بلى فلسفة

أبو إبراهيم
إعداد: العقيد اسعد مخول

لا علم لديه حول فلسفة اليونان القائلة بالثلاثية المؤثرة في ديمومة الحياة: التراب, والشمس, والماء... فهو يؤكد على الأخيرة وينسى, لا ­بل يجهل, ما قبلها. لعل السبب هو أهمية هذه المادة السائلة الجميلة الجذابة في جميع الفصول, خصوصاً في أيام الصيف. أما التراب فموجود بين يديه على طول المدى. والشمس هي الأخرى ترصّع التيجان فوق رأسه عند طلّة كل صباح, إلا إذا تغلّبت عليها غيوم الشتاء غلبات قليلة عابرة, فغيّبتها وصرفتها عن الأنظار, وفي معظم الأيّام لا يغلب الشمس غالب, ألم يكن هذا الكوكب في طليعة الإلهات والآلهة قبل أن ترفع الدّيانات راية الإله الواحد؟


وحين يوغل أبو ابراهيم في مديح لمع البروق, وقصف الرعود, وعصف الريّاح, وسقيط المطر, ينبري من يقول له:
-­ لكنّ الطبيعة في ذلك ليست بعيدة عن التّسبب في كارثة, أو فرض بلوى, أو طرح مصاب, بسيولها وثلوجها وبردها وصقيعها.
-­ والقيظ والهجير والجفاف تفعل مثل ذلك في الطرف الآخر, يجيب. كما أنّ قساوة الحر تعادل خطورة القر. والمسؤولية هي مسؤولية حضرة المختارين الذين يتعاقبون على سدة الوظيفة في هذه القرية من باب ادعاء الدراية وفرض الرعاية وحق الولاية. كما انها ليست مسؤولية الطبيعة التي, لو عادت الأمور إليها, لأبدت كل رغبة في غياب الإنسان وزوال الحيوان, لأنهما آكلان نباتها, مضرّان بخضرتها, عابثان بعذرية غاباتها, ملوّثان لترابها ومائها وسمائها وفضائها, معارضان لصدى رعودها في الأودية والوهاد بالقمع والرد والتعديل و”النّشاز”, مواجهان لضياء بروقها بالتّزوير والتشويه والتقليد لجوء اً الى الكهرباء او اعتماداً للزيت والكبريت.
-­ لكنك, رغم هذين الرفض والإحتجاج, بشري من البشر, وما كنت لتخلق لو  استطاعت الطبيعة تطبيق إرادتها المزعومة تلك.
-­ صحيح, لكنني أبرر وجودي بألاّ أقتلع زهرة أو أقطع شجرة, أو أشوّه ظلاً, أو أكسر صخرة, أو أهدر ماء... إلا في حدود ما يفرضه الجمال, وتحدّده فروض الطبيعة الأم. كما أنني استنير بنور القمر, إن أطلّ أطللت, وإن غاب أويت الى خيمتي أسترجع صورة, أو أتابع حلماً حتى بزوغ شمس الصباح مضيئة الكون من أقصاه الى أقصاه. وإن أرعدت الدّنىا سكتُّ وأنصتتُ, أو أبرقتْ تهيّبتُ ما يحصل ودعوتُ نفسي الى أن تتأمل ­ ما وسعها التّأمل ­ السحر المنصوب بين الأرض والسماء في تلك اللّحظات السريعة اليسيرة القلقة.


* * *
ولا يزال أبو ابراهيم عاتباً على ابنه منذ أن أخبره عن ظهور مفاجئ للماء بجوار البيت, في أحد أيام الصّيف. قال إبراهيم لأبيه آنذاك إنه شاهد ما يمكن اعتباره تفجراً صغيراً للأرض, تبعه تدفق لافت وعجيب ومفرح للماء لحظات معدودة, ثم اختفى كل شيء. وقد استمر أثر الرطوبة والبلل ساعات غير قليلة... أما سبب العتب فهو أن الإبن لم يسرع الى الماء المتجلية فيشرب منها ما تيّسر, لأنه لو فعل, برأي أبي ابراهيم, لاستمرّت متدفقة دائمة متواصلة عيناً كالعيون, وينبوعاً كالينابيع. فالحكمة الشعبية تقضي بذلك, والريف لا يخلو من أدب أسطوري خاص حول أهمية الماء وارتباطها بحياة الكائنات وجمال الكون. أليس في الجمال سحراً؟ ثمّ, أليس السّحر محرّكاً وفاعلاً ودافعاً في خلق الأساطير ونشرها بين الناس, من لسان الى لسان, ومن ذاكرة الى ذاكرة, ومن قلم الى قلم؟ والأساطير, أليست العزاء الأوّل في حال انكسار الواقع, وانهزام الأمنيات والآمال؟
لكن الأستاذ ابراهيم, متعلماً مطّلعاً, هزئ من ذلك. إنها, عنده, خرافة لا داعي لها, فلا هي حقيقية, ولا هي ممكنة الحصول, والماء في كل حال ليست نادرة الى الحد الذي يقضي بربط مصيرها بالخيالات والأساطير.


* * *
وانتخب الأستاذ مختاراً في البلدة مكان سلف لم يقدّم للرعايا أي فائدة. هلّل الناس وفرحوا, وبنوا صروح البشائر, وأنشدوا القصائد ورفعوا اليافطات, ورقصوا على الدروب.
لكن أبا ابراهيم لم يؤخذ بذلك. لم يكن ضد الإحتفالات تسلية واستمتاعاً وترويحاً عن النفس, لكن, تهليلاً وتبريكاً وترحيباً وتطييباً, لا. و”ابراهيم؟ إذاً بقينا حيث نحن”.
لم يكن ابراهيم أمل المستقبل في حساب أبيه. إنّه ليس البطل الذي يحفظ ماء القرية. ولهذه الأخيرة في حساب الأب حدود إقليمية في الفضاء تنهمر من داخلها حصة من خير السّماء مطراً غزيراً صافياً يكفي لاطلاق الينابيع, وإحياء الشلالات, وسحب السواقي, وري الحقول... وهذا المطر يستحقّ أن تبنى من أجله السّدود والخزانات والبرك, تماماً كما تبنى الاهراءات للحنطة المباركة. وهو ضيف عزيز يصل إلينا في فصل الشتاء, ويجب أن تدوم زيارته حتى فصل الصّيف, وإلاّ مضى خائباً متلاشياً بين صخور الأودية, منتحراً بين رمال السواحل, فيغزو الحقول بغيابه جفاف ويباس يؤذيان المواسم, ويرهبان النسيم, ويدفعان التّعب في الأجساد والنفوس.

 

* * *
أذكر في ما أذكر أننا كنا في الصّغر نقارع أبا ابراهيم بالقول: يكفينا ما هطل من مطر. إنّ نسبته كافية شافية راوية. فيسرع كبيرنا الى معوله الدهري, يحمله الى الحقل المجاور ويضرب به ضربات “مدوزنة” في التراب, اثنتين, ثلاثاً, أربعاً... الى أن يدرك الجفاف فيعود وهو يهز رأسه دلالة على عدم اقتناعه.
-­ ماذا يا أبا إبراهيم؟
-­ لم ترتوِ بعد...
بعد أيام نكرّر التجربة, فتكون النتيجة مماثلة... الى أن يتحسّن الطّقس أكثر, وتشتد “ديمة الأمل المطلّ”*, فيمضي أبو إبراهيم ويعيد تجربته وإختباره حتى يعييه التّعب ويفشل معوله في الوصول الى الجفاف, عندها يقرّ ويعترف. لقد ارتوت الأرض, وهنأت عيناي ويداي, واطمأن قلبي الى اخضرار الرّبيع وعطاء الصيف...

 

* * *
لكن أبا إبراهيم كان يحلم بإنشاء بركة كبيرة في الوادي المجاور يخزن فيها الماء لأيام الحشر والنّضوب, فانتهى به الإنتظار الى بركة صغيرة عند السّفح, ووري فيها بين جذور السّنديان!

 

* من المطلع المشهور لإيليا أبي ماضي:
هُلّي فداكِ الدّفء هُلّي        يا ديمةَ الأملِ المطلِّ