سياحة في الوطن

أحد “النياشين” على صدر البقاع
إعداد: تحقيق باسكال معوض

هيكل الإله الحارس ومفتاح درب الحرير

بعد عزّ قديم وسلطان عظيم تشهد عليه الثروات الأثرية الباقية ذخراً من عصور مضت, تتجلى اليوم بلدة دكوة, واحداً من “النياشين” التي يعتزّ بها صدر البقاع الفسيح, ولها على السهل جميل ما انفك يسدده عرفاناً...
ودكوة هي نفسها “دوكايا” الفينيقية, ومعنى اللفظة: المكان المقدس حيث كان ينتصب هيكل الإله زارعاً الأمان في الأرجاء, وجاذباً الأضاحي والتقديمات.
أما دكوة اليوم, فهي تجذب إليها العلماء والباحثين في الآثار, كما السياح والزوار. مجلة “الجيش” قصدت تلك البلدة البقاعية التي تنام على أمجاد غابرة وغنى أثري بارز, وعادت بهذا الحصاد.

 

مفتاح درب الحرير

لم يقتصر دور دكوة في التاريخ على الشق الديني, إذ هي, وبحكم موقعها كواسطة للعقد في السهل العظيم, كانت, الى قداستها, مركزاً تجارياً, بل مفتاحاً أساسياً على طريق القوافل العابرة برّ الشام الى الداخل, ومنه الى حيث الإنفتاح على العالم من خلال أبواب الموج. فكل قوافل مصر جنوباً والأناضول شمالاً, والحجاز في عمق الشرق, كانت لا بد أن تعبر من بدايات دكوة, فتشتري من أسواقها وتبيع.
أما نتيجة ذلك فنشاط تجاري غزير من جهة, ومن الجهة الأخرى سمعة وشهرة عطرتان لـ”دكوة” في أنحاء بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين.
والى جانب قوافل التجارة التي ما استغنت مرة عن دكوة في سفرها وترحالها, فقد أمسكت البلدة أيضاً بمفتاح “درب الحرير” المشرقية؛ فكان حرير دود القز, وهو المشهور يومها بجودته وشدة الطلب عليه, كان هذا الحرير يعبر أنحاء لبنان الى أرجاء المنطقة عبر دكوة فدمشق, وصولاً الى بلاد فارس وأنحاء السند والهند.
في ذلك الماضي الذهبي كان عطاء سهل البقاع من المياه جزيلاً, وكان لعقود طويلة, أشبه ببحيرة واسعة الأرجاء. قرب الماء الكثير كانت الشعوب تبني قراها وتقيم معابدها, رافعة التلال من الصخر والتراب لتنصب عليها هياكلها, بحيث تظل على القمم في منأى عن فيضانات الربيع.
ومن هذه التلال, كانت تلة دكوة التي أثبتت الدراسات الأثرية أنها تلة إصطناعية أقيمت خصيصاً لحفظ هيكل الإيمان بعيداً عن فيضانات الماء...
وقد دلّت الأبحاث وعمليات التنقيب الأثري أن التل في دكوة كان مسكوناً منذ الألف الأول قبل الميلاد؛ وعُثر على شواهد تنبئ بأنه كان مسكوناً أيضاً في خلال الألف الثاني ق. م. إلا أنه, وبصرف النظر عن إسم القرية “دكوة” المشتق من اللفظة الفينيقية كما سبقت الإشارة, فإن عمليات التنقيب التي لم تبلغ نهايتها بعد, لم تتوصل في مرحلتها السابقة الى كشف وجود المعابد الفينيقية فيها.

 

العصر الروماني

شأنها شأن كل الحواضر العظيمة في التاريخ القديم, كان لـ”دكوة” قرص في كل عصر... فقد اشتهرت بالمعبد الروماني في وسطها, والذي امتاز بحجارته الصفراء المهيبة وهندسته المميزة بوقار الأعمدة الثلاثة, والتي تعلوها تيجان مزخرفة ناتئة الى الخارج. وفي أعلى أحد الجدران في المعبد, رفّ صغير مزين بنقوش وزخارف متقنة, كان يستقر عليه تمثال صغير يمثّل الإله, هذا كان “قدس الأقداس” لدى شعوب ذلك الزمان.
وثمة فتحة في أعلى الجدار الشرقي للمعبد, تقابلها فتحة مماثلة في جداره الغربي, وهما فتحتان مزخرفتان نالتا إهتماماً بارزاً من قبل العلماء حيث تبين أنهما فتحتا الشمس. الأولى (في الجدار الشرقي) تدخل منها أشعة الشمس لدى شروقها في الصباح, والأخرى (فتحة شمس آخر النهار), تعلن الشمس من خلالها أنها على وشك الغروب. وبفضل هاتين الفتحتين المحسوب جيداً موقع كل منهما, كان القائمون على ذلك المعبد الروماني يحسبون بدقة مواعيد الشروق والغروب على مدار أيام السنة.
ويرجح المتخصصون أن يكون المعبد قد بُني على عهد الملك أغريبا, أي في القرن الميلادي الثاني. وهو يقسم الى قسمين أحدهما معزز بالأعمدة الرشيقة. وقد فعلت عوامل التعرية فعلها بحيث لم يعثر على كتابات منقوشة تكشف هوية الإله الذي خصص له المعبد. لكن بعض المصادر تذكر أن بناء المعبد جرى على غرار ما كان شائعاً في تلك الآونة, وكان مكرساً لثلاثة من الآلهة هم: جوبيتر, فينوس, ومركور.
إلا أن هذه ليست سوى نظرية, وإن كانت الأوسع إنتشاراً من غيرها. وإذا أخذنا بعين الإعتبار أن البناء موجّه أساساً (حسب هندسته) الى ناحية الشرق, يمكننا إذاً الإستنتاج بأنه كان مكرساً لعبادة الإله جوبيتر.
وإذا كان معبد دكوة هذا هو الوحيد في لبنان الذي جرت فيه زخرفة فتحتي الجدار اللتين تتحكمان بحركة الإضاءة الشمسية, فإنه أيضاً أحد أبرز المعابد الرومانية التي تحولت, في نظرية شبه أكيدة, بعد توسّع الإيمان المسيحي في القرون الوسطى, الى كنيسة... وهذه إشارة أخرى تفيد تواصل مجد دكوة عبر العصور.

 

نواويس منهوبة

تنتشر في أراضي دكوة المدافن الرومانية والنواويس الحجرية المنقوشة. وقد عثر على ناووس ضخم محفور في الصخر على شكل قناطر تحتضن داخلها عدداً من المقابر مختلفة الأحجام وهي نالت نصيبها البشع من لصوص الآثار؛ فجرى تحطيم الكثير من أغطيتها, وإزالة العديد من نقوشها التزيينية الجميلة.
وتظهر نواويس أخرى على شكل فتحات جوفاء في الأرض, وقد رفع اللصوص الفضوليون الصخور التي كانت تسد منافذها, فصارت مكشوفة للعراء.
وثمة مقلع روماني للصخور في دكوة شبيه بمقلع بعلبك الروماني. ويضم بين حجارته صخرة منقوشة وشديدة الشبه بما يعرف بحجر “الحبلى” في بعلبك, إلا أنه أصغر منه حجماً.
وفي ناحية أخرى تقوم بقايا البئر الروماني الذي كان يؤمن مياه الشفة للبلدة في تلك الأزمنة الغابرة, وهو يشكل اليوم بحجارته المصقولة ونقوشه وهندسته الذكية, دليلاً على عبقرية بنائية امتاز بها الرومان.
وفي أعلى تل دكوة فوق المعبد الروماني مباشرة يقوم مزار ديني قديم يدعى مزار “الخضر”, ولا معلومات تكشف تاريخه ولا نسبه.

 

دكوة... حاضراً

دكوة اليوم بلدة بقاعية متواضعة لكنها تعرف جيداً عظيم مجدها الغابر. غناها الأثري البارز جعلها مقصداً للعلماء والباحثين في الآثار كما للسياح والزوار, ولا سيما منهم الذين يؤمونها من المؤسسات العالمية (من ألمان وطلبان) حيث تتواصل ورشة دراسة آثارها الغزيرة.
لكن دكــوة الـيوم, وإن كانــت مطمئـنـة على أمجادهــا الماضيـة, فهي لا ترتــاح على هـذه الأمجاد, على ما يقول مختارها السيد ريمـون الغجر. إنها بلـدة زراعيـة أساساً تبلغ مساحتها نحو 9 آلاف دونم, وترتفـع عن سطـح البحر ما بين 800 و850 متراً. لكنها على عكس ماضيها الزراعي الغني, لا تنتـج اليوم سوى كمـيـات قلـيلة من القمـح والبطاطـا الى الخضـار على أنواعها. فقد أضرّت بها الهجرة الى المدن والى الخارج وانصرف أهلـها عن الزراعـة بعد أن هبطـت مداخيلها.
دكـوة الصغيرة بحجمها, الكبيرة بتاريخها العريق, تنـام على أمجاد غابـرة وتنـتظر الكشف عنها لتبـرهن للعالـم أنـها بدورها نقطـة مشرّفـة في لبنـان العظـيم...

 

عائلات البلدة
يبلغ عدد سكان دكوة نحو 425 نسمة توزع على العائلات الآتي ذكرها: الغجر, صوفيا, عازر, فاضل, أبو عني, عنتر, حسين, سرور, العسكر.

السور العظيم

في فـترة السبـعينات قام المهـندس غالايـان من قبل مديرية الآثـار بترميم المعبد بشكل أولي, كما تم التنقيب عن الآثار حوله, فوجدت بقايا سور روماني, ومساكن تنتشر حول المعبد. وزائر دكوة اليوم يمكنه معاينة حجارة السور الروماني العظيم الذي كـان يحيـط بالـبلدة في محيط المعـبد الكبير.