعه، يشكّل مخزون الوطن متحدًا، متفاهمًا، متعاونًا لما فيه مصلحة الجميع، ومصلحة الوطن أولًا.
******
حتى الأيقونة المنزوية في الطاقة المكسوّة بالشحتار الأسود، كان يصيبها شيء من الإهتمام الخاص ليلة ذكرى الاستقلال. كانت تدلف نحوها الوالدة، حاملة شمعة مضيئة على نيّة أولئك الذين استشهدوا لكي يكون لنا وطن واستقلال.
تقول: «ليس بالجوز واللوز، والطبل والزمر نحافظ على الاستقلال، بل بالصلوات، والابتهالات، والنذور أيضًا، كي يرفع الله غضبه، ويحمي الجيش حامي الوطن، والمدافع الأول عن وحدة ترابه المقدس».
******
 في المدرسة الإبتدائية، كان الوضع مختلفًا. مع الأول من تشرين الثاني من كل عام، يبدأ «كرنفال» الاستقلال، وفق برنامج محدد، مطلعه إجراء مسابقات لتقديم أهم نصّ إنشائي، يتناول موضوعًا خاصًا بالاستقلال، أو أهم رسم، أو منحوتة، أو أشغال يدويّة، وتستمر هذه المنافسة حتى الخامس عشر من الشهر حيث تجمع المسابقات، والأشغال في مكتب المدير، وفق ترتيب خاص، يصنّف نتاج كلّ صفّ على حدة. ويشكّل المدير لجنة من الأساتذة تجتمع دوريًا، بعد انتهاء الدوام الرسمي، للنظر بالمسابقات، وتقييمها، وفق سلّم من الأولويات، ويكون هناك فائزون في المرتبة الأولى والثانية والثالثة، من كلّ مادة، على أن يتم في نهاية المطاف اختيار الأفضل والأجمل.
وتتناول المرحلة الثانية من «الكرنفال»، مباراة في الخطابة، بحيث تجتمع الهيئة التعليميّة يتقدمها المدير، وجميع الطلاب من مختلف الصفوف بعد ظهر كلّ خميس في الملعب المكشوف إذا كان الطقس صاحيًا، أو الصالة الواسعة، إن كان ممطرًا، ويستمعون إلى مجموعة مختارة من التلاميذ حول ما أعدوه من نصوص، أو قصائد، أو لوحات فنيّة خاصة بالاستقلال، وكان الحفل يستمر ساعتين تقريبًا، ويختتم بتنويهات أو ملاحظات من المدير والأساتذة.
أما المرحلة الثالثة والأهم، فهي صبيحة عيد الاستقلال، حيث يقام احتفال عام في الساحة الخارجية للمدرسة، يشارك فيه مختار البلدة، وأعيانها، وأولياء الطلاب، والأهالي. يبدأ عند العاشرة تمامًا بالنشيد الوطني حيث تتقدم مجموعة من الطلاب وترفع العلم اللبناني على السارية، فيما الجميع ينشدون. كلمة الافتتاح لمدير المدرسة، يليه ثلاثة من الخطباء، الطلاب الأوائل، يقدمّون أفضل ما عندهم من الشعر والنثر. يلي الحفلة الخطابية عرض لأفضل الأشغال اليدوية التي صنعها التلامذة احتفاء بالمناسبة، وبعد ذلك تبدأ مرحلة تكريم الفائزين بحيث يتولّى المختار وأعيان البلدة منح ميداليات خاصّة إلى مستحقيها، وينتهي الاحتفال بالنشيد الوطني اللبناني، يليه حفل استقبال تقدّم خلاله أطباق الفاكهة، والحلوى، والمشروبات الغازيّة.
حفرت المدرسة الرسميّة الإبتدائية الغابرة عميقًا في ذاكرتنا الوطنيّة، وتركت أثرًا لا يمحى في صفوف روّادها، أين منها اليوم المدارس الإبتدائية التي لا تعرف من الاستقلال، سوى العطلة الرسميّة، ولا من المآثر سوى التنافس على «الإنترنت» و«التويتر»، و«الفايسبوك»، وكل ما يساهم في الإنحدار الخلقي والوطني أو يزيده؟!
******
سألت مرّة إبني البكر، وكان قد تخرّج قبل سنوات، من أهم جامعات لبنان. كنّا معًا في السيارة، ونحن في الطريق لمشاهدة العرض العسكري في جادة الرئيس شفيق الوزان، صبيحة عيد الاستقلال: هل تعرف النشيد الوطني؟
- أجاب مبتسمًا: طبعًا.. طبعًا؟!
- ما هو؟
- أجاب متلعثمًا: كلّنا للوطن.. للعلى للكمال/ ملء عين الفتى.. سهلنا والقمم/..
فنهرته صارخًا.. شكرًا.. شكرًا.. لقد كفّيت ووفيت.. ولكنني أرجوك لا تردده بعد اليوم أمام أيّ كان، حتى لا يلعنوك!
وضحكت من السخرية!.. إنه الجيل الجديد الذي سيتسلم مقاليد جمهورية الاستقلال... وعلّي عالريح يا رايتنا العلييّ؟!...
رحمك الله يا والدتي، ورحم كلّ أمهات لبنان اللواتي حملن أجنّة كانت تنبض في عروقها روح الوطنيّة، وحب الوطن!