من واقع الحياة

آثار التنمّر قد تكون مدمّرة كيف نحمي أولادنا منه؟
إعداد: ليال صقر الفحل

بات لمصطلح التنمّر مساحة واسعة في حياتنا اليومية، وفي حين كان يشكّل ظاهرة يشكو منها التربويّون في المدارس، أصبح متداولًا بين إعلاميين وفنانين ومشاهير يقولون إنّهم يتعرضون للتنمّر أو الاستقواء من قبل الآخرين. فما هو التنمّر؟ وهل يُشكّل كل سلوك عنيف تجاه آخرين تنمّرًا؟ وما أسبابه وأنواعه وآثاره، وهل تقتصر هذه الآثار على الطرف الأضعف أي الضحية، أم تشمل أيضًا المعتدي أو المتنمّر؟

بداية، يُلاحظ في عديد من المجتمعات استشراء السلوكيات العدوانية بين تلامذة المدارس وزملاء العمل وسواهم، وصولًا إلى العائلات أحيانًا. وتدور هذه السلوكيات في فلك الإساءة والإيذاء الجسدي والنفسي والمعنوي، لكن لا يمكن تصنيفها جميعًا في خانة التنمّر Bullying. فالأخير يكون سلوكًا متعمّدًا متكررًا يقوم به شخص حيال آخر أضعف منه بقصد إيذائه جسديًا أو نفسيًا أو اجتماعيًا، وبالتالي عندما نتحدّث عن التنمّر نكون أمام سلوك تتوافر فيه المقومات الثلاثة التي سبق ذكرها.

انتشرت آفة التنمّر بسرعة وأسهمت في ذلك عوامل عدة، من بينها التقدّم التكنولوجي الذي قد يتيح لشخص ما أن يمارس التنمّر على آخرين من دون أن يكون موجودًا بينهم، أو حتى من دون أن يكشف هويته، وهذا ما أضاف إلى أنواع التنمّر التقليدية نوعًا جديدًا هو التنمّر الإلكتروني.

توضح الاختصاصية في علم النفس العيادي والمحللة النفسية الدكتورة ماري-آنج نهرا، أنّ التنمّر قد ينتج عن عوامل عدة كالتربية غير الواعية والإساءة للأبناء والعنف الأسري، ما يولّد الشعور بالظلم والقلق والاكتئاب وعدم القدرة على التعبير عن المشاعر بشكل صحيح، وعدم القدرة على التعامل مع الضغوط الاجتماعية بشكل جيد. ويمكن الجزم بأنّ التنمر يكون نتيجة عوامل مرضيّة كالاضطرابات السلوكية أو النفسية أو العقلية لدى المتنمّرين، والمثال على ذلك اضطراب الشخصية النرجسية أو الاضطراب النفسي السلوكي أو الفصام.

من جهة ثانية، يمكن أن يصبح الشخص متنمرًا أيضًا نتيجة لأسلوب خاطئ في التربية أو بيئة غير صحية في المدرسة أو المجتمع، فعلى سبيل المثال إذا لم يتلقّ الطفل تعليمًا صحيحًا ومناسبًا حول كيفية التعامل مع الآخرين باحترام وتسامح، قد تكون البيئة التي ينمو فيها بيئة تشجع على التنمّر.

 

أنواع التنمّر

ينقسم التنمر إلى أنواع عدة، بحسب الطريقة التي يتم فيها أو بحسب السياق الذي يحدث فيه، وأكثره شيوعًا وفق نهرا التنمّر الجسدي الذي يشمل التهديد، وصولًا إلى استخدام القوة الجسدية كالركل والضرب، فضلًا عن سرقة الأغراض والممتلكات. في ما خص التنمّر اللفظي، فهو يتضمّن استخدام عبارات سلبية ومهينة وتهديدات لفظية كالسباب والشتم والتجريح والتشهير. أما التنمّر الذي يجعل الضحية في موضع عزلة واستبعاد عن النشاطات الاجتماعية، فهو التنمر الاجتماعي الذي يتضمّن نشر الشائعات، ما يدفع الضحية إلى الابتعاد عن المجتمع والانعزال. يُضاف إلى الأنواع السابقة التنمر المعرفي، بحيث يستعمل المتنمر قوته العقلية للتنمر على الآخرين فتتشوّه صورة الضحية الذاتية وتقل ثقتها بنفسها وتتأذى صحتها النفسية.

وتماشيًا مع التقدم التكنولوجي والرقمي الذي ينمو يومًا بعد يوم، كان لا بد للتنمر عبر الإنترنت أو ما يسمى بالتنمر الإلكتروني أو الرقمي أن يجد له مكانًا في حياتنا اليومية، كأن تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي والوسائل الإلكترونية كمنصات للتنمّر عبر نشر الشائعات والتهديد بنشر معلومات خاصة والإساءة اللفظية عبر الرسائل النصية…

يمكن في بعض الحالات أن تتداخل أنواع التنمّر بعضها مع بعض فتكون آثارها أشد على الضحية، ما قد يؤدي أحيانًا إلى الانتحار.

 

شهادات جارحة
«يتبادل رفاقي في الصف على تطبيق الواتساب صورتي ألبس نظارتي وأركز في كتابي ويسخرون مني ويرفقون الصورة بعبارة »The Nurd ، يقول جاد ( 12 عامًا) حزينًا دامعًا. ويضيف: «بتّ أخجل أن يعرف رفاقي علماتي لأنّها جيدة جدًا فيذكّرونني بأنّني ال Nurd كل الوقت .»
ماريا ( 9 سنوات) هي أيضًا ضحية تنمّر رفاقها الذين يسخرون من الشعر الزائد على وجهها وجسمها فينادونها ب «ماريو ». تقول: «أنا لا أحب المدرسة ولا زملئي وأفضّل البقاء في المنزل، المدرسة بالنسبة لي أشبه بكابوس. أخاف إن اشتكيتهم أن يُمعنوا أكثر في إذلالي .»
«يعيّرونني بوزني الزائد يقول رامي ( 10 سنوات)، ويركضون حولي في الملعب ويشيرون إلي ويصفونني بالبرميل المتحرك.
يضايقونني كثيرًا فأعود إلى منزلي باكيًا معظم الأيام، لا أشكو لوالدتي لأنني لا أريد أن أضايقها فهي تشكو من السكّر في الدم، أخفي مشاعري حتى لا تحزن أمي لحزني

 

الآثار تشمل المرتكب والضحية

يجب التعامل مع التنمر من خلال اتباع مجموعة من الإجراءات يتخللها التدخل النفسي والتدقيق وتطوير سياسات صحيحة لمنع تأثيراته السلبية، وهي لا تقتصر على الضحية بل تشمل المتنمّر أيضًا. فالتنمّر على الآخرين يمنح مرتكبه الشعور بالقوة أو السيطرة المؤقتة، لكنّه في الوقت عينه ينمّي في نفسه شعورًا بعدم الارتياح أو العجز، خصوصًا إذا أدى أسلوبه بالتنمر إلى ابتعاد أصدقائه عنه، وشكّل له الأمر مشكلات في العلاقات الاجتماعية.

ومع الوقت، قد يقود التنمر إلى خلافات في العمل والعلاقات الشخصية ما قد يجعل المتنمر معزولًا، ومن هذا المنطلق يكون للتنمر تأثير في السلوكيات. ومتى تخطى التنمر المستوى المعقول، يمكن أن تلجأ الضحايا إلى القانون لحل المشكلة، وبذلك يتخطى التنمّر المنحى الاجتماعي نحو المنحى القانوني.

هذا من جهة المتنّمر، أما بالنسبة إلى الضحايا، فتؤكد نهرا أنّ التعرّض المستمر للتنمّر يؤدي بالضحية إلى الإحباط والقلق وحتى إلى الاكتئاب، فضلًا عن انخفاض تقدير الذات وضعف الثقة بالنفس. إلى ذلك يؤدي التنمّر إلى انعزال الضحايا اجتماعيًا ومعاناتهم صعوبات في حياتهم اليومية وفي تكوين علاقات اجتماعية صحية والمحافظة عليها. أما أكاديميًا، فقد يؤثر التنمر في الأداء المدرسي للضحية، فينخفض مستوى تركيزه ومشاركته وتحصيله العلمي.

الآثار التي سبق ذكرها ليست قاعدة مطلقة، وقد تختلف باختلاف الظروف والأشخاص. إلّا أنّ فهم تأثير التنمّر على كل من المتنمّر والضحية، من شأنه أن يساعد في تطوير الاستجابات الفعالة للتصدي لهذه الظاهرة ومنع حدوثها في المستقبل، وتقديم الدعم المناسب للضحايا والمتنمرين.

 

التنمّر في المدارس

تعتبر الدكتورة نهرا أنّ المدارس هي من أكثر الأماكن التي تشهد حالات  تنمّر، إذ يحاول عدد من التلامذة السيطرة على آخرين أصغر منهم أو أضعف منهم. يتقن المتنمّر اختيار ضحيته التي تكون عادةً منغلقة لا تحب الاختلاط، وغالبًا ما يجذب إليه آخرين إما بسبب خوفهم منه، أو بسبب الإعجاب بقدرته على السيطرة، ويشكلون معًا ما يشبه «شلّة». واللافت أنّ بعض الأطفال يشاركون بالتنمّر فقط من أجل الشعور بالانتماء، فيقبلون بالتهكم على صديق لهم أو حتى الاستهزاء به وضربه بهدف الانتماء إلى المجموعة القوية المهيمنة، وهؤلاء يكونون عادةً ممن يعانون الرفض الاجتماعي أو الخوف من الآخرين، فيكتسبون من التنمّر سلطة وقوة وأداة ترهيب للآخرين.

 

في مواجهة التنمّر

دور الأهل أساسي في مساعدة مَن يعانون التنمّر، من خلال عدة نقاط تلخصها نهرا بالآتي:

- تعليم الطفل تقنيات قبول الذات وعدم التركيز على النقاط السلبية التي يركّز عليها المجتمع.

- إعطاء الأبناء الحنان والحب اللازمين لتحقيق الأمان العاطفي الكافي، فلا يعوزهم البحث عن الحنان في مكان آخر.

- تعليمهم النظر إلى الذات نظرة استحسان واحترام، والتأكيد لهم أنّنا كأهل نشكّل قوة مساندة دائمة ومجانية مهما كانت الظروف.

- تشجيع أبنائنا على التعبير عمّا يشعرون به والحوار معهم وتشجيعهم على التحدّث عن كل ما يصادفهم في المدرسة أو خارجها.

أمّا بالنسبة إلى الطفل المتنمّر، فيجب أن لا ننسى أبدًا أنّ الأطفال يقلّدون البالغين، لذلك على الأهل والمربّين أن يكونوا قدوة صالحة. ومتى وُجدت مشكلة، عليهم مساعدة الطفل المتنمّر من خلال تشجيعه على التحدث عن مشاكله، وهي طريقة تقلّل من خوفه وتحدّ شيئًا فشيئًا من تصرفاته العدائية تجاه رفاقه. وفي خطوة إضافية لمساعدة المتنمرين، يجب منحه الحنان والعطف والمساندة، لأنّ مواجهة تصرفاته بالعقاب والصراخ والتجاهل ستزيد الأمر سوءًا.

 

أما دور المدرسة فيتلخّص في الآتي:

- تقديم معلومات عن التنمّر وأثره وكيفية التعامل معه، وقد يكون الحوار المفتوح والصادق حول هذا الموضوع مفيدًا لتشجيع الأطفال على مشاركة تجاربهم ومشاعرهم. ومن هذه النقطة يتكوّن التواصل الصحي الذي يحثّ الأطفال على التبليغ عن التنمّر سواء كانوا ضحايا له أو شاهدين عليه.

- تبادل المعلومات مع المعلمين بشكل دوري حول أي حالات تنمّر والعمل معهم على وضع استراتيجيات فعّالة استنادًا إلى الدراسات العلمية.

- دمج التلامذة بعضهم ببعض من خلال نشاطات اجتماعية وألعاب رياضية تحقق الانسجام التام في ما بينهم.

- تعليم الأطفال في المدارس من خلال ساعات تُخصص أسبوعيًا لهذا الغرض، كيفية مواجهة المشاكل التي يمكن أن تعترضهم خلال يومهم، وعن الاستخدام الآمن للتكنولوجيا الرقمية وكيفية التصرف في حال تعرضهم للتنمّر عبر الإنترنت.

وإذا استمرت مشكلة التنمر رغم هذه الخطوات، يمكن اللجوء وبعد التنسيق بين الأهل والمدرسة، إلى مساعدة إضافية من خلال استشارة متخصصين أو مدربين أو مرشدين في السلوك. ويُنصح الكادر التعليمي بطلب مساعدة اختصاصي نفسي يكون حاضرًا في المدرسة يواكب الحياة اليومية والنشاطات، فيقرر من تتخطى تصرفاته المستوى المقبول ويكون بحاجة للتدخل والمعالجة.

ربما أخطر ما في التنمّر بين الأولاد في المدارس هو عدم التنبّه إليه وتشخيصه كمشكلة تحتاج إلى معالجة، فآثاره قد تكون مدمّرة. وبالطبع فإنّ تشجيع الولد على مواجهة المتنمّرين ليس بحل، وعبارة «ضربك ضربو» يجب أن تُحذف من القاموس لتحلّ مكانها الخطوات والإجراءات التربوية المناسبة.