بلى فلسفة

آنسة مؤنسة أنيسة
إعداد: العقيد اسعد مخول

كان ذلك لدى خروجي من احتفال ثقافي جرى فيه الحديث على إنتاج أديب مجتهد, حين استوقفني أحد الأصحاب مدردشاً حول ما جرى. وكان ازدحام يبشّر بشيء من الخير لدلالته على وجود من يهتم بالأدب في هذه المحطة اللعينة من التاريخ, كائناً ما كان وجه الاهتمام, وكائنة ما كانت حقيقة الاطّلاع, فصحيح انّ المسألة لا تتعدى معرفة بعض الأسماء لدى اكثر المهتمين, إلاّ أن ذلك أفضل مرّات ومرّات من حفظ أسماء سارقي الخيرات, ومالكي العمارات, وحالقي العقارات, وحارقي العملات و... قلوب الفقراء والمعوزين.
كانت الضوضاء الحاصلة تذهب بالكثير من تفاصيل الحديث, وكنا نتبادل الموافقة على ما نطرحـه من آراء بتحريك الرأس تارة, وإضافـة بعض الشّروحات غير المسموعة طوراً, لافتراض أنّنا على وفاق في الفحوى والمضمون, وأن ما نحكيه ليس إلاّ تواقيع على الأبيض الزاهي. وكنت أنا حين أسلمّ إحدى أذنيّ لمحدّثي أقترب منه برأسـي, وأحني كتفي فيتحول النظـر بذلـك الى خليّـة الناس المحيطـة بنا, فأرى بعضهـم يغـرس الهواتـف الجوّالة في الآذان مسترسلاً في أحاديث ملؤها الانسجام والوضوح, فكأنّ الأرواح هي التي “تتسامع” في ذلك وتتفاهم, لأنّ السمع الطبيعي غير ممكن في تلك الجلبة على الإطلاق.


ونحن في ذلك اقتربت منا امرأة مصافحةً نظيري بودّ ومحبة, فبادلها بذلك زائداً مضيفاً, ثم قدّمها إليّ معرّفـاً عن اسمها, ومعلنـاً أنها تلميذتـه فلانـة, فنظـرت إليّ لطيفـة باسمـة ومدّت يدهـا تهمّ بمصافحتي, وكنت أنا بانتظـار ذلـك قبل أن أغامر بمدّ إحدى يديّ في خطـوة لا أعرف نتيجتها, خصوصاً في لقـاء امرأة, إذ أنّ بعـض أولئك قد يُعرض عن مد اليد لسبـب مجهـول, فنقـع في المخجل والمخزي و... نندم.
حين رأيت اليد الناعمة ممدودة واضحة جليّة, رحّبت وقلت: أحيّيك يا آنسة. لكنّ استاذها استدرك مسرعاً نبيهاً يقظاً: لا, إنّه هنا قريب منا وبحجم البلاد ما شاء الله, أنظره مارداً ما أعلاه وما أغلاه, مشيراً الى رجل يحاول الانتحاء جانباً لاقتناص نقطة مناسبة يتصل منها بجهة ما بواسطة هاتفه السّريع. فهمت عندها أنني أمام انسانة متزوجة مقترنة مرتبطة, تابعة أو متبوعة, لا تقطع خيطاً ولا تصله بمفردها, ويجب أن تنادى سيدة وليس آنسة, والفرق بين الحالين كبير في حساب الحاسبين.
فور بلوغي أحد مستودعات الكتب, فتشت في القواميس عن منشأ التسمية التي أوقعتني في الخطأ, فلم أجد ما يكفي: آنسة, جمع أوانس, فتاة صبيّة, فتاة غير متزوجة, فتاة طيّبة النفس, أنوس, تثير الأنس. ومنها: تأنّس, أي صار إنساناً, ومن هنا كلمة إنسانية.
أما سيّدة فهي المرأة المتزوّجة, ومنها السيادة والسّؤدد. وكلمة تسوّد تعني تزوّج, وحين نقول عن فلانة إنها صارت سيدّتهم, فذلك يعني أنها صارت متسلّطة عليهم... ويا للخطر!
ورسيت أعاتب ذاتي: ما الذي دفعني الى مناداة الضّيفة اللطيفة بالآنسة؟ هل هو افتراض الفتوّة في العمر, مع أنني لا أحشر أنفي في حسابات الأعمار؟ هل هو البطن الذي تقلص غطاؤه ولمعت استدارته, وهو سلاح يُعرض عنه بعضٌ من غير الآنسات بعد أن ينتفي لزومه, وتنتهي الحاجة إليه؟ هل السبب هو عدم وصول الضّيفة وقدمها على قدم بعلها, ويدُها في يده, ونظرها على أهداف عينيه, ممّا يعود بنا الى قول عاشق بثينة:

 

اقلب طرفي في السماء لعله

يوافق طرفي طرفكم حيث انظر

وما دامـت القوامـيـس مشرّعة فإننـي أقــرأ فيهـا إضافة الى ما سبق: هنـاك من يرى أنّ المـرأة تكتـب سيادتها, الشّكلية على الأقل, باكتـساب مرتبة السيّـدة, فإن اقتـرن سيّد بأكثر من امـرأة توزعـت السيـادة على عدد النّساء, أمّا إن اقـترنت سيّـدة بأكثر من رجـل, فإن السيادة تُدغم وفقاً لعــدد الرّجال, هذا إن كانــت السيادة متـوافـرة لدى هـؤلاء.
إلاّ أن قليــلات يكتفين بما تسـع أيديهــنّ من السيادة الذاتية من دون منّة من أحد, فهناك امرأة تهوى أن تدوّن الى جانب إسمها, وهي كاتبة في الصحــف, صفـة آنسة, وإن يكن البعـض يفسّـر ذلك بأنّه إعـلان غير مباشـر عن الرّغبة في الاستبدال. إلاّ أن زميلة لها تعلن نفــس الصفة, رغم أنها متزوّجـة, فتـتحمّل بذلك مسؤولية ما تكتب إن كان مرّاً, أو تجنـي بمفردها حلاوتـه وشـذاه إن كان حلواً ناجحاً.


إلاّ أنّ اللامعة اللافتة هي حسناء من أوربا رأت أن تكرّس لقبها الأوّلي, بالبقاء آنسة مؤنسة أنيسة, فأقامت احتفالاً كبيراً دعت إليه من دعت, لإعلان اقترانها بنفسها, وتسليم نفسها لنفسها, فتكون حرمة نفسها, وقرينتها, وشريكتها ورفيقتها, وحبيبتها, وعاشقتها, وأمينة أحلامها, ونديمتها, ومشتهاها الأبعد, وهدفها الأوحد. إنّه عقد أبدي يذكّر بما كان يجري لدى قبائل “السّدرا” في الهند حين زوّج الأهالي إحدى فتياتهم لخيال الشمس في إحدى لحظات انعكاسه على الماء, وذلك لأنهم يقدسون ذلك السيّد (والشمس عندهم مذكّر سيّد يتصدّر الأسياد).