نافذة

أسماؤُكُم في حِبالِنا الصّوتيّة
إعداد: بقلم: روني ألفا

نرسمكم قدّيسين. مِن دون معجزات. من دون دعوى تطويب. من دون ذخائر ومن دون مزارات. ذخائرُكم مضرّجةٌ بالدموع ومخيّطةٌ بدبابيس الشهادة. تكفي لتلبسَ الجنَّةُ كنزةً سماوية. كم جميلٌ أن تُنجِبَ الأمهاتُ قدّيسين. تُعانقونهُنَّ بقُبلٍ مِن الشَّوق. بعطرٍ من تراب لبنان.
سيكون علينا نحن الأحياءُ أن نمشي على أرضٍ تعبقُ من بخّورِكم وترشحُ عشقًا حتى الشهادة. تَضوعونَ كالبَرَكَة وتَنتشرِون كَالبَراعِم في آذار. كلُّ بقعةٍ من لبنان فيها مزارٌ لكم. أسماؤكم في حِبالِنا الصوتيّة. ما زلتم بيننا ولأمدٍ بعيد. تشعّون مثل نيازِكَ ناريّةٍ في العتمةِ الحالكة. لياليكُم أقمارٌ فضيّةٌ تسدّدُ خُطانا الصعبة في وطنٍ صَعبِ المراس وشفافٍ كماسَةٍ نادرة.
دمُكم أغلى من النفط. من كلِّ احتياطات الذهب في مصارف العالم. مخزونٌ استراتيجيٌّ للبنان ورجاؤنا في قيام الدولة. دولةُ الدولة. نحبُّكم على رؤوس الأشهاد. جيش لبنان. يا له من مرقّط. فيه كلُّ قوة الحب وكلُّ شرف الحرب. موتُكم يا شرفاء بلادي جبينٌ للوطن. لم أعرف وطنًا من دون جبين.. من دونِكم أنتم.
تزورنا أضرحتُكم في أيامِنا الرتيبة. تعينُنا في حياتنا الصعبة. لستُم نعيًّا. لستم ذكرى أربعين ولا خبر وفاةٍ في جريدة. جنائزكم أعراسٌ وأضرحتُكم ولادةٌ كاملة. من حشرجاتِ لحظاتكم الأخيرة تستمدُّ أمهاتُكم كرامة. تسردُ حكاياتِ النوم للأحفادِ الصغار. أحذيتُكم العسكريّة مصمودةٌ قرب أسرَّتِكم. تُقَبَّلُ كلَّ صباح. تُستَفقَدُ قبل النوم. تَسقيها جداوِلُ الدّموع فتُزهِرُ في البيت. لم تكبروا في عيونِ الأمهات. بقيتم أطفالًا تمرِّرُ الأمهاتُ أصابعَهُنَّ في خصلاتِ شعرِكم وتفاصيلِ وجهِكم البهي. تُغنّي لكم قبل أن تناموا. بِكُم نحيا. أَعتقتمونا من الخوف والبرد والتشرد في عواصمِ العالم.
تصنعون حريَّتَنا كلَّ يوم. أنتم تِلالُ جبلِ الحريّة. بِجراحِكم ضمَّدتُم جراحَنا. بدمائِكم حقنتم دماءَنا. اقتحمتُم العتمة وعيونُكم شاخصة إلى النجوم. ثلاثيةُ التضحيةِ والشرفِ والوفاء نشيدٌ جديدٌ يُضاف إلى قصيدةِ رشيد نخلة ولحنِ وديع صبرا وكلِّ الأعلام التي لم تعرف تنكيسًا. شعب بِكامِلِه يتدثَّرُ بلِباسِكُم.
 شحذ الجلّادُ ِسكّينَه للذَبحِ الحَرام. كانت أجسادُكم أمضَى. غرزَ مسمارَه فالتوى المسمار. الدمُ أقوى من السكين. الحبُّ أقوى من الأحقاد. لا يرتوي الغولُ من الدماء. يشربُه ليغرقَ فيه.
يا أجملَ الشهداء. أبهى غفوةٍ غفوَتُكم. يحومُ ذبابُ الموت حول مأدبة الجثامين. يطوفُ وفي فمِه جوعُ المقابر. ما أن يؤمَّ طهارَتكم تتحولُ شفاهُكم الباردة إلى خليّةِ نحلٍ وأعيُنُكُم إلى حُفَرٍ مِن رَحيق. يتحوّلُ الذبابُ إلى جنيّاتٍ لطيفة. تغطُّ عليكم بأجنحةٍ مِن قُبَل وتنهلُ شمسًا وعسلًا. من رموشِكم تحوكُ مليون علمٍ ومليون بزة عسكرية.
بِعتُم للباري جماجِمَكُم، أرملاتِكم، أمهاتِكم، أطفالِكم ونحن نصلّي لَكم. مِن مسبَحةِ الإمام إلى مَسبحةِ الوَرديَّة. الكلُّ يسبِّح. لن نبيعَ دموعَ اليتامى، سنشتري بأثمانها وطنًا. لن نبيعَ عرقَ جباهكم، نفجّرها في الأنهار والسواقي. لَن نَبيعَ دَمَكُم، كلُّ جوريَّةٍ في كلِّ حَديقَة ستتلوّنُ بِه. مِن أصابعِكم نصنعُ طوقًا يزنّرُ خصر لبنان. كلماتُكم الأخيرة قبل أن تُسَلِّموا الروح سنضيفُها على دستورِنا. ستكونون الهلّلويا في كلِّ صلاةٍ والفاتِحَة في كل تضرّعٍ وكلِّ طَلبة. ستكون أرجُلُكم خطًّا مستَقيمًا ودَربًا نحو الأمان. أياديكُم أكفُّنا المشبوكةُ وقلوبُكم نبضُ الوطن الآتي.
إلهي إلهي لَما شَبقتَني! لَن تُترَكوا. لَن تُهجَروا. لن يطالَكم نسيانٌ أو يباسٌ أو كسادُ ذاكرة. فجرُكم أشرق على الفجور فأعماه. أراهم أمهاتِكم ينحَنِينَ أمام سمائكم الترابية. بِرُكَبٍ خاشعةٍ وكرامةٍ متراميةِ الأطراف. يرفعنَ أنظارَهنَّ إلى المطلَقِ الساكنِ فيكم. يا له من أبدٍ استحققتموه عن جدارة. تسكنون من الآن وصاعدًا في براويزَ لا تصدأ. على جدرانٍ تحكي بطولاتِكم مع كل انبلاجِ فجرٍ. مع كل هبوطِ مساء.