في بيتنا ثكنة

آل التلاوي ومسيرة الجندية: عنفوان وفخر ورضى
إعداد: المعاون جيهان جبور

تحكي الوجوه أعمار أصحابها، والعمر ليس مجرد سنوات، إنّه الحياة. على وجهي أحمد وحليمة التلاوي (أبو غياض وأم غياض) نقرأ مسيرة حياة فيها الكثير من المشقات، ولكن فيها الكثير من الرضى المقترن بكرم النفس والاستعداد للعطاء. أب وأم جاهدا كثيرًا من أجل عائلة تضم ١٤ ولدًا في بلدة من بلدات عكار البعيدة، حيث سبل العيش محدودة وملتصقة بالأرض. ارتداء ٨ من الأبناء بزة الجيش هو أبرز العلامات في مسيرة عائلة التلاوي الفخورة بأبنائها، والتي تحضّر الأحفاد ليكونوا على مثال آبائهم جنودًا في مؤسسة حضنتهم وهم لم يبخلوا بالعطاء من أجلها.

 

تبعد القرقف العكارية بلدة آل التلاوي عن بيروت أكثر من ١٠٠ كلم، أولادها الجنود الثمانية اعتادوا النهوض قبل الفجر للانطلاق إلى مراكز خدمتهم الموزعة في مختلف المناطق اللبنانية. راحوا يتطوعون الواحد تلو الآخر حتى أصبح بيتهم أشبه بثكنة، وهم فخورون جدًا بذلك كما أهلهم. 

قصدناهم وكان في استقبالنا الوالد والوالدة و٣ من العسكريين، ومائدة تزخر بالأطايب، «تشريفكم عزيز جدًا» تقول أم غياض والفرح يفيض من عينيها لرؤيتنا في البزة العسكرية. «يا هلا بالجيش، تفضلوا، تتناولون الفطور أولًا، ومن ثم نتحدّث». ننصاع لكرمها وطيبتها ونتذوق السمنة مع العسل واللوز، اللبنة البلدية، البيض المقلي، الشنكليش، الزعتر البلدي، والمكدوس... 

 

«قلبي بيكبر»

«لا فرحة في الدنيا تضاهي ما أشعر به عندما أرى أبنائي يرتدون البزة العسكرية»، بهذه الكلمات يعبّر العم أبو غياض عمّا يخالجه من فخر وعزة بأبنائه، مؤكدًا أنّهم من صغيرهم إلى كبيرهم يعتنون ببعضهم البعض، وهذا ما سعى طوال عمره لتعزيزه في ما بينهم، اللحمة والتعاون من الخصال التي نشأوا عليها وترسخت في نفوسهم بفضل التنشئة العسكرية، في البيت مشاعر الأخوّة تتقدم على ما عداها، وفي الخدمة تجمع أخوّة السلاح والمبادئ بين الرفاق.

يحصل أحيانًا أن يكون الأبناء الثمانية في الخدمة بسبب أوامر الحجز، لكن أبو غياض وأم غياض يظلان محاطَين بالأبناء الباقين وبزوجات أبنائهما الجنود، وهذا ما حصل أكثر من مرة. «لكن لم يحصل أن شعرنا بالوحدة أبدًا» يقول الوالد مطلقًا الدعوات لأبنائه وعائلاتهم.

 

«الله يردّك بخير»

«العيد عندي عندما يجتمع أربعة من أبنائي كحد أقصى على لقمة الغداء، فمن سابع المستحيلات أن يكون الثمانية مأذونين»، هذا ما تقوله أم غياض، مؤكدة أنّها هي من شجعتهم على الانخراط في المؤسسة العسكرية. هي أم لأربعة عشر ولدًا (١٠ ذكور و٤ إناث) اثنان من الذكور لم يحالفهما الحظ في الانخراط في المؤسسة العسكرية. تؤكد لنا: «لو استطعت لأنجبت المزيد من الأبناء وجعلتهم جنودًا في خدمة الوطن».

ماذا عن القلق والخوف عندما يكون واحد أو أكثر من أولادها في موقع الخطر وكيف تتعاطى مع الأمر؟ 

تُسلّم أم غياض أمرها وأبناءها لله، تُدرك أن حياة الجنود حافلة بالخطر لكن سلاحها هو الإيمان، تُخبرنا: «شارك ٣ من أبنائي في حرب نهر البارد، فأصيب اثنان إصابة بسيطة بينما كانت إصابة الثالث بليغة. نقلته طوافة إلى المستشفى، عندما سمعت صوتها بدأت بالدعاء للمصاب بالشفاء من دون أن أدري أنّه كان ابني. خلال تلك المعركة كنت أقوم بتحضير وجبة الغداء لأبنائي ولرفاقهم، وأدعو لهم بالسلامة جميعًا». 

 

الأبناء على طريق الآباء

اللواء اللوجستي، المغاوير، مغاوير البحر، فوج مكافحة الإرهاب والتجسس، وزارة الدفاع، القوات الجوية ومنطقة الشمال، تلك عينة من الوحدات التي توزّع فيها الإخوة الثمانية وفق ما يخبرنا العريف أحمد التلاوي. هو لا ينفي وجود المشقات في الحياة العسكرية لكنّه يشعر بالقناعة والرضى، ويقول: «بشكل عام نحن مرتاحون في ظروف خدمتنا، وفخورون بانتمائنا إلى المؤسسة العسكرية».

هل صدف أن التقى عدد منهم في قطعة أو دورة دراسية واحدة؟ يجيب العريف التلاوي بأنّ اثنين من إخوته تابعا معًا دورة في ثكنة الشيخ عبدالله في بعلبك، عدا عن ذلك فمن النادر أن يلتقوا في مكتب دراسة أو أي نشاط عسكري مشترك.

ويُخبرنا أنّ كثرًا من أقاربهم تطوّعوا لمصلحة الجيش، «أولاد أعمامي الثمانية في المؤسسة، أخي الأكبر قدّم ملف ابنه للتطوّع، وملف ابني أيضًا وكذلك ابن اختي، المؤسسة تجمعنا آباء وأبناء». 

هل يفكرون بمشروع مشترك يجمعهم بعد التقاعد؟ يشير إلى أنّه يعمل على مشروع زراعي يعملون فيه معًا. وبما أنّ بلدتهم مشهورة بالزيتون يُفكر بضمان بساتين وإنشاء معصرة أو «مكبس جفت». 

أمنيته أن يجتمعوا معًا ولو لمرة، لكن يبدو أن الأمر لن يتحقق إلا بعد تقاعدهم.

 

لا ضمانة سوى الجيش

بين الإخوة الثمانية من أصبح متقاعدًا، المعاون أول المتقاعد عبدو التلاوي تطوّع منذ العام ١٩٩١ لصالح اللواء اللوجستي وخدم هناك لمدة ثماني سنوات قبل أن يتم تشكيله إلى قيادة الجيش إلى أن تم تسريحه منذ سنة ونصف. نتحدث إليه وأول ما يبادرنا به هو القول: 

«لحم كتافنا من هذه المؤسسة الشريفة التي قدّمت لنا الكثير، وحمتنا من الأحزاب. لقد مشينا على العقيدة التي يؤمن بها أبي وأمي بأن لا ضمانة في البلد سوى الجيش اللبناني». يشكر الله أنّه كان مخلصًا لهذه المؤسسة، ويقول: «كلما رأيت أحد إخوتي مرتديًا البزة العسكرية يغمرني الحنين»... 

 

الحمدلله ميّسرة

تطوّع العريف مصطفى التلاوي في العام ٢٠١١ لصالح لواء المشاة السابع وتمّ تشكيله إلى فوج مكافحة الإرهاب والتجسس. وهو بصدد متابعة مكتب دراسي يخوّله الترقي لرتبة رقيب. يشعر بالاستقرار بفضل انتمائه إلى المؤسسة العسكرية وفق ما يخبرنا، ويشير إلى أنّ المؤسسة تضمن له ولأسرته الطبابة وهذا أهم شيء في هذه الظروف. أما التنقّل بين عكار وبيروت فتوفره الباصات العسكرية، «الأمور ميسرة والحمدلله» يقول.

بيت ملؤه الطيبة، يضج بالعنفوان والفخر برجال يخدمون الوطن. بيت فيه الكثير من الإيمان والرضى، نغادره حاملين أطيب المشاعر و»شوية مونة» من خيرات تلك الأرض الطيبة.