شعراء وقصائد

أسعد السبعلي قمح أسمر لأيام الجوع
إعداد: د.هيام كيروز

بين إطلالة الصباح وحلول المغيب يُرسي أسعد السبعلي مساحة تزخر بتلاوين القرية، حياة تنسج جداول جمال وبساطة، تحملها رفة جانح وتنهدات منجيرة وضربة معول ورائحة خبز وصعتر. نقرأ له أو نسمع شعره في غناء وديع الصافي وآخرين، فينبت الحنين في بيادر العمر قمحًا أسمر نخبئه لأيام الجوع...
الشاعر يتقلّد وسام المعارف من وزير التربية في مبنى اليونيسكو

 

بطاقة
أسعد فرح: صار اسمه أسعد السبعلي على يد رشيد بك نخله.
تلقى دروسه مدة أربع سنوات في مدرسة تحت السنديانة.
أنشأ مجلة «السبعلي» الزجلية سنة 1938.
من مؤسسي «جمعية الزجل اللبناني» و«عصبة الشعر اللبناني».
قدّم مع عبد الجليل وهبي وأسعد سابا، برنامجًا مع «شعراء الشعب» في تلفزيون لبنان سنة 1961.
قدّم مع «عصبة الشعر اللبناني» برنامج «حكاية الشعب» من الإذاعة اللبنانية.

 

دواوينه
«حكايات»، «عطور من لبنان»، «هادا لبنان»، «سلوا»، «دمعة السبعلي»، «منجيرة الراعي»، «نقلة كنار»، «حنّه»، «ديوان الأسعدين» (مع أسعد سابا)، وعدد من دواوين الزجل.
أُدرج اسمه في موسوعة المعارف الفرنسية (أنسكلوبيديا)، وفي الموسوعتين البريطانية والأرمنية.
ترجم شعره إلى عدة لغات، وبخاصة رائعته «الدير المهجور».

 

حفيف الهمس
عندما اندفع أسعد السبعلي إلى كتابة الشعر وهو في السادسة عشرة من العمر، لم يكن يحافظ على الإيقاع الثابت والقوافي المرصوصة لتتلاءم مع مفهوم القصيدة، بل كان يدوّن حفيف الهمس الداخلي، وما تمليه المشاعر بالصياغة العفوية والنبرات المميزة، بحرفة قبض على مفاتيحها بفاعلية، صقلها نزوع فطري إلى الغنائية، بتعابير لا تنوء بأثقال القصائد المتداولة، وبخيال يطلق الضيعة وأحوالها بصور مباشرة تخلو من الإيحائية.
كانت بذوره جديدة حينها، وكان قد اطلع على مجمل التجارب الشعرية كشاهد، من دون أن يتأثر بالكبار من حوله، لكنّه لفت نظر الكبار إليه: شحرور الوادي في سبعل، رشيد نخله في بيروت وميخائيل نعيمه في الشخروب.
وبدأت بينهم صداقة طويلة امتدت لتشمل كثيرًا من شعراء الزجل والفصحى على السواء، أمثال إيليا أبو ماضي، سعيد عقل، أسعد سابا، إميل مبارك، طانيوس الحملاوي وغيرهم.

 

السنديانة والجميزة
السبعلي المتجذّر في التراب الجبلي تلميذ مدرسة تحت السنديانة، نزل من قرميد سبعل إلى غرفة في الجميزة، فجلست الضيعة كلّها في هذه الغرفة، وصارت الجميزة ملتقى الشعراء: الياس الحلبي، أحمد الصافي النجفي، أمين نخله وطانيوس شاهين. وبين قامات الجميّز الباسقة وسنديانة «سبعل»، نصب السبعلي «مرجوحة» مريحة للشعراء الشباب.
أنشأ مجلة شعر عنوانها «السبعلي»، وعمل مستشارًا في «عصبة الشعر اللبناني»، وربطته علاقة صداقة برئيسها أسعد سابا.
الضيعة مدى حلم السبعلي، جسد خياله، المساحة التي تخضّب قصص أهلها، وروايات لياليهم. روزنامة وقائعها تشكّل اللحمة المعنوية لقصائده، وتثبّت هويته السبعلية.
نحن أمام لوحات تستوعب اليوميات، تسردها من غير رموز أو ثوريات، وتتأطر فيها الوجوه والأحداث بوتيرة توثيقية إذ إنّ الأشخاص يكتسبون حركة، والأحداث ديناميكية.
ندى الفجر، روائح القصعين والزعتر، العرزال، حبّات الزيتون الضاحكات، القندول، عناقيد الكروم الفضّية، خيام النواطير، شواقيف العمّارين، طنين النحل، غلال البيادر... كلها صور تندرج ببساطة آسرة في قصائده:
شمّ عطر الورد قلبــي وقـــــــال    يـا خــــجلة المنتـــــــور والــــوزّال
عطرين لا ألطـــف ولا أحلـــــــى    منديل إمي وريحــــة الأطفــــال

يا ريتني شي سنبلـــي خضــــــرا     والبيــدر الجوعـــــان يعرفنـــــــي
وبس إلبس بدلتـــي الصفـــــــرا    ع بيدرو الحـــصّاد.. يقطفنــــي

السبعلي المقيم في بيروت يعرف يوميات السنديانة التي تنتظره قرب البيت، فيكتب عن البطم، عن الفلّ ويوم تفتّحه، عن غياب الشمس على تلال ضيعته، وعن نجوم ليلها.
ذاب في الضيعة وذابت به لدرجة الحلولية:
غابت الشمس وبردت النسمات       ولبست قميص الليل ضيعتنا
وحطّ الفلك ع جبالنـــا شــالات       وباتو الطيــــــور بسنــديانتنــــــــا
واندرز خــــدّ الســــما شامـــــــات       بيض متــــل زرار فلّتنـــــــــــــــــــا

 

لبنة بُنيت عليها عمارات
بنصوصه الشعرية النابعة من الطبيعة وجمالاتها، وتلك المرتبطة بمناسبات الضيعة، صاغ السبعلي لغة شعرية أرست لبنة جمالية، بنى عليها شعراء المحكية عماراتهم.
قصائده ذات الألحان القائمة بذاتها، أطلقت غنائية خصبة. في هذا السياق، اتحدت الصورة التراثية والمعنى والنغم والإيقاع في أغنية نهضت بها المهرجانات الفولكلورية اللبنانية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ونهضت بها الأغنية الشعبية اللبنانية في أصوات كثيرين نذكر منهم صباح، أوديت كعدو، نجاح سلام، بالإضافة إلى وديع الصافي ونصري شمس الدين، اللذين انسكب في صوتهما صفاء النبع، ومتانة الجبل وبساطة الروح.
بحلفــك يا طير بالفرقـــــــــــــــــه            بالسندياني بغيمة الزرقـــــــــــــــا
بالبطــم بالسلسال بالزيتــــــون          تمرق على عرزالها مرقـــــــــــــــه
(غناء نصري شمس الدين).
طلّ الصباح وتكتك العصفـــور      سهرنــــــا وطوّلنـــــا بنومتنــــــــــا
شوفي الشفق فرّق علينا النور      والشمس منشورة ع خيمتنــــا
والكون غاشي والفلك مسحور      من سقسقة ميّات نبعتــــنــــــا
(غناء وديع الصافي)

 

عوالم جمالية
هذان نموذجان من شعر تتراكم فيه الصور الرؤيوية، لتقلب العالم المادي إلى عوالم جمالية، تفرز حركتها نسغًا معنويًا بجمع القصيدة في لوحة أحادية، متماسكة، متلاحمة.
كتب أسعد السبعلي أنواع الشعر كلها كالقصيد، والميجانا، الموليا، والشروقي وأبو الزلف والعتابا والمعنّى وغيرها. وهو إذ يمد اليد إلى ينبوع شعره، تمشي الضيعة كلّها إليه، بطراوة وديانها وعبق أثلامها، بأجواق العصافير، بمواسم أفراحها والغلال. سهرات الشتاء حول الموقد، الحكايات التي تروى على التنور، وفي الحقول وورش العمار، مناسباتها الحزينة والسعيدة، مشاكل سليمان، ومشاكل نعيم ابن سوسان، وصيبة العين، والبوسطجي الذي تنتظره الأمهات على عتبات البيوت، محاور تتواتر في سياق طوافه في أحوال ناس الضيعة، نقلها إلى المهاجرين، يحثهم على العودة. رائحة خبز التنور وصلت إلى كل مكان، ورائحة الصعتر جابت الأجواء والبحار في رباعيات ديوان «بو جميل». حتى قيل: كل مكتوب فيه رائحة السبعلي يردّ مهاجرًا إلى الضيعة.
يا مهاجــــــرين رجعــــو           غالي الوطن غالـــــي
لبنان صوتو سمعــــو          صوت العتب عالــي
على أثر صدور ديوان «بو جميل»، قامت جريدة «أبو الهول» البرازيلية، بطباعة الديوان وترويجه، وتوزيعه بين اللبنانيين المقيمين في البرازيل، متوّجة مقدمته بعبارة «إنّ عملًا كهذا يحق أن يكتب بماء الذهب»، وتناقلته صحف كثيرة من بينها «مرقد العنزة».

 

قنديل وشمعتان
في المناخ السبعلي يصبح الشعر قناة وصول إلى ما وراء الحياة، وتتحوّل حنّه «قنديل البيت اللي انطفا» إلى ذخيرة في ديوان يحمل اسمها، تحرسها شمعتان تذوبان تحت ثقل اللوعة وتكرجان دموعًا. إلهامه الشعري يعانق الحزن في بوحٍ يضفي على الرثاء حسّ التمزّق:
كيف بدّي إضحــــــك وغنّــــــــي       والدار عتّم بعد ســــتّ الــــــــــدار
كانت النور، وكانــــت الجنّـــــــي       وضحكة البيت وبركة الختيـــــــار


قرن كامل...
رحل السبعلي (كما لقّبه الشاعر رشيد نخله) سنة ۱٩٩٩، تاركًا خلفه قرنًا كاملًا بدأ بمجاعة الخبز (سنة ۱٩۱٤)، ومرّ بالحروب وباكتساح التكنولوجيا مدن العالم وقراه وصولًا إلى سبعل، حيث بقي حتى أيامه الأخيرة غير مصدّق أنّ الضيعة تتأهب للرحيل.
انبدلت الضيعا ما عدنا نعرفــــا         البيت العتيق انهدّ وسراجو انطفا
والسّكَملا راح موسم عزّهــــــــا          وهبّط التنـــــــور والصاج اختفــــــا
قال منصور الرحباني يومًا «حين تطول الفترة التي لا يكتب فيها السبعلي..لا تخافوا على النبع فإنه يرتاح».
السنديانة السبعلية طوى الحياة في تربة جذوره، فيما يرتاح اسمه بجانب الشعراء والأدباء الخالدين في موسوعة أنسكلوبيديا للمعارف الفرنسية التي استعانت به للتعريف بالشعر اللبناني.