من القلب

أستاذ أنسي شكرًا نحن بانتظار هديتك الجميلة
إعداد: الهام نصر تابت

تتوالى مواكب الرحيل وكأن كلًا منها يستولد آخر أكثر قسوة.
الولادات عسيرة، وكأن حضن الأرض سليل العوجس ورحمها نهر الجفاف.
رحل أنسي الحاج تحمله خواتم كلماته وتلك الـ«لن» إلى الينابيع. ينابيع الصفاء المولود من عنف التمرد النبيل. من روح تدمر المنمطات وتنطلق إلى كل جمال مشتهى، إلى البهاء المطلق، إلى الحرية...
اليوم وفيما أحاول كتابة هذه الكلمات يكون رحيل أنسي قد بلغ شهرًا كاملًا. لا أذكر أنني خلال رفقتي الطويلة مع القلم قد اعتصرني القلق إلى هذا الحدّ، وقد أكلني بؤس التعبير إلى هذا الحدّ.
قرأت على الأرجح كل ما كتب في صحف لبنان بمناسبة رحيله. لكن كل ما قرأت لم يشفع بقلمي ولم يسعفني بكلمة. كنت كمن يحاول استجماع صورته الخاصة من صور الآخرين، وهؤلاء شعراء ونقاد وكتاب غاصوا في عالم أنسي الشعري، في تمرّده ومشاكسته ومجازفاته الكثيرة، كما في قدرته اللامتناهية على صناعة التجارب وابتكارها فريدة، مرة تلو الأخرى.


بالنسبة إليّ، أنسي الحاج، هو الأستاذ أنسي. ذلك الشاعر الكبير ورئيس التحرير الاستثنائي، الذي استقبلني بوجه بشوش ودود حين وصلت إلى مكاتب «النهار العربي والدولي» في الثمانينيات وفي يدي ملف. لم تكن زيارتي بناء على موعد أو معرفة به أو بأي من العاملين هناك. كنت قد تركت عملي في «دار الصياد» وانصرفت إلى بناء عائلتي في ظل أوضاع أمنية لم تكن تسمح باجتياز نفق نهر الكلب بانتظام لبلوغ الحازمية. ولأنني لم أستطع الانقطاع كثيرًا عن الكتابة، فكّرت في كتابة تحقيقات ونشرها وفق ما تسمح الظروف. يومها كان في يدي أول تلك التحقيقات. عندما أمسَكَ بالملف وبدأ يقلب صفحاته، فاض على وجهه فرح واضح. قال: من أين أرسلك الله؟ في تلك الفترة كانت الإذاعات الخاصة في عزّ فورتها العشوائية وكانت إحدى مهماتها، تخريب الذوق العام عبر أغانٍ بعيدة كل البعد عنه المقاييس الفنية التي تحتكم إليها الذاكرة الجماعية اللبنانية. وكان الملف الذي أجريت فيه استطلاعًا للرأي، وتبيّن من خلاله أن ما يرغب بسماعه الناس بعيد كل البعد عمّا تبثه تلك الإذاعات. بعد أيام صدر «النهار العربي والدولي» وعلى غلافه الملف إياه، معنونًا: «قل لي من تسمع أقل لك من أنت».
منذ ذلك اليوم بدأ حبي التلقائي لفيروز واغانيها يتغذى بأبعاد معرفية زوّدني إياها الأستاذ أنسى.
بعد فترة كان الأستاذ قد أصبح في «النهار». قصدته هناك عدة مرات، ونشر لي في كل مرة. كانت فيروز أول من قادني إليه، وكانت فيروز موضوع آخر حديث بيني وبينه عندما بات في «الأخبار».
في إحدى زياراتي له في «النهار»، قال لي: «ما بك مثل غيمة شباط تظهرين ثم تختفين لتعودي فجأة». يومها قلت له أريد أن أقابل السيدة ولن ترتاح مني قبل أن ترتب لي موعدًا معها. كان ذلك العام 1994. وبعد فترة قصيرة جاءني جوابه: إتصلي بها وعرّفي عن نفسك، قد تدعوك إلى فنجان قهوة.
هل أخبرتك يا أستاذ أنسي أنه أطيب فنجان قهوة، مع أنني شربته من دون سكر خلافًا لعادتي؟
في محطات كثيرة كانت تستفزني أمور، خصوصًا في ما يتعلق بفيروز. كنت أكتب مقالتي وأرسلها بالفاكس «لعناية الأستاذ أنسي»، لأجدها في اليوم التالي في «النهار»، أو «الملحق» وبعد ذلك في «الأخبار».
آخر مرّة تحدثنا فيها على الهاتف كنت غاضبة كثيرًا، وكان السبب أيضًا أمر يخص فيروز.
قال لي سأخبرك شيئًا لم أخبره لأحد.
إسمح لي يا أستاذ أن أفشي السرّ الذي أودعتني إياه، وليكن عزاء لكثيرين، خصوصًا لمن تحدثوا عن «لن»، و«كلمات»، و«الينابيع»، و«الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، و«خواتم»... هؤلاء لهم منك هدية، الأسخياء مثلك يرسلون هداياهم وإن من الآخرة.
تلك المذكرات التي حدثتني عنها، سوف تكون هديتك لنا، لجميع عشاق الجمال. أستاذ أنسي فيروز قالت لك وداعًا يوم رحلت. أنا أقول لك شكرًا، ونحن بانتظار هديتك التي ستكون الأجمل على الأرجح.