بلى فلسفة

أحدهم
إعداد: العقيد أسعد مخول

كانت للشّعر في ما مضى "موجبات وعقود" تستدعي الموهبة والمعرفة، والجهد والكدّ، والاستعداد الدّائم للمراجعة والمعاودة والتّصحيح والتّنقيح تلبية للنّقد الذّاتي أولاً، وللنّقد "الآخري" ثانياً وثالثاً ورابعاً... وقد حقّق الشّعراء آنذاك مجداً رفيعاً لنفوسهم ولقبائلهم على السّواء، بحيث أصبح حلم الكثيرين من ضيوف الحياة أن يُعلَنوا شعراء كائنة ما كانت الوسيلة وكائناً ما كان المستوى، ويصرّ هؤلاء على إرفاق أسمائهم بـ"شاعر" أو "شاعرة" في أي حال كانوا، سواء في مجالس الشعر والأدب، أو في محافل السياسة والزراعة والصناعة والتجارة، وكأن الشعر وضع إداري تثبته دوائر النّفوس. ومن خسارة الشعراء "القبيليين" السّالفين، ومن سوء حظوظهم، أنّهم لم يبلغوا النّظام العالمي الجديد، ولم يتيسّر لهم التحليق بالطّائرة والمنطاد و... الشعر الحديث الذي عرفته البشرية في النصف الثاني من القرن العشرين، حين دبّ التمرّد في النفوس فاقتلع النّاس الأشجار وأسدلوا شعورهم ومزّقوا أثوابهم وانتزعوا أحذيتهم وهاموا على الطرقات وكتبوا على الجدران واكتتبوا في سندات التيسير والاستسهال خروجاً على الأصول والشروط ومتاعب الإتقان في كل الفنون، فـ"برع" منهم من "برع"، واشتهر من اشتهر. وهكذا قيل إنّ الشعر عرف التّجديد، وإنّ ما كان يضجّ، فوق المنابر وفي الأسماع والقلوب، تحوّل الى نصوص متستّرة متكتّمة مموّهة مقطعة الأوصال إن سألت اصحابها عن غنائية بنيتها وعن عذوبة نغمتها، قالوا: إن موسيقاها "داخلية" حييّة، وعلى القارىء اكتشافها. وهكذا تم هدم العمود الشعري، والعبور الى قصيدة التفعيلة، ومن ثمّ الى قصيدة النّثر... والى النّثر، هو الآخر، إنّما رديئاً ركيكاً تُكسر كلماته حين يقضي التّمرّد، وتُرفع على "الهوى" كائناً ما كان حكم الأصول، وهيهات عندها على عمود الشعر صرحاً يبدع في إعلائه الناظمون الخلاّقون، وهيهات على البيت الشعري يأوي إليه المتذوّقون، وعلى النّثر الجميل إسماً على مسمّى، دوراً وحوراً وجنّات يفوح منها العطر، وترفل غصونها بالرهافة والهفافة وأناقة التعبير.
وكان البيت الشعري في لغتنا، كما كانت العبارة الأدبية، يُنسبان أحياناً الى أكثر من شاعر أو أديب لفرط الأهمية ولجمال الصياغة، وأدُلّ على ذلك بواحد من الأبيات طار معناه مثلاً بين النّاس بمختلف مستوياتهم:

ينسب هذا البيت الى ثلاثة بأسماء صريحة واضحة، وينسب أحياناً الى رابع يسمّى: "أحدهم". كنت في الصّغر أحسب "أحدهم" ذاك واحداً من أصحاب الأسماء الطبيعية الصحيحة، إنّما الغريبة وغير المألوفة، كالشّنفري وتأبطّ شراً وديك الجنّ... وكنت أجد أبياته موزّعة في زوايا الكتب، فأزداد ارتباطاً بأدبه وإعجاباً بغزارة إنتاجه. لا شكّ في أنّ صاحبنا ضحّى، بدراية منه، أو بغفلة عنه في حياته وفي مماته، حين أفسح في محفل الشعر لاسم غريب أن يحلّ مكان اسمه الحقيقي الذي خلعه عليه أهله لحظة ولادته، وحين أفسح أيضاً لبيته الشعري أن يفوقه أهمية، بعكس ما يجري في حاضرنا حيث يكثر المواطنون بأسمائهم الصريحة المتبوعة والمدفوعة والمشفوعة بالألقاب والنّعوت، في حين تنعدم بالمقابل البيوت الشعرية أو العمارات الأدبية التي يمكن أن "تتواءم" مع تلك الأسماء. فمن الصّعب أن تجد عطاء يغري بالانتساب لأكثر من شاعر أو أديب، بل انّك تجد بالمقابل ما يجب أن يلصق بصاحبه وحده منعاً لتحميل الغير وزر إنتاج محروم من "القدر والقيمة" يقوم بينه وبين الذاكرة جفاء ونفور. ويذكّرني الموضوع بزيارة تيسّرت لي الى أحد المتاحف الكبيرة حين قابلت في إحدى طبقاته السفلى امرأة من حجر، تلفّ نفسها بقماش شفّه المطر والبرد، تشدّه الى جسدها من كل جانب، ناظرة الى الأرض بجلال وثقة وقدرة على الصبر والتحمّل، وكأنّها مُعرضة عن كل زائر حتّى وإن حمل إليها الدفء المفقود. تأملت التمثال من كل جانب. إنّه تحفة حقيقية تعود الى عصر المطرقة والإزميل و... الموهبة، فيها دقّة وجمال الى حدود ملامسة الحياة. لكنّني لم أجد اسم النّحات الذي وفّقه الخالق في "خلقها" (وقد يكون حافراً إيّاه في الأحشاء والضّلوع) عكس ما يفعله أي فنّان من عصرنا حين يحمل حجراً من الحقل "يؤدّبه" ببعض الضربات من مطرقته، ثمّ ينصبه في ساحة عامّة مرفقاً إيّاه باسمه تسهيلاً للاتصال به من أجل مقابلة في إذاعة أو حوار في مطبوعة يتكلّم فيهما عن نظرته الى الفنّ، وعن نصيحته للفنّانين النّاشئين نشأته على دروب التعبير عن مشاعر النّفس البشرية.
والشّـعر في اللغـة كلام يعبّر عن الإحساس والشّـعور، يحافـظ قائله على الوزن والتقفية في إنشـائه، ويُقال شَعَـر أي قال شعـراً، وتشاعرَ أي تكلّف قول الشِّعر. أما النّاثر فهو المتكلّم أو الكاتب نثراً لا نظماً، ونَثَر تعني أتى بالنَّثر الى كلامه. وهذا لا يعني أن النَّثر أقلّ جودة أو أسهل صياغة بكثير من الشّعر، وذاك هو الأدب. لكن من المبالغ فيه أن نحصر الشّعور والإحساس بالشّعر وحده، خصوصاً وأن هناك شعراء نادوا في شعرهم بالتهديـد والوعيد والقتل والتفرقة العنصريـة والإثارة المذهبية، وهناك من أضاف الى القول تنفيذاً وتحقيقاً (فهذا عنتـرة يقطـع الرؤوس ولا يبـالي، وذاك رامـبو يتاجـر بالعبيد وكأنّهم فواكه وخضار من مواسم حديقته...). كما أنّـه من الخطـأ أن نحصر اللطافـة والكياسـة بالأدب وحده وفي الأدباء كثيرون بالغوا في التّهكّم والإهانة والاستخفاف، وهذا ما يدعوه المطبّلون والمؤيّدون والمروّجون: "سلاطة" اللسان و... الجرأة الأدبية.
لقد كان يحكى عن شيطان يتدخل في شؤون بعض الموهوبين في "صنعة" الكلمة: فلان يسكنه شيطان الشّعر وفلان يحرّكه شيطان الفنّ... ويبدو أن الشّيطان قد شُغل بكل شيء في هذا العصر باستثـناء شـؤون الفـنّ والأدب. إن شرّه هنا ونحسه هنـاك وخطـره هنالـك، إلا أن سحـره غائـب عن دفّـات الكـتب، بعيد عن خزّانـات المحابر...