ثقافة

أديب إسحاق
إعداد: وفيق غزيزي

مفكر نهضــــــوي محترف

عاش أديب إسحاق (1856 - 1884) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أو ما أُطلق عليه «عصر النهضة العربية». فساهم في بناء هذا الصرح، وأثّر به، ولكنه مات قبل أن يناهز الثلاثين عاماً، فلم تتح له الفرصة الكافية لإغناء مفاهيمه النظرية سياسياً وإجتماعياً، أو دفع مشروعه النهضوي الى حدوده القصوى. والأبشع من ذلك أن جزءاً كبيراً من مؤلفاته إختفى أو أُخفي عمداً عقب وفاته بقليل لأسباب تتعلق بموقفه المناوئ للكنيسة الكاثوليكية في لبنان، وبقي ما جمعه أخوه عوني إسحاق وصديقه جرجس ميخائيل نحاس. ولم يصدر له سوى كتابين: «الأعمال السياسية والإجتماعية»، و«الدرر».
عبّر أديب إسحاق في كتاباته عن الواقع الذي يعيشه المشرق العربي مستخدماً مفاهيم عصر التنوير والثورة الفرنسية، ومقولاته كالحرية والمساواة والوطن والأمة، ونادى بالإصلاح الشامل، ناقداً الإستبداد واعتبره آفة الشرق الأساسية. وأكّد ضرورة الحرية وملازمتها للإنسان مستلهماً الحرية الليبرالية في القرن الثامن عشر. وعلى كثرة ما كُتِب عن الفكر العربي الحديث، وعن عصر النهضة، لم تفرَد دراسات خاصة بأديب إسحاق، أو بإسهاماته الفكرية والأدبية، واكتفي بإشارات حوله، لا ترقى الى مستوى إنتاجه الرصين، وطروحاته الرائدة.

 

رحلة العمر القصيرة
ولد أديب إسحاق اللبناني في دمشق وتلقى العلوم في إحدى مدارسها، ثم عاد الى بيروت فاشتغل كاتباً في ديوان المكس (الجمرك).
بعد ذلـك إعتـزل العمـل، وتولى الإنشـاء في جريدة «ثمرات الفنون» فجريـدة «التقدم». ثم إنتقل الى الإسكندرية وساهم مع سليم النقاش في تمثيل بعض الروايـات العربية، ومـن الإسكندرية توجّه الى القاهرة حيث تعـرّف على جمال الدين الأفغاني، فتسرّبت اليه روح الثورة وأصدر جريدة «مصر» (1877)، ثم عاد الى الإسكندرية فأصدر جريدة «التجــارة» بالإشتراك مع سليم النقاش. وقد أقفلت الحكومـة الجريدتين، فرحل أديب إسحـاق الى باريس (1880) حيث أصدر جريدة عربية سمّـاها «مصـر القاهرة» الى أن أصيـب بداء السـل فعاد الى بيـروت فالقـاهرة، حيـث جُعِل ناظراً لديوان الترجمة والإنشاء، ثم كاتباً بمجلس النـواب.
ولما نشبت ثورة أحمد عرابي عاد الى بيروت، وتوفي في قرية الحدث بلبنان.

 

العوامل المؤثرة في فكر إسحاق
ساهمت إجراءات القمع والتنكيل التي قامت بها الدولة العثمانية ضد الوطنيين، وتعليق الدستور، في تجذير الوعي السياسي والقومي، وتحويله من نطاق الفكر والتنظير الى ممارسة واقعية من خلال الجمعيات السياسية والثقافية العلنية والسرية، عملت في ظل الصحافة الحرة والأحزاب الوطنية. وأدى أديب إسحاق دوراً ريادياً في كل ذلك، وكان عضواً فاعلاً في جمعية «زهرة الآداب» في لبنان، وفي مصر كان أقرب المقرّبين لحلقة الشيخ جمال الدين الأفغاني، وخاض غمار المعارك الفكرية والسياسية في ذلك الوقت، كالموقف من الإمتيازات الأجنبية، وقضية الشورى والديمقراطية، والإصلاح السياسي.

 

مصادر فكرية
نهل إسحاق من عدة مصادر محلية وخارجية، وكوّن من تلك المصادر التي تبدو متنافرة الى حد ما، مركّباً فكرياً منسجماً مع رؤيته الليبرالية للقضايا الإجتماعية والسياسية، التي شغلت مثقفي عصره، عصر الإصلاح والنهضة وبداية إنهيار الدولة العثمانية، وشكّلت قضية تمثّل القيم العربية ودمجها في المنظومة الفكرية العربية الإسلامية إحدى معضلات ذلك العصر وأهم إشكالياته الفكرية، من جهة طبيعة الإقتباس ومستواه من دون تعريض البناء الإجتماعي التقليدي لهزات وصدمات ثقافية، تفقده توازنه المرتكز على تصور وهمي بالتفرّد والأصالة والتفوق، لمجرّد إمتلاكه اللغة العربية.
ومن المصادر العربية التي نهل منها إسحاق: إبن خلدون حيث شكّلت مقدّمته أداة أساسية في تكوين فكره وساعدته على مقاربة واقع عصر. علماً أن قراءة إسحاق لإبن خلدون كانت قراءة نقدية وتاريخية، كما استقى من خير الدين التونسي ودوره الإصلاحي، فأخذ منه فكرة الإصلاح الشامل. المصدر الثالث جمال الدين الأفغاني، وتعدّ طروحاته من أهم المؤثرات في حياة إسحاق الفكرية والشخصية، فقد حدد الأفغاني للأديب اللبناني الشاب إتجاهاته واهتماماته الفكرية والسياسية، وأنضج تجربته اللغوية والأدبية والصحافية، وتعد الفترة التي لازم إسحاق الأفغاني فيها أهم فترات حياته وأكثرها ثراءً. الى ذلك فقد تعرّف إسحاق على فلسفة التنوير الفرنسية، فترجم الروايات والمسرحيات عن اللغة الفرنسية الى العربية. وعندما سافر الى فرنسا إستغل وجوده هناك لمتابعة التطورات السياسية والثقافية والإجتماعية، وتعرّف على بعض رجالات الدولة في فرنسا، وداوم مدة في المكتبة الوطنية يقرأ بعض مخطوطاتها العربية القديمة.

 

وسطية إسحاق
كان إسحاق ليبرالياً يرفض التغيير الفجائي والطفرات والعنف، واتخذ موقفاً إصلاحياً من الأحداث والقضايا المطروحة في عصره، فقد ناهض الثورة والحركات الثورية العالمية. ففي معرض نقده لتلك الإتجاهات الراديكالية الثورية يقول: «تدرجوا في مراتب الكمال لتبلغوا نقطة الإعتدال، فتنتعشوا بعد السقوط ويرتفع شأنكم بعد الهبوط، ويعلم الغرب أن سادته الذين يعدهم الآن عبيداً لم يفقدوا فضالة المجد العظيم وفضالة الدم القديم، فإذا فعلتم واتخذتم الإعتدال سبيلاً والكمال غاية فلا ترهبكم حوادث الأزمان، فإنها لم تحدث إلا لتكون ممهّدة لسبيلكم متمّمة لعلّة وصولكم، ولا تخالفوا العقبات، فإن وجودها في المسالك دليل على وجوب التدرج، فاقطعوا بالصبر والثبات، ولا تهنوا إن لقيتم جهلاً وعنتاً».
هكذا يسنتصر إسحاق للمذهب الليبرالي الذي يراه مناقضاً لإتجاهات الراديكالية والإشتراكية، وباسطاً في الوقت نفسه مبادئ المذهب الليبرالي والحريات السياسية والإجتماعية التي يوفّرها هذا المذهب حسب المصادر الكلاسيكية المتمثلة في فلسفة التنوير والثورة الفرنسية الكبرى.  

 


الأخلاق والسياسة
لم يستبعد أديب إسحاق الأخلاق من السياسة بل عدّها شرطاً أولياً لممارسة سياسية نزيهة وفاضلة، إسوة بفلاسفة التنوير الفرنسي، ورداً على تدهور سمعة الطبقات الأرستقراطية والإقطاعية، وفساد ممارساتها السياسية، فقد كانت الطبقة البرجوازية الأوروبية كطبقة صاعدة في العصر الحديث، كما عبّر عنها فلاسفة التنوير الذين صاغوا أهدافها وتطلعاتها التاريخية - معنية بحشد كل الطبقات الشعبية والطاقات الفكرية معها لتحقيق مهامها الكبرى. ولا يكتفي إسحاق بربط السياسة بالأخلاق، بل يقدم البراهين المنطقية والواقعية على ذلك. وفي هذا الصدد يشير هشام شرابي في كتابه «المثقفون العرب والغرب» قائلاً: «في كتابات إسحاق نلاحظ أول صيغ أخلاقية، لكنها مع ذلك ظلت على الصعيد المجرّد، ومع أن علم السياسة كان يستمد من المبادئ العقلانية، فإنه كان مهتماً إهتماماً وثيقاً لمسألة الفضيلة».
وللأخلاق أواصر وثيقة مع السياسة، ذلك أن  الفضائل غاية علم الأخلاق، ويعتبرها إسحاق ضمانة الحريات السياسية من الإنزلاق بالفوضى والإنتهاز.

 

حول تحرير المرأة
عانت المرأة الشرقية عموماً والمرأة العربية خصوصاً إضطهاداً مركّباً، من الرجل المهيمن في المجتمع الذكوري، ومن الأوضاع والعلاقات الإجتماعية التي تنظر الى المرأة نظرة دونية. وكان أديب إسحاق رائداً في الدعوة الى تحرير المرأة وإنصافها ورفع مستواها الإجتماعي والثقافي ومساواتها بالرجل، وقد استبق بذلك دعوة تحرير المرأة التي أطلقها قاسم أمين، مكرراً مواقف الشيخ محمد عبده.
وقد ثمّن الباحثون العرب في الفكر العربي الحديث دعوة إسحاق الى تحرير المرأة، واعتبروه في طليعـة أنصـار المرأة الذين نادوا بمسـاواتها مع الرجل قبل أن يفطـن لذلك أحد من معاصـريه، وأول من شـقّ الطريق لمن جاءوا بعـده، أمثال قاسم أمين وباحثة البادية وهدى شعـراوي ومي زيادة وجرجي زيدان ومحمـد جميل بيهم وغيرهم.

 

من أقواله
• في الأخلاق والسياسة:
«... لا قيام للأمة، ولا قوام للدولة، إلا بأدب زاجر للنفس عن سوء، وأخلاق حافلة تحفظ النظام، وتربية عمومية يتيسّر معها نفوذ الأحكام والأدب. وحسن الطباع والتربية من فروع علم الأخلاق، ومن لوازم السياسة، فهو وعلم السياسة متلازمان».
• في الإصلاح:
لكل عمل حرّ سببان يساعدان في إحداثه، أحدهما معنوي وهو الإرادة التي تحدّد الفعل، والآخر مادي وهو القوة التي تنفّذه، فعندما أسير الى هدف يجب أولاً أن أريد الذهاب اليه، وأن تأخذني قدماي اليه ثانياً، ولئن أراد مشلول الركض وكان رجل رشيق لا يريد، فكلاهما يبقى في الحالتين مكانه.
• في تحرّر المرأة:
المرأة مساوية للرجل، ولكنها غير الرجل، فرفعها الى المقام الذي تستحق لا يكون بمماثلة الرجل، فإن ذلك مفسد لطبيعتها، وإنما يحصل بإنمائها وتقديمها باستمرار من جهة أنها إمرأة بحيث توجد المساواة مع الفارق.

 

مؤلفاته
صدر بداية لأديب إسحاق كتابان هما: «الدرر» و«الأعمال السياسية والإجتماعية». وصدر له كتاب ثالث هو «تراجم مصر في هذا العصر»، كما صدر له كتابان كان قد ترجمهما هما: رواية «أندروماك»، ورواية «شارلمان».