أزمة النظام الصهيوني وتجلّياتها البنيويّة والموضوعية

أزمة النظام الصهيوني وتجلّياتها البنيويّة والموضوعية
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية.

يعيش المجتمع الإسرائيلي في الوقت الراهن حالة إنتقاليّة معقّدة من الحذر والشك, بسبب ما يعانيه من تفاعلات وصراعات داخليّة, على أكثر من صعيد, تجاوزت حدود الخلاف, حول القضايا الجوهريّة المزمنة مثل العلاقة بين الدين والدولة وطبيعة الإنتماء الحضاري ومعنى الخصوصية اليهوديّة وطبيعة الأولويّات الاجتماعية والإقتصادية, لتصل إلى المداخل الرئيسة للعلاقات مع المحيط العربي والإسلامي القريب والبعيد سلماً أو حرباً وضمن أيّة شروط جيو سياسية وجيو إقتصادية, الأمر الذي تجلّى في الأزمات الحزبية والسياسية والحكومية ­ خصوصاً منذ ما بعد فشل اجتياح لبنان عام 1982 ولغاية اليوم ­ كما وأنه يتجلّى حالياً في تهديدات وصيحات الحرب المتتالية التي تصدر عن القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين على حدّ سواء, وفي ترجيح إيصال رجل سفّاح ومجرم حرب مثل آرييل شارون إلى منصب رئاسة الوزراء, الأمر الذي يدلّ على أن إسرائيل لا يمكنها أن تكون دولة طبيعيّة, لأنها عندما وجدت أن باستطاعتها فعلاً التوصّل إلى علاقات سلام مع محيطها, رفضت ذلك وبدأت تبحث عن أسباب لنزاعات جديدة توفّر لمجتمعها فرصة لإعادة ترميم لحمته ووحدته الداخلية من خلال التقوقع حول الذات والتحصّن ضمن الغيتو العسكري المدجج بجميع أنواع أسلحة الدمار الشامل حتى الجنون. ومن هنا كانت شعارات وإنذارات ايهود باراك المتكرّرة بوضع إسرائيل والمنطقة في وضعية “إنذار استراتيجي” فقط بهدف فرض تسوية يريدها ثمرة تفكيره الخاص, وتحقيقاً لمصالح إسرائيلية بحته وليس إعادةً لحقوق أو محصّلة نهائية لتفاوض جاد وفقاً لقوانين الشرعية الدولية. ومن هنا أيضاً جاءت شعارات شارون المنافسة كزعيم “يقود نحو السلام” بحسب المعايير الإسرائيلية, وكقائد “وحيد يفهم أهميّة السلام أكثر بكثير من السياسيين الذين يحملون السلام كلمة على ألسنتهم ولم يجرّبوا مرّة واحدة ماذا يعني أن يكونوا في ميدان المعركة” على حدّ قوله.
هذه الإزدواجية الملتبسة ما بين باراك وشارون, كزعيمين لأكبر حزبين صهيونيين, العمل والليكود, لم تعد تدور إذن حول وجهة الاقتصاد الإسرائيلي, ولا حتى حول إتجاه بناء الدولة اليهوديّة, حيث الدلائل تشهد على تقارب الحزبين بنسبة كبيرة من الناحية الأيديولوجية, وحيث لم يعد أحدهما يؤمن بأرض إسرائيل الكاملة والآخر يرفض هذا الإيمان, كما إن الرّضى بتقسيم ما يسمّى “أرض إسرائيل” لم يعد حكراً على طرف دون آخر وتحوّل الخلاف الجوهري, بين الطرفين, إلى خلاف حول الأسلوب والكميّة, لا إلى خلاف حول المبدأ والعقيدة. ومن هنا كان الرهان على شارون رهاناً على أمن أفضل وعلى رقعة استناد جيوستراتيجي أوسع.
وبالرغم ممّا تقدّم فإنّ للأسلوب نفسه في دولة عنصريّة وطائفية مثل إسرائيل أهميّة غير ضئيلة لتوفير أسباب التناحر وعدم الإجماع. ومن بين مظاهر هذا التنافر العلاقة المتوتّرة وغير المستقرّة عموماً ما بين رئاسة الحكومة ورئاسة أركان الجيش الإسرائيلي (مثلما حصل في أواخر عهد نتنياهو ما بينه وبين أمنون شاحاك الذي كشف عن وجود مشاريع عدوانية بعيدة المدى لدى رئيسه ضد سوريا ولبنان بشكل خاص بما يتجاوز حدود اللعبة الدوليّة الإقليمية المسموح بها), ومن بين هذه المظاهر أيضاً العلاقة بين المتديّنين والعلمانيين, حيث لاحظنا أن نقطة الصراع ما بين الجانبين وصلت إلى ذروة جديدة بتدخّل محكمة العدل الإسرائيلية لصالح العلمانيين للمرّة الأولى في تاريخ الكيان, الأمر الذي أدّى إلى اضطرار الكنيست للتعامل مع قضيّة تجنيد طلاب المدارس الدينية اليهودية من خلال رؤى ونظريّات متناقضة, سواء لجهة تنفيذ ما سمّي “قانون طال” الذي ينظّم عمليّة تجنيد هؤلاء الطلاّب, أو لجهة إلغاء مشروع هذا القانون. وفي هذا المجال ترى الجهات العلمانية أن الامتيازات التي يحظى بها المتديّنون اليهود تشكّل انتهاكاً لمعايير الديموقراطية, فيما أنّ الجهات الحريدية المتعصّبة دينيّاً ترى أن موقف الأحزاب العلمانية من هذا القانون إنّما يدلّ على موقفها النهائي من المتديّنين ككلّ في المجتمع الإسرائيلي.
ومن الملفت أن هذه الخلافات الحسّاسة أدّت إلى تعطيل عمل آليّة المؤسّسات الديموقراطية الإسرائيلية وإلى فرض شروط لعبة داخليّة جديدة تستنزف القوى الحزبيّة الكبرى وترغمها على القبول بسياسات تتناقض مع مصالحها الخاصّة, ممّا يهدّد استقرارها على رأس السلطة, ويضعفها أمام مخرج وحيد من المأزق وهو مخرج ما يسمّى حكومات الوحدة الوطنية, التي تتحوّل بحدّ ذاتها مع مرور الوقت إلى مشكلة بدلاً من أن تكون حلاً.
وهكذا تعود الدائرة المفرغة إلى نقطة البداية من جديد, الأمر الذي يمكن فهمه أكثر من خلال السعي الدؤوب حاليّاً لإعادة العمل بالنظام الإنتخابي النسبي القديم وترك العمل بنظام الإنتخابين المنفصلين لكلّ من رئيس الحكومة والكنيست حسبما هي عليه الحال الآن.
ثمّة مظهر آخر أيضاً من مظاهر أزمة النّظام الصهيوني في إسرائيل وهو انعدام الإجماع في اليمين أو اليسار على حدّ سواء, على زعامة واضحة ومقبولة. فآرييل شارون مثلاً هو في الواقع محصلة إعتبارات مختلفة في جناح اليمين وليس الزعيم الفعلي الأقوى والمفضّل لدى هذا الجناح. والشيء ذاته يمكن أن يُقال عن إيهود باراك الذي أظهرت إستطلاعات الرأي أنّ أي مرشّح آخر من داخل حزب العمل (مثل بيريس أو ابراهام يورغ) كان سيحصل على تأييد أوسع من التأييد الذي يحظى به شخصياً. وقد تبيّن أيضاً أن حزبي شاس (17 مقعداً) وميرتس (10 مقاعد) قد فرضا على الحزبين الكبيرين حدود لعبة الترشيحات والزعامات. الأوّل فرض على شارون عدم المساعدة على حل الكنيست ممّا أدّى إلى إطاحة نتنياهو من حلبة المنافسة, والثاني فرض تنحية بيريس وإبعاده عن ساحة المنافسة بعدم مساندته من الناحية القانونية في ترشيح نفسه, لأن مثل هذا الترشيح كان يستوجب في الحدود الدنيا تأييد أصوات ميرتس العشرة.
هذه المعادلة المعقّدة جعلت من كلّ من باراك وشارون “زعيمين مع وقف التنفيذ” وجعلت الواحد منهما لا يكتمل إلاّ مع الآخر؛ ولكن مع استحالة حصول مثل هذا التكامل فهذا سيعني استمرار الحاجة إلى إدارة الأزمة في داخل اسرائيل والمنطقة, وإلى إعتماد سياسة النَّفَس الطويل في تلقّي نتائج استمرار هذا الصراع.
على خلفيّة ما تقدّم لا بدّ من طرح السؤال: كيف يمكننا قراءة أزمة النظام الصهيوني في عمقها البنيوي والموضوعي, وما هي بالتالي تجلّيات هذه الأزمة على واقعنا الاقليمي العربي والإسلامي؟

1- ­ العناصر البنيويّة للأزمة الحالية
أ- ­ عدم وجود دستور

تعدّ مسألة وضع دستور في إسرائيل من أكثر المسائل التي اختلفت ­ ولا تزال تختلف ­ حولها آراء العديد من الأطراف الحزبيّة والسياسيّة والعقائديّة, ولهذا لا يمكن النظر إليها في إطار صراع العلمانيين والمتديّنين فحسب. فلقد كان لهذا الخلاف جذور داخل الحركة الصهيونية قبل قيام الدولة المنشودة.
وكان زعيم الحركة الصهيونية, تيودور هرتسل, يرى أن على الحركة الصهيونية أن تكلّف لجنة من رجال القانون لصياغة “أفضل دستور عصري ممكن, بشرط أن يكون ذا طبيعة مرنة ومعتدلة”([1]).
ولمّا أصدرت الجمعيّة العامة للأمم المتحدة مشروع تقسيم فلسطين, ضمّنته إلتزام كلّ من الدولتين العربيّة واليهوديّة بأن تقوم الجمعيّة التأسيسيّة في كلّ منهما بوضع دستور ديمقراطي يكفل حماية الأماكن المقدّسة وحقوق الإنسان([2]). وقد انقسمت القوى السياسية في إسرائيل ما بين مؤيّد ومعارض لوضع دستور وكان لكلّ فريق حجمه واسانيده, إذ كان المعسكر الديني ضمن الفريق المعارض, وأيّده في ذلك حزب مباي أكبر الأحزاب السياسيّة آنذاك. أمّا أحزاب حيروت والصهيونيون العموميون والمبام والحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) فكانت تؤيّد وضع دستور مكتوب([3]).
وكانت الأحزاب المؤيّدة ترى أن الدستور المكتوب يشكّل الإرادة المثلى والفعّالة للحيلولة دون استبداد الأغلبيّة في البرلمان ­ الكنيست ­ في مواجهة الأقليّة, كما وأنه الأداة الكفيلة بصيانة الحريّات العامّة للأفراد ويحقّق الوحدة والتماسك في المجتمع ويعتبر الأداة الفضلى لتحديد السياسة التربوية والتعليمية...(*)
أمّا الفريق المناهض لوضع دستور وهو الفريق الأغلب والأقوى ­ ومن ضمنه دائماً الأحزاب الدينية التي رأت أن التوراة يجب أن تكون دستور هذه الدولة ­ ومن ضمنه أحزاب علمانية أخرى كان في مقدّمتها حزب ­ مباي ­ بزعامة بن غوريون, التي رأت أن على هذه الدولة مهام يجب القيام بها ومن أهمّها تجميع يهود العالم في الكيان العبري والعمل على استيعابهم وتوفير الأمن العسكري والإقتصادي فيه. كما أن وضع الدستور من شأنه تقييد حريات القيادات السياسية بصدد الممارسات القمعية التي قد تراها ضرورية ضد غير اليهود حتى ولو حملوا الجنسية الإسرائيلية, والمقصود بهم العرب. هذا بالإضافة إلى أن وضع الدستور يعني تقييد حرية الدولة في ما يتعلّق برقعة الأرض التي تحتلّها, ويعني الحد من قدرة السياسيين على التلاعب في مجال عمليات التهويد والإستيلاء على أراضي وممتلكات أصحاب الأرض الشرعيين من العرب الفلسطينيين.
هذا ناهيك عن أن وضع الدستور قد يؤدّي إلى وضع قيود على دور المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية التي تقوم بالدور الأبرز في تنفيذ استراتيجيات السياسة الخارجية([4]).

ب- ­ أزمة الأيديولوجيا الصهيونية
لم تتعرّض الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة بعد بلفور لتوجّه الدولة الأيديولوجي, إذ يبدو أن الصهاينة التوطينيين كانوا واعين لحقائق الموقف في فلسطين, ولصعوبات الاستيطان, كما لم يكن توجّه الدولة الصهيونية يعنيهم من قريب أو من بعيد ما دامت تؤدّي الأغراض المطلوبة منها, مثل إبعاد يهود شرق أوروبا عنهم والقيام بدور المدافع عن المصالح الاستعمارية الامبريالية([5])... ولعلّ الصيغة المراوغة التي توصّلت إليها المنظّمة الصهيونية العالمية بشأن الاستيطان كانت محاولة للتوفيق بين كلّ الصهاينة والجمع بينهم وراء الحد الأدنى الصهيوني... فالهدف هنا لم يعد يحدّد شكل الدولة الصهيونية, ولا شكل ملكية الأرض ولا المثل الإجتماعية أو العقائدية الظاهرة أو الكامنة, وإنّما تحدّث فقط عن الحصول على أرض فلسطين (أرض إسرائيل) كي تكون ملكاً للشعب اليهودي بشكل مبهم ومجرّد. ولهذا يصعب الحديث عن يمين أو يسار داخل الحركة الصهيونية, فمن الناحية البنيوية يتّفق الجميع على الحد الأدنى.
أزمة الايديولوجيا تظهر أيضاً في صعوبة الإجابة عن السؤال الجوهري والأساسي: هل الصهيونية قيمة دينية أم قيمة علمانية؟ آرييه درعي الزعيم السابق لحزب شاس اليهودي الشرقي, والمسجون حالياً لانتهاكات مالية وتزوير, يقول: “الصهيونيون الحقيقيون هم الذين يحافظون على شرائع التوراة”. والحاخام عوفديا يوسف, الزعيم الروحي المطلق لحزب شاس, يكفّر القضاة العلمانيين وكلّ من يتوجّه إلى المحاكم العلمانية الخاصة بالدولة, ويصف المهاجرين الروس بالأغيار “غوييم”. والجدير ذكره أن نوّاب حزب شاس في الكنيست, مثلهم مثل العرب ­ لا يقفون عندما يعزف نشيد الدولة “هاتيكفا” ­ الأمل في الكنيست, أو أنهم يغادرون القاعة, علماً أن تمثيل هذا الحزب هو 17 مقعداً, أي أنّه ثالث قوّة برلمانية بعد تحالف إسرائيل واحدة (26 مقعداً) والليكود (19 مقعداً) من أصل 120 مقعداً.
أمّا الأحزاب التي خاضت الإنتخابات عام 1999 تحت لواء الصهيونية, فقد فشلت في الوصول إلى الكنيست (رغم أن نسبة الحسم لا تتجاوز 1,5% من الأصوات) ومن بينها حزب “تسوميت” (الصهيونية المتجدّدة) بزعامة رئيس الأركان الأسبق الجنرال رفائيل إيتان, وحزب الطريق الثالث بزعامة الجنرال افيغودور كهلان) أو أنها فقدت الكثير من قوّتها التمثيلية مثل حزب مفدال (الديني القومي الصهيوني الذي إنخفض تمثيله من 9 إلى 5 مقاعد), ناهيك عن تمزّق الليكود وانسحاب كتل منه مثل حزب الوسط وشاس وغيشر (الجسر) بزعامة دافيد ليفي.
من هذا المنطلق يمكننا الحديث عن شرذمة الهويات الدينية والقومية والسياسية. في إسرائيل, وبالتالي عن تراخي قبضة الصهيونية التي لم تعد تتمكّن من احتواء التناقضات الداخلية المستشرية, إلى حدّ التصريح بالحديث عن مرحلة ما بعد الصهيونية وعن ضرورة تبنّي هويّة إسرائيلية فقط, وعن ضرورة تحوّل إسرائيل إلى دولة شرق أوسطية عادية.
ويتابع فيقول: “لقد تغيّرت وتفتّتت الصورة الأسطورة المأمولة لتحلّ محلّها صور أخرى عديدة لكلٍّ منها شرعيتها... بين اليهودي والعربي, والمتشدّدين دينياً (الحريديم) والقوميين الدينيين (غوش ايمونيم) والتقليديين والعلمانيين وغيرهم ممّن تمتدّ جذورهم إلى أصول عرقية مختلفة مثل السفاراديم والأشكنازيم والمهاجرين الروس والأثيوبيين (الفلاشا) وغيرهم.
وقد أدّى هذا التفتّتت للصيغة الإسرائيلية إلى تشرذم بين ثقافات وطوائف مختلفة, ولهجات متباينة, ومواقف متصارعة تجاه الدولة اليهودية. ويخلص (بن عامي) إلى القول بأنّ هذه الانشقاقات “تؤهّل لحدوث انفجارات عنيفة داخل المجتمع([6])”.
الجدير بالذكر في هذا السياق أيضاً أن استطلاعاً للرأي نشر في إسرائيل بعد توقيع اتفاق “واي بلانتيشن” مع السلطة الفلسطينية, أثبت أن 55% من الإسرائيليين يعتقدون اعتقاداً قوياً يكاد يكون جازماً بأن اغتيالات كثيرة, كاغتيال (رابين) سوف تقع في إسرائيل عاجلاً أو آجلاً. والجميع يعلم اليوم أن مقتل (رابين) على يد مهووس ديني إسمه (يغال عامير) قد تمّ وفق فتاوى بعض كبار الحاخامات الذين اعتبروه خائناً وكافراً.
ومنذ ذلك الحين أصبح مصطلح “الحرب الأهلية” بين المتدينين والعلمانيين في إسرائيل شائع الإستعمال, بل وأكثر من هذا, بدأ الحديث عن احتمال حصول انقلاب عسكري وصراع جنرالات. فإسرائيل حسب حاييم هانغفي هي “ديمقراطية مسلّحة حيث نجد الجنرالات في كلّ مكان: في الكنيست في الحكومة, في البلديات والمجالس المحليّة, وأين لا يوجدون؟ حتى في مقر الرئاسة مثل حاييم هرتسوغ وعيزر فايتسمان. “إنها دولة ترتدي الخاكي”([7]). وعلى سبيل المثال يعدّد هانغفي: اوري أور, رفائيل ايتان, بنيامين بن اليعيزر, متان فلنائي, رحبعام زئيفي, آمنون شاحاك, افرايم سنيه, اورن شاحور, ايهود باراك, آرييل شارون... هؤلاء وأمثالهم حسب هانغفي هم الطغمة العسكرية, وهي “الحزب غير المسجّل أبداً في سجل الأحزاب في وزارة الداخلية وهي التي ستنتصر”. ويضيف: “علينا أن نسحب موضوع السلام من أيدي الجنرالات لأنهم يوقفونه ويفجّرونه ويقضون عليه, يجب أن نقوم بذلك قبل فوات الأوان”.

ج- ­ رئيس وزراء أقوى وكنيست أضعف وبالعكس
يتيح قانون الانتخابات الجديد المطبّق منذ العام 1996 للإسرائيليين اختيار رئىس وزرائهم بالإنتخاب المباشر بدلاً من انتخابه حزبياً كممثّل لأقوى حزب, ثمّ انتظار نتائج الحزب في الانتخابات البرلمانية العامة التي تجري عن طريق قوائم حزبية.
والملفت أن مؤيّدي القانون الجديد, من اليمين واليسار, كانوا طالبوا باختيار مباشر لرئىس الوزراء من أجل زيادة قوّة واستقرار الحكومة, في نظام سياسي يشهد تشرذماً سياسياً, ومن أجل تقليص قدرة الأحزاب الصغيرة على المناورة والتأثير على القرارات الكبيرة, ولضمان زيادة ثقة الشعب بقيادته. إلاّ أنه تبيّن فشل هذا الإجراء في حلّ المعضلة البنيوية, وتبيّن أنّ تطبيق القانون الجديد من شأنه أن يعادل ما بين قوّة السلطتين التشريعية (الكنيست) والتنفيذية (الحكومة) عن طريق تقليص قدرة الكنيست لصالح الحكومة, بحيث أن نجاح المعارضة في السيطرة على الكنيست من شأنه أن يؤدّي إلى أحد أمرين:
1- ­ زيادة تعلّق الحكومة بالأحزاب الصغيرة وبالتالي زيادة نفوذ هذه الأحزاب بدلاً من تقليصه والحدّ منه.
2- ­ عدم قدرة الحكومة على تمرير اقتراحاتها وسياساتها في الكنيست وبالتالي عجزها عن تنفيذ خطتها وستراتيجيتها.
على الصعيد ذاته شكّل إنتخاب رئيس الوزراء بشكل مباشر إضعافاً لدور بقيّة أعضاء الحكومة, ممّا أدّى عملياً إلى تحويل الوزراء إلى مجرّد مدراء مكاتب وحرّاس وزارات أكثر منهم صنّاع قرار سياسي([8]). ولهذا السبب غالباً ما وجدنا حالات عديدة من الإستقالات أو الإقالات في حكومتي نتنياهو وباراك على حدّ سواء, ممّا زاد في الصعوبات والعقبات بوجه مشاريع التسوية السياسية, وأدّى إلى حالات كثيرة من التأجيل أو التعطيل أو التبديل في بنود هذه التسوية في حال التوصّل إليها. ومن هنا يستخلص أفيغدور هاسليكورن في صحيفة جيروزاليم بوست أنه بدلاً من محاولات “إعادة عملية السلام إلى مسارها, يتوجّب على قادة إسرائيل إعادة التفكير بعقيدة البلد الستراتيجية, ذلك لأنّ التوصّل إلى معاهدات سياسية مع دول المواجهة العربية والفلسطينية لم يكن يهدف إلى إحلال السلام فحسب, بل إلى تحسين الأمن القومي الإسرائيلي في وجه تهديدات ستراتيجية جديدة”.
ويضيف: “لقد كانت مبادرة السلام في أذهان واضعيها شمعون بيريس وإسحاق رابين, تهدف إلى مواجهة التهديد المتنامي للصواريخ العربية المزوّدة بأسلحة الدمار الشامل. وعدم القدرة على منع مثل هذه الصواريخ من الوصول إلى إسرائيل, كان بمثابة الإعلان عن أن الحل السياسي قد أصبح حاجة أساسية, لذلك يتوجّب على إسرائيل أن تعمل على الحؤول دون أن تصبح هدفاً... وبالتالي وعلى ضوء الحرب المستمرّة مع الفلسطينيين, فإنه بات من الواضح, حتى وإن تمّ التوصّل إلى اتفاق في نهاية الأمر, بأن أكثر ما يمكن توقّعه هو “سلام بارد”. وفي أسوأ الأحوال, دولة فلسطينية جديدة قد تكون مصدراً مستمراً لعدم الاستقرار والتحريض والتوتّر الذي سيهدّد علاقات إسرائيل مع بقيّة العالم العربي. وبدلاً من سلام ينجز مهمّته الستراتيجية في تعزيز الأمن الإسرائيلي في مواجهة التهديدات المستجدّة, سيكون هناك سلام ذو أثر هامشي في أحسن الأحوال”([9]).
 

د- ­ إسرائيل لا تملك إمكانية التخطيط القومي
يعتبر البروفسور يحزقيل درور, أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية, ومدير مركز الأبحاث الأمنية في الجامعة نفسها, أن إسرائيل دولة أنشئت بفضل قوّة نبوءة تنجيمية, ولا تزال متمسّكة بالرغبة بعيدة المدى المتعلّقة بتطبيق المبادىء الصهيونية. لهذا فإنه كان يتوقّع منها التلهّف على التخطيط المستمر والشامل, لأن التخطيط يشكّل أداة رئيسة لربط الأعمال الآنية بالطموحات بعيدة المدى([10]). ويذكر درور أن الجيش الإسرائيلي الذي يعتبر من أكثر الجهات والهيئات حاجة للتخطيط, لم ينشىء شعبة للتخطيط إلاّ بعد حرب تشرين الأوّل 1973, ومنذ ذلك الحين اجتازت الشعبة تطوّرات مختلفة.
أمّا بالنسبة للنظام الإسرائيلي العام, فيرى درور أن الكيان الائتلافي لجميع الحكومات الإسرائيلية يعرقل أيّ جهد للوصول إلى تخطيط قومي حقيقي, لأنّ كلّ وزير يتمتّع باستقلال كبير في إدارة وزارته, الأمر الذي خلق ما يشبه الإقطاع في الإدارة الإسرائيلية. ويضيف أن ضغط المشاكل اليومية يتطلّب الإهتمام الزائد ويمنع بذل جهود في إنشاء أجهزة تخطيط, وإعطاء أهمية مناسبة للاعتبارات بعيدة المدى. ويختم بالقول إن كثرة الأحداث المفاجئة والتطوّرات غير المتوقّعة, قد ساهمت في ضحد تنبّؤات عديدة وأدّت إلى عدم الوثوق بالقدرة على التخطيط”([11]). وبالتالي فالحقيقة المرّة هي أن إسرائيل تواجه أوضاعاً ليس أمامها معها ­ بحسب درور ­ أيّ خيار بديل سوى خيار “المراهنة على التاريخ” أي المجازفة في قضايا غير قابلة للتنبؤ المسبق, وخاصة قضايا المصالحة التاريخية مع العرب.
لقد واجهت إسرائيل في العامين 1967 و1973 حالتين عنيفتين من المدّ والجزر افقدتاها قدرتها على التوازن الأيديولوجي النظري والعملي البراغماتي. وحزب العمل, القائد التاريخي للكيان العبري, واجه حالة إنهيار وسقوط لولبية, اثر فقدانه مضمونه الأساسي وأيديولوجيته ومؤيّديه, إلى جانب خسرانه المفهوم القومي التقليدي الذي كان قد تبنّاه تاريخياً, والذي تمثّل بتبنّي سياسة صهيونية متعصّبة, لكنّها تعرف الحدود الفاصلة ما بين المعقول واللامعقول, وبين المرغوب فيه والمؤدّي إلى الكارثة. فكان مفهومه عن قيام (دولة إسرائيل) في أساس الأيديولوجيا الصهيونية حسبما تبلورت منذ مشروع التقسيم عام 1947 ولجنة بيل, وحتى حرب الأيام الستة عام 1967. فخلال ثلاثين سنة كاملة, حكمت صهيونية التقسيم هذه, وما يسمّى “الصهيونية العاقلة” الحياة السياسية في اليشوف(*) وفي إسرائىل, ونجحت بتوفير قوّة كافية لإقامة مؤسّسات الدولة وتثبيت نظام الحكم, وصمدت في وجه الفقر والبطالة وسائر الضغوط الداخلية والخارجية الكبيرة, لكنّها مع ذلك عجزت عن ترجمة النصر السريع والبخس الذي أحرزته عام 1967 إلى تعابير سياسية ستراتيجية.
وقد حلّل رئيس مركز الإنتخابات في المعراخ, حاييم بارليف, الأسباب التي أدّت إلى سقوط المعراخ (التجمّع) بقوله: “انني أرى هناك أسباباً رئيسية, بعضها ناتج عن الحال الموضوعي, وبعضها ذاتي([12])”. ويضيف: “منذ يوم الغفران 1973 أصبح الوضع الموضوعي صعباً جداً على جميع الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية والإجتماعية”. والمواطن الإسرائيلي العادي بات يكتشف كلّ صباح وضعاً مختلفاً عن رغبته وأمانيه. فبعد 29 سنة من الاستقلال, وبعد خمسة حروب كنا نرغب في أن يتركونا في النهاية نبني الدولة بهدوء, ولكن الواقع مختلف. فالدول العربية لا تتصرّف كما كنّا نرغب, والولايات المتحدة كذلك لا تتصرّف حسب رغبتنا. كذلك فالإقتصاد العالمي لا يدار حسب مشيئتنا. والهجرة تقلّصت والنّزوح إزداد والجمهور أصبح أكثر انتقاداً. فالسلطة لم تعد سلطة, ولا يمكن الاعتماد على المؤتمنين على القطاعات المختلفة, أما الإنضباط الداخلي فقد ضعف, وطبيعي أن يوجّه اللوم إلى القيادة. والسبب الآخر الذاتي يتعلّق بالحكم أو المؤسّسة التي لم تستطع التغلّب على الخلافات بين أعضائها. إن الخصومات والعلاقات الشخصية السيّئة داخل الحكومة أصبحت حديث الجمهور ومركز اهتمامه, وأقصد مثلاً العلاقات بين رئيس الحكومة ووزير الدفاع وبين سكرتير عام الهستدروت ووزير المالية.
كذلك فأن التفكّك الأيديولوجي وفقدان الواقعية السياسية ­ التي كانت سرّ قوّة حزب العمل في الماضي ­ قد أدّيا إلى تداعي الحزب وسقوطه. وفي ظلّ حكومة غولدا مائير وقبيل صدمة عام 1973, كانت الدولة قد أصيبت بحالة من البارانويا ومن الوهم الذاتي وفقدان الشعور بالواقع, والتجربة نفسها تكرّرت مع أوهام بيغن ­ شارون عام 1982 في أعقاب تجربتهما الإجرامية والجنونية في اجتياح لبنان والوصول إلى احتلال عاصمته بيروت, والتي انتهت كما هو معلوم بالانسحاب الذليل وغير المشروط من القسم الأكبر من أراضيه المحتلّة. وبدلاً من تقسيم لبنان وتصدّعه, تصدّعت إسرائيل وظهرت فيها صراعات داخلية أهمّها: الصراع القومي (بين اليهود والعرب) والصراع الديني (بين المتدينين والعلمانيين) والصراع الطبقي (بين الأغنياء والفقراء) والصراع الأيديولوجي (بين اليمين واليسار). كما ويمكن الإشارة إلى ثلاثة تصدّعات أخرى أيضاً هي: التصدّع ما بين الرجال والنساء وبين القادمين الجدد والقدامى, وبين المواطنين والعمّال الأجانب([13]).
لقد لخّص وزير الدفاع الأسبق موشيه آرينز حالة العجز الإداري والقومي التي تكابدها إسرائىل بقوله: “أصبح الكنيست اليوم خاضعاً لسيطرة جماعات مصالح وللمرّة الأولى في تاريخ إسرائيل لا يمتلك الحزبان الأساسيان ­ الليكود والعمل ­ سوياً الأكثرية”([14]).
ويضيف آرينز أن الأزمات الحكومية اليومية التي تعيشها إسرائيل منذ إنتخابات شهر أيار 1996, إنّما تشكّل إنعكاساً مباشراً لهذا الوضع الذي يحمل في طيّاته المزيد من التدهور, ,حيث بالإضافة إلى تفتت الكنيست وشرذمته, سيحصل تراجع دراماتيكي في تمثيل الأحزاب التي لها مصالح “وطنية” وليس فقط مصالح خاصة. وهذا الواقع سيؤدّي إلى تعطيل القدرة على تكوين رؤية مستقبلية موحّدة, وإلى إضعاف أو إلغاء نظام التوازن والمراقبة الذي من المفترض بالحزبين الكبيرين أن يشكّلاه في إطار نظام برلماني سليم.
أمّا الكاتب اوري أفنيري فعلّق على مقولة عضو الكنيست شلومو بنزري من حزب شاس حين قال وهو مأخوذ بنشوة النصر عام 1996: “سنحوّل الكنيست إلى كنيس”, فقال في إفتتاحيّة الجيروزاليم بوست([15]):
“إن إسرائيل الواحدة الموحّدة قد ماتت منذ وقت طويل, وقامت بدلاً منها فيدراليات من المجتمعات, كلّ واحدة منها لها طابعها الداخلي ووجهة نظرها وأحاسيسها وحبّها وكراهيتها”.

2- ­ صعوبة التغيير مع مجتمع تحكمه العنصرية المسلّحة
فاجأ رئيس الوزراء الإسرائىلي إيهود باراك الوسط السياسي الإسرائيلي بفتحه الملفات الداخلية الصعبة على مصراعيها من خلال إعلانه ما سمّي “بالثورة المدنية”, فاقترح الشروع بصياغة دستور لإسرائيل وإقرار قانون الخدمة الوطنية الإلزامية للمتدينين والزواج المدني ووضع نظام عام للتعليم, وذلك في سعي منه لتغيير قواعد اللعبة السياسية الداخلية وتصليب معسكره وتوسيعه. وكان المعنى من هذه الخطوة أنه كان يريد ­ بحسب ادعاءاته ­ خوض الإنتخابات في 6/2/2000 بملفات وخطط كاملة على الصعيد الداخلي, عن طريق وضع دستور لإسرائيل يحدّد هويتها وحدودها السياسية والجغرافية والبشرية, أو على الصعيد الخارجي, عن طريق مقاربة جديّة لحلّ الصراع العربي ­ الإسرائيلي على جميع المستويات.
وعلى المدى الستراتيجي البعيد كانت خطوة باراك تأتي استجابة لضرورات التغيير التي بات الكيان الصهيوني بحاجة إليها, لا سيّما لجهة إعادة صياغة النظام السياسي على قاعدة الأقلية والأكثرية لأن الإجماع لم يعد يتلاءم مع التطوّرات والمتغيّرات الداخلية والخارجية, لا سيما بعد إنحسار مصادر التهديد التقليدية وضمان الولايات المتحدة الأميركية أمن إسرائيل وتفوّقها النوعي, ليس فقط تجاه الدول العربية مجتمعة, بل تجاه منطقة الشرق الأوسط بأكملها, ومع العلم بأن مسألة الإجماع الوطني الداخلي باتت تشل السياسة الإسرائيلية الخارجية وتحدّ من تكيّفها مع التطوّرات الحاصلة, وأيضاً باتت تجعل من إسرائيل القوية والمقتدرة عسكرياً, مجرّد رهينة نزوات أحزاب صغيرة نسبياً وذات توجّهات ومصالح خاصّة. وبالتالي فالمفارقة التي تواجهها إسرائيل في المرحلة الراهنة من وجودها بعد أكثر من خمسين سنة من التخبّط والتيه, تكمن في أنها في الوقت الذي تعاني فيه من التمزّق والشرذمة, تجد نفسها في أمس الحاجة إلى الإستقرار والتطوّر السياسي والاقتصادي والإجتماعي والأمني, خاصة بعد أن أصبح أكثر من 56% من سكانها اليهود من مواليدها, الأمر الذي بات يطلب منها بإلحاح حسم التساؤلات المطروحة عليها لجهة تعريف هويّتها وتحديد رقعة انتشارها الجيوسياسية والديموغرافية, وبالتالي التحوّل من دولة ليهود العالم إلى دولة لذاتها ولبنيتها, ومن دولة وظيفية إستعمارية, إلى دولة شرق أوسطية عادية.
وما يدفع إسرائيل إلى ضرورة الحسم في هذه الأسئلة أيضاً جملة المتغيّرات الدولية والتحوّلات العالمية, وخاصة مسارات العولمة الاقتصادية والتطوّرات التكنولوجية والعلمية التي جعلت من قوّة الدول في المجال الدولي مسألة لا تقاس بمساحتها أو عدد سكانها أو حتى قدرتها العسكرية فقط, وإنّما بقدرتها العلمية والتكنولوجية والاقتصادية, وبالقبول الخارجي بها, هذا فضلاً عن تأثيرات عملية التسوية على إسرائيل إذ فرضت تحويل الصراع العربي ­ الإسرائيلي من قضية صراع على وجود إسرائيل إلى قضية صراع على حدودها, الأمر الذي زاد في إحراجها وتوتّرها الداخلي لما حتّمه عليها من إلزامية تقديم الاستحقاقات المطلوبة والضرورية لمواكبة المتغيّرات والتحوّلات آنفة الذكر, إن لجهة الحاجة لتطوير أوضاعها وبناها الداخلية, أو لتعزيز مكانتها الخارجية([16]).
إلاّ أن إسرائيل إزاء هذه الضرورات تجد نفسها غارقةً في إشكاليات ومشاكل الطابع التاريخي والسياسي الملتبس لقيامها من حيث كونها مجتمعاً استيطانياً إحلالياً(*), بفعل عوامل القوّة والهيمنة والمساعدة الخارجية. وكلّ التجارب تدلّ على أن المجتمعات الاستيطانية المصطنعة, وخاصة المجتمعات الأيديولوجية (القومية والدينية) العنصرية فيها, تحتاج إلى وقت طويل وإلى تجاذبات عاتية حتى تستطيع حسم خياراتها, كما وتؤكّد التجارب بأن البنى والدوافع الداخلية لوحدها تشكّل شرطاً ذاتياً لازماً, إلا أنه ليس كافياً لعملية التغيير, التي تحتاج إلى جانب عوامل الدفع الداخلية, إلى عوامل دفع خارجية للضغط في هذا الاتجاه, وهذا ما ينطبق على إسرائىل إلى حدّ كبير.
إن إسرائيل اليوم تعيش حالة حادّة من التوتّر والاستقطاب الشديد ما بين مستوجبات التسوية ومتطلّبات طبيعة الدولة (هل هي يهودية أم إسرائيلية؟ هل هي دينية أم علمانية؟), وعلى هذا الأساس يتبلور تيّاران أساسيان: الأوّل ويضمّ حركة العلمانيين ورجال الأعمال والمثقّفين وهو تيار يمهّد الطريق نحو إجراء مراجعة للصهيونية التقليدية, والثاني يضمّ الأحزاب القومية اليمينية الشوفينية بزعامة الليكود والذي يرى أن مجرّد المراجعة ولو محدودة للصهيونية يشكّل خطراً على وجود إسرائيل بالذات, هو يدعو بالتالي إلى تجديد وإحياء الصهيونية.
وقد عمل هذا التيار وما يزال يعمل, سواء بزعامة نتنياهو أو شارون, كلّ ما يستطيع للتحالف مع الأحزاب الدينية الأصولية المتطرّفة, للحدّ من نفوذ تيّار المراجعة والتحريض عليه باستنفار المشاعر والرموز الصهيونية والدينية التقليدية لدى جمهور المستوطنين, الأمر الذي أدّى إلى تعميق هوّة الخلافات السياسية والإجتماعية والعرقية والطائفية, ممّا يجعل من آليات التسوية أشبه بمجرّد دواء لوجع الرأس, فيما مؤشّرات المرض وعوارضه تدلّ على أنه مرض عضال ومزمن ويستعصي على الشفاء.
في هذا السياق جاءت رسالة الكاتب الإنكليزي المعروف “باتريك سيل” إلى إيهود باراك حيث خاطبه بالقول: “قلت عند تسلّمك للسلطة إن إسرائيل قويّة بما يكفي لصنع السلام. ابقَ على هذا الشعار. ربّما أردت السلام فعلاً وقتها لولا أن أحداثاً مفاجئة دفعتك في الإتجاه المعاكس. الكلّ يعرف أن إسرائيل قويّة, لكن المقياس الحقيقي للقوّة هو عدم الاضطرار إلى إستعمالها. إذ ما أن تستعملها, كما تفعل الآن, وبوحشية, لقمع الإنتفاضة, حتى تنكشف حدودها. فكّر بما حقّقته عن طريق استخدام القوّة. لقد وحّدت العرب بعد ما كانوا منقسمين, وفجّرت غضب كلّ المسلمين, ونسفت صدقيّة حليفك الأميركي, ولوّثت صورة بلدك, وجلبت العنف إلى مدن إسرائيل, وأجّجت لدى الفلسطينيين مقداراً هائلاً من الحقد والتعطّش إلى الإنتقام”([17]).
ويضيف باترك سيل مخاطباً باراك: “ليس لك توقّع حلّ من الولايات المتّحدة أو أوروبا أو الأمم المتحدة, لأنّها مهمّتك أنت من دون سواك, المطلوب كما أعتقد بقوّة, هو قلب المنظور الإسرائيلي المعتاد رأساً على عقب, وإحتضان تطلّع الفلسطينيين إلى إقامة دولة مستقلّة, باعتبارها الضامن الأفضل لأمن إسرائيل على المدى البعيد ولموقعها في الشرق الأوسط”([18]).
ويختم سيل خطابه لباراك, وللإسرائيليين من ورائه بقوله: “طبق درس لبنان على الضفّة الغربية وغزّة. إن الإحتفاظ بالضفّة الغربية وغزّة بالقوّة سيكلّف ثمناً فادحاً في الأرواح وسيأتي في النهاية بكارثة على إسرائيل. وفي الأيّام الأخيرة نصح الرئيسان السابقان, الأميركي جيمي كارتر, والسوفياتي ميخائيل غوربتشوف, وهما رجلا الدولة اللذان طالما جرّبا المآزق السياسية, بالعودة إلى قرار مجلس الأمن رقم 242 أساساً للتسوية وبتدويل عملية السلام. اقبل هذه النصيحة”.
إلاّ أنه في مقابل هذا النداء يعلم الجميع مدى محدودية قدرات رئيس الحكومة الإسرائيلية للإستجابة لمتطلّبات ما ينادي به العرب من مستوجبات ما يسمّونه السلام العادل والشامل, الذي في نظرهم يعيد الحقوق العربية المشروعة ويحقّق الأمن المتوازن والمتكافىء لجميع دول المنطقة. وهذا يعني صعوبة التغيير إن لم يكن إستحالته. فالقضايا الجوهرية المعروفة والتي يدور حولها الصراع باقية على حالها من دون أي حلّ. وإسرائيل ماضية في تعنّتها وتعقيدها للأمور أكثر فأكثر سواء من خلال الإستمرار في تنفيذ سياسة الاستيطان التوسّعية وإعلان رفضها لحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرضه بما فيها القدس المحتلّة, أو من خلال رفض الانسحاب الكامل من هضبة الجولان السورية ومن مزارع شبعا اللبنانية وسواها من الأراضي المحتلّة في جنوب لبنان, بحيث بات من المرجّح القول أن إسرائيل المحكومة بمحدودية خياراتها في الخريطتين الإقليمية والدولية, باتت أكثر ميلاً لتفضيل العمل العسكري, إن استطاعت, لمجرّد هروبها من استحقاقات السلام. مع العلم بأن حتى هذا الخيار بات في منتهى الصعوبة بسبب تآكل قدرة الردع الإسرائيلية داخلياً وإقليمياً, في أعقاب ما حقّقته المقاومة والانتفاضة في كلّ من لبنان وفلسطين, مع ما رافق ذلك من دعم عربي ووحدة صفّ داخلي, وبسبب سقوط خيار الحرب الخاطفة مثلما حصل عام 1967, وتراجع الحاجة إلى إسرائيل للقيام بالحروب بالإنابة من قبل الدول العظمى التي تدعمها مثلما حصل عاميّ 1956 و1982.

3- ­ خلاصة واستنتاجات
يتبيّن من خلال فقرات البحث السابقة أن الكيان الصهيوني كان وما يزال يعيش أزمة بنيوية حقيقية, تنبع في الأساس من عجزه عن النهوض والانتقال من وضعيّة الثكنة وحالة العسكرة المفرطة التي يعيشها مجتمعه, إلى حالة الكيان المدني العادي والطبيعي, في بيئة غير مناسبة لنموّه. وهذا ما يمنعه من السيطرة على نفسه أوّلاً ناهيك بعجزه عن السيطرة على المنطقة.
إنّه من باب تبسيط الأمور اختزال الصراع العربي الإسرائيلي, حسبما يريد الإسرائيليون, بمجرّد التركيز على طبيعة وبنية النظم العربية ­ التي تعاني دون شك من الكثير من مظاهر القصور والتخلّف وفقدان الديمقراطية ­ وإهمال الأسباب الأساسية لهذا الصراع كاغتصاب حقوق الفلسطينيين وتشريدهم والتنكيل بهم حتى حدود إبادة الجنس؛ وهل بوسع أيّ إنسان منصف أن يغضّ النظر عن العقيدة الصهيونية وتاريخ اليهود وميزان القوى الإقليمي ودعم الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية لإسرائيل واعتداءاتها على العرب؟
إنّ مأزق المنطقة ومأزق السلام فيها إنّما ينبع في الواقع من أزمة النظام الصهيوني نفسه ومن أزمة الصهيونية التي تريد القوّة للقوّة ولا تريدها فقط لأغراض أخرى “فالقوّة هي جوهر الوجود ومبرّره, بل هي الوجود” حسبما يقول بن غوريون الذي يضيف: “إن الوضع في فلسطين لا يسوّى إلاّ بالقوّة العسكرية. وان إسرائيل لا يمكن أن تعيش إلاّ بالسلاح والقوّة. وعلى هذا الأساس فالحرب هي التي تقرّر مصير إسرائيل كدولة, فإمّا أن تزول وإمّا أن تبقى”.
وفي المقابل يقول الرئيس السابق لوزراء العدو اسحق شامير: “إنني لا أؤمن بالحلول الوسط في ما يتعلّق بالأراضي. إن بلدنا صغير جداً وهذه الأرض تتصل بحياتنا كلّها, بأمننا, بمياهنا وباقتصادنا. إن السلام والأمن متلازمان, كما أن الأمن والأرض والوطن هي كيان واحد”([19]).
وهذا ما كرّره أيضاً بنيامين نتنياهو عندما كان رئيساً للوزراء خلال مقولة “السلام في مقابل السلام والأمن في مقابل الأمن”, رافضاً الانسحاب في حينه من لبنان ومن الجولان ومن الضفّة الغربية وقطاع غزّة. وهكذا تمّ تعطيل قرارات الشرعية الدولية وتمّ وضع عمليه التسوية برمّتها على سكّة المجهول.
وإزاء الوضع القائم يمكننا تلخيص الستراتيجية الإسرائيلية بالنقاط التالية:
1- ­ تسعى إسرائيل للاحتفاظ بمواقع ستراتيجية في الأراضي العربية المحتلّة, وتعزيز موقعها الجيوستراتيجي في المنطقة مع العمل على زيادة رقعتها الاستيطانية طولاً وعرضاً.
2- ­ تهتمّ بجني ثمار شعارات السلام, من طريق اتباع أسلوب العصا الغليظة والجزرة الرفيعة, ذلك بإقامة علاقات طبيعية مع العديد من الدول العربية, سراً وعلناً وفي مختلف مجالات التطبيع الاقتصادية والثقافية والعلمية والسياسية, وبالتالي تمويه سلبيات سياستها الخارجية وتعزيز دورها واقتصادها في المنطقة.
3- ­ محاولة القيام بدور إقليمي مركزي, كدولة إقليمية عظمى, في منطقة الشرق الأوسط, على حساب الدول العربية والإسلامية التي تعتبر قلب ومحور هذه المنطقة, بطرح مشاريع وأفكار الشرق أوسطية.
4- ­ الاحتفاظ باحتكار التفوّق العسكري ضمن دائرة شعاعها 1500 كلم. إنطلاقاً من القدس بحسب تعبير ايهود باراك, من طريق تصنيع/ أو الحصول على أكثر الأسلحة الفتاكة تقدّماً في العالم ­ وتطوير برنامج التسلّح في مجال صناعة الصواريخ, والاستمرار بتطوير البرنامج النووي وسائر أسلحة الدمار الشامل([20]).
وتأسيساً على ما تقدّم, لا نتجاوز الحقيقة إن قلنا إنه في ظلّ هذا النظام المأزوم وهذه الستراتيجية, لا يرد حتى من باب الاحتمال, ان يتحقّق ما تصبو إليه شعوب المنطقة من أمن حقيقي ومن سلام شامل وعادل, إلا من خلال رصّ صفوف هذه الشعوب المهدّدة, وتوحيد رؤيتها ومواقفها من الخطر الصهيوني الداهم وامتداداته الاقليمية والدولية, الذي لا تنفع معه الحلول المنفردة ولا الوصفات العلاجية المهدّئة. والحل الجذري الذي إبتدعته المقاومة الصادقة والذكية في لبنان, من شأنه في هذا المجال أن يشكّل المثل والنبراس.


[1]  تيودور هرتسل ­ الدولة الصهيونية, ص 118 وما بعدها.

[2]  عبد الفتاح ماضي ­ الدين والسياسة في إسرائيل ­ مكتبة مدبولي, ص 427.

[3]  أسعد رزّوق ­ قضايا الدين والمجتمع في إسرائيل ص 183.
(*) علينا ملاحظة التقلّبات السريعة في شعبية القيادات مثل باراك ونتنياهو وشارون وعلينا ملاحظة انهيار أوسع تحالف حكومي في تاريخ إسرائيل بزعامة باراك خلال سنة ونصف فقط, الأمر الذي يكشف وجود خلل بنيوي ظاهر في تركيبة النظام وفي تركيبة الثقافة السياسية في المجتمع الإسرائيلي.

[4]  لمزيد من التفاصيل أنظر عبد الفتاح محمّد ماضي ­ الدين والسياسة في إسرائيل مكتبة مدبولي, ص 430 -­ 431.

[5]  لمزيد من التفاصيل أنظر عبد الوهاب المسيري ­ الإمكانات الأيديولوجية الصهيونية العرب ومواجهة إسرائيل ­ مركز دراسات الوحدة العربية الجزء الأوّل ص 305 وما بعدها.
وهذا التحليل البنيوي الداخلي لا ينفصل عن السياقات الحاصلة للصيرورات الخارجية, وشيوع ظاهرة ما بعد الحداثة والاقتصاد الليبرالي والعولمة, ومن هنا تبرز حقيقة إسرائيل كدولة تابعة لا تستطيع ولا يسمح لها بالإنفصال عن سياق المشروع الغربي وخاصة الأميركي. فمن التديّن والصهينة إلى الحداثة, وما بعد الحداثة, ومن النهج التعاوني الاشتراكي (الكيبوتسات والموشافات والهستدروت, إلى الليبرالية والخصخصة والإندماج في السوق الحر. ومن النظام الحزبي البرلماني إلى النظام شبه الرئاسي (الهجين), المتجلّي في فصل انتخابات رئاسة الوزراء عن انتخابات الكنيست. ومن المركزية الحزبية (العمل والليكود) إلى التعددية, وهذا كلّه يعني إعادة النظر في العناصر البنيوية ويعكس التحوّلات الاقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية التي عبّر عنها وزير الخارجية الإسرائيلي وعضو الكنيست عن حزب العمل شلومو بن عامي ­ الأستاذ في جامعة تل أبيب بقوله: “إن هذا المجتمع الذي أنشأه الأباء المؤسّسون من الصهاينة وأرادوا أن يكون بوتقة صهر تمتزج فيها مختلف الثقافات واللغات, تحوّل إلى مجتمع متعدّد الثقافات ومتعدّد الطوائف”.

[6]  شلومو بن عامي ­ الشعب ضدّ الدولة ­ معاريف الإسرائيلية 22/9/1996, ص 34.

[7]  معاريف ­ ديمقراطية الجنرالات حاييم هاتفقي 28/1/1999, نشرته السفير بتاريخ 1/2/1999

[8]  لمزيد من المعلومات أنظر: إبراهيم أبو جابر ­ معطيات ووقائع بين يدي الإنتخابات الإسرائيلية ­ قضايا شرق أوسطية ­ معطيات ووقائع ص 33 وما بعدها.

[9]  صحيفة الشرق 25/1/1001.

[10]  إسرائيل عام 2000 ­ تصوّرات إسرائيلية ­ دار الجليل ­ عمّان ص 13.[11]  المصدر نفسه.
(*) أليشوف: الوجود الاستيطاني اليهودي ما قبل تأسيس “الدولة”.

[12]  نسرين غوانمة ­ إسرائيل, الأحزاب السياسية وتطلّعاتها. الدار المتحدة للنشر ­ عمان, ص 283.

[13]  رونيت موزيكانت ­ معاريف 12/5/2000 ­ ثمّة إنفجار سيحصل.

[14]  جيروزاليم بوست 24/7/1997 ­ موشيه آرينز ­ كيفية عدم اتخاذ قرارات في إسرائيل.

[15]  جيروزاليم بوست 16/6/1996.

[16]  أنظر في هذا الخصوص ­ ماجد كيالي ­ إسرائيل ومشكلات التحوّل إلى دولة عادية ­ صحيفة الحياة ­ 25/9/2000.
(*) الإحلالي: تطلق على المجتمع الذي حلّ محلّ مجتمع آخر وقام على حسابه.

[17]  الحياة 12/12/2000 ­ باتريك سيل ­ رسالة مفتوحة إلى باراك.

[18]  المصدر نفسه.

[19]  شؤون عربية ­ العدد 92 ­ كانون الأوّل 1997, ص 104.

[20]  يقول باراك: “نحن القوّة الكبرى في المنطقة. نحن القوّة الأقوى في نطاق 1500 كلم حول القدس”. ­ أنظر مجلّة الدراسات الفلسطينية, العدد 40 خريف 1999, ص 150, مقابلة مع ايهود باراك.