العوافي يا وطن

آخ يا وطن
إعداد: د. إلهام نصر تابت

إنّه صباح الثلاثاء 17 أيار. صفُّ المنتظرين في الشمس أمام آلة سحب الأموال التابعة لأحد المصارف طويل نسبيًا. عادة ما يخف الإقبال في هذا الوقت من الشهر، فالموظفون يكونون قد سحبوا رواتبهم وصرفوها وقضي الأمر. غير أنّ قرار صرف المساعدات الاجتماعية المقررة للقطاع العام عشية الانتخابات، بدّل المشهد. بين المنتظرين عسكري. لم يحاول تجاوز دوره بحجة العودة إلى الخدمة أو التشاطر للمرور قبل سواه كما يفعل كثيرون. «فرجها الله» وصار الدور عنده، أدخل بطاقته في الآلة، لكنّه سرعان ما تراجع. سأله أحد الواقفين في الصف: «شو يا وطن ما بقى في مصاري بالمكنة»؟ ردّ العسكري: «لم استطع سحب المساعدة، تخطيت السقف المسموح به». وبينما هو يستدير ليغادر المكان، ارتفع صوت أحد الحاضرين، شتم المصارف والمسؤولين، وخاطب العسكري قائلًا: «فوت عالبنك و... ما تفل قبل ما يقبضوك»، وأطلق دفعة جديدة من الشتائم. أما العسكري فهز رأسه ومشى.

آخ يا وطن... يا عائدًا من التعب إلى التعب، كم تحمّلت وكم ستتحمّل بعد؟ بالأمس لبّيت صوت الواجب، طويت أوجاعك كلها، وضّبتها في علبة الصبر التي باتت أضيق من أن تتسع لهمومك كلها وهي تكبر يومًا بعد يوم. مضيت إلى ساحات وشوارع بعيدة، وقفت أمام مراكز الاقتراع شامخًا، أبيًا، عزيز النفس، مشرق الابتسامة، كامل الهندام. ما كان للّبنانيين وهم ينظرون إليك أن يفهموا كيف أنّ هذا العسكري «المصلوب» في الشمس ساعات وساعات، ليؤمّن لهم حرية الاقتراع والتنقّل، هو نفسه الذي بالكاد يؤمن له راتبه كلفة الاشتراك في المولد الكهربائي. ما كانوا ليصدقوا أنّه قادر بعد على تلبية نداء الواجب في كل مرة بهذا القدر من الجهوزية والانضباط والصبر. نعم، ما تقوم به يا وطن صعب أن نستوعبه بالمقاييس العادية. إنّه أمر لا يُفهم إلا بمقاييس الشرف والتضحية والوفاء التي أثبتّ أنّها في صلب تكوينك، وهو ما يُدهش قادة جيوش صديقة ومسؤولين دوليين كثرًا.

انتهت الانتخابات يا وطن، شكرًا لك. كان الرهان على قدرتك كبيرًا. كُثر راهنوا على فشلك، وكُثر كانوا يدركون أنّ تنفيذك المهمة وأنت على هذا القدر من المعاناة أمر يشبه المعجزة. لكنّك فعلتها، فعلتها وأدهشت الأقربين والأبعدين على السواء، فهنيئًا لنا بك.

انتهت الانتخابات يا وطن، لكن ماذا بعد؟ ما الذي سيفعله أهل الحل والربط لإخراجنا من النفق الرهيب؟ سنوات وأنت تجهد وتعمل بشق النفس لتحفظ الاستقرار الذي هو ربما النعمة الوحيدة الباقية لنا. سنوات وأنت تمنع الانفجار الذي تلوح معالمه في كل مكان من الوطن المنكوب. إلى متى يظل الأمن ممسوكًا بسهرك وتضحياتك فقط، بينما الأزمات تتعمّق وتستفحل وتهدد بنار تأكل كل ما تبقّى؟

قيادتك رفعت الصوت ونبّهت كثيرًا ولكن... على من تقرأ مزاميرك يا جيش؟

حافظ على إيمانك يا وطن، إيمانك هو الذخيرة التي تحمينا. هو الأمل الذي يعيننا على مواجة الأهوال.

حافظ على عزيمتك يا وطن، لقد أثبتّ أنك قادر على اختراع العزم والصبر والأمل.

حافظ على كل ما عرفناك به، فمن دون ذلك لن يبقى لنا وطن.

العوافي يا جيشنا.

العوافي يا وطن.