من التاريخ

آشور ناصر بال الثاني بطش ونكّل وعمّر...
إعداد: المقدم محمد الزين

أحد كبار الغزاة الذين مرّوا في بلادنا

 

في تاريخ بلاد الرافدين خلال العصور القديمة، ملك آشوري كبير هو آشور ناصر بال الثاني، أحد أبرز حكّام العراق القديم، الذي شهد عهده تطورات مهمّة على الأصعدة العسكرية والسياسية والحضارية. وهو يعتبر أعظم شخصية آشورية في المرحلة الأولى من عصر الدولة الآشورية الحديث، وقد اعتلى العرش بعد والده توكلتي - نينورتا الثاني.

أضرب قبل أن تضرب
ورث آشور ناصر بال الثاني عن أسلافه الأقربين جيشًا محنّكًا وعقيدة قتالية ثبّتها هو وتبنّاها خلفاؤه من بعده. مفاد هذه العقيدة، الآتي: «أضرُب قبل أن تُضرَب وهاجم قبل أن تهاجَم واجعل تنكيلك بأقرب خصومك عبرة يخشاها بقية أعدائك».
عثر على الكثير من أخبار آشور ناصر بال الثاني العسكرية في مدينة كالح أو نمرود والتي كان هو من أنشأها. وتدلّ هذه الأخبار على القسوة التي اشتهرت بها حروب الآشوريين ضد خصومهم. ومن الأمثلة على ذلك ما كتبه مؤرخه واصفًا مثلاً سقوط مدينة «كينابو» التي كان يحكمها هولاي:
«لقد قتلت 600 من العساكر بحد السيف وأحرقت بالنار ثلاثة آلاف أسير ولم أبقِ على أحدٍ منهم حيًا ليصبح رهينة في يدي. وقد وقع أمير المدينة أسيرًا في يدي. كومت جثثهم حتى صارت في علوها وكأنها برج، وأحرقت فتيتهم بالنار. وأما الملك فلقد سلخته وعلقت جلده على جدار مدينته دامداموسا التي دمّرتها وأحرقتها بالنار».
ويبدو أن الأسلوب الذي اتبعه آشور ناصر بال الثاني ومن جاء بعده، وهو أسلوب القتل والتعذيب، قد طبّق على بعض القرى أو المدن التي استعصى على الجيش الآشوري فتحها، أو رفضت أن تسمح له بالمرور على أراضيها، فكان مصيرها عبرة لبقية المدن أو القرى.
استهلّ آشور عهده بتجديد شامل للنظم العسكرية فكوّن جيشًا جديدًا ومتطورًا اعتمد سلاح المشاة فيه على الجنود الآشوريين، بينما اعتمد سلاح العربات إلى حدّ كبير على فرسان من الحلفاء. ومع هذين السلاحين انبثق فن حصار المدن الذي تطلّب تزويد الجيش آلات حربية أشبه بالدبابات في الجيوش الحديثة، الأمر الذي لم يصل إليه من قبل شعب آخر في المنطقة. وقد اعتمد تصميم هذه الآلات أساسًا على معول لهدم الأسوار، هو أشبه ما يكون بالمدفع المثبّت في هيكل موضوع بأكمله فوق عجلات (أربع أو ست عجلات)، كما استخدم فرق الخيالة على نطاق واسع.


الحملات
بدأ آشور الثاني حملاته في الجهة الشرقية من دولة آشور ونجح جنوده في إخضاع المناطق المسماة «أرض توم» واستولوا على مدنها الحصينة. ثم اتجه إلى منطقة كيروري في الشمال حيث كان السكان يؤدون له الجزية من الخيل والذهب والفضة والقصدير والنحاس. بعد ذلك اتجه الملك الآشوري إلى أرض كيرهي فعبر ممرّ هولون حيث لقي مقاومة عنيفة، ولكنه تمكّن من الاستيلاء على عاصمة كيرهي، ثم أرسل حملتين لإخضاع منطقة زامو وإقليم تشخان نجحتا في تثبيت السيادة الآشورية عليها.
اشتد الصراع بين آشور و«بيت زماني» أقوى الولايات الأمورية في الشمال والتي كانت تسعى لإشعال الثورة ولمضايقة آشور، لكن آشور ناصر بال الثاني قضى على الثورة وأدّب الثائرين، وفرض الجزية على بعض الدويلات الآرامية الأخرى. كما أخمد الثورة التي قامت في لاق وخنداق وسوخو وقضى عليها بعنف. وبعد أن فرض آشور ناصر بال الثاني جبروته على المناطق الواقعة شمال نهر دجلة، قام بترميم مدينة قديمة على النهر (توشتمان) لتكون حامية عسكرية. ولكن في الحقيقة، كانت هذه المدينة قاعدة رئيسة ومستودعًا للتخزين، وكان سكانها من الآشوريين الذين يحصلون على الحبوب والمؤن الأخرى من المناطق المجاورة بحيث تستطيع في حالة تعرّضها للهجوم الصمود مدة غير محدودة.


على شاطىء فينيقية
في العام 876 ق.م. توجه الملك الآشوري نحو قرقميش فلم يقاومه ملكها، وقبِلَ أن يدفع اتاوة كبيرة، فعبر الجيش الآشوري الفرات واخترق سوريا إلى الساحل، ثم عبر نهر العاصي ودخل لبنان وصولًا إلى شاطىء البحر المتوسط من دون مقاومة. وقد خضعت له المدن الفينيقية (876 ق.م.) التي أرغمها على دفع الجزية وأقام بهذه المناسبة لوحة تذكارية عند نهر الكلب. وكانت تلك أول مرة منذ عهد تجلات بلاسر الأول، يصل فيها ملك آشوري إلى البحر المتوسط.
عمد الملك آشور ناصر بال الثاني إلى توطين الآشوريين في المدن المفتوحة ليصبحوا سادتها والمنتفعين بخيراتها، وليخمدوا نشاط زعمائها ويكونوا عيونًا عليها لدولتهم، متابعًا بذلك سياسة عمــل بهــا أسلافــه الآشوريــون.
أخيرًا لم تكن انجازات هذا الملك بأسرها عسكرية، بل شملت كذلك جوانب حضارية، لعل من أهمها بناء مدينة كالح (الآن تلةٍ نمرود) والتي أسسها شلمناصر الأول وتحوّلت إلى خرائب. وقد كان لموقع المدينة أهمية استراتيجية لكونه في الزاوية التي يتصل بها نهر الزاب الأعلى بنهر دجلة.
زوّد الملك عاصمته الجديدة بالمياه عن طريق قناة مدت من الزاب الأعلى، وبنى فيها أبنية رائعة مع أنظمة للصرف الصحي. وزيّنها بالحدائق وأسكن فيها شعوبًا من مختلف أنحاء الأمبراطورية، وجعلها مدينة عالمية. وتفيد النقوش أنه دشّن هذه المدينة بإقامة وليمة دامت أسبوعًا كاملًا، وقد سجّل هذا العمل في نقش ذُكر فيه حتى قائمة المأكولات.


المراجع:
1. عبد العزيز صالح، الشرق الأدنى القديم.
2. محمد بيومي مهران، تاريخ العراق القديم.
3. هاري ساغز، عظمة آشور، ترجمة خالد عيسى وأحمد غسان.


هوامش:
• جاء توكلي – نينورتا الثاني على العرش بعد وفاة والده «أداد- نيراري الثاني» وقد حكم من العام 890 إلى العام 884 ق.م وتميّز عهده بإقامة العديد من الحصون على الحدود.
• يقسم التاريخ الآشوري إلى ثلاثة أقسام هي: العهد الآشوري القديم ويبدأ من فجر التاريخ الآشوري وحتى نهاية حكم أسرة بابل الأولى. والعهد الآشوري الوسيط ويبدأ من نهاية حكم أسرة بابل الاولى وحتى بداية القرن التاسع قبل الميلاد. والعهد الآشوري الحديث أو عصر الأمبراطورية، ويمتد من 119 إلى 906 ق.م، على أنّ هناك من يقسم العهد الآشوري على غير ذلك؛ للمزيد راجع محمد بيومي مهران، تاريخ العراق القديم.