- En
- Fr
- عربي
نحن وأولادنا
ينقبض قلب الإنسان كلّما رأى طفلًا في الشارع لا تكسوه ملابس تَقيه برد الشتاء، أو يجوب الطرقات جائعًا متشردًا يبحث عن لقمة عيشٍ تملأ معدته الفارغة. ولكنّ المبكي أكثر، أن تكون أسرة الطفل، الواجب عليها حمايته هي التي تؤذيه وتجعله يعيش ما هو أسوأ من التشرّد، ويعاني ما هو أسوأ من الجوع. فما هي الأسباب التي تدفع البعض إلى تعنيف أطفالهم؟ وكيف يؤثر ذلك عليهم؟ وما هي السبُل القانونية والاجتماعية لمواجهة العنف المنزلي ضد الأطفال؟
«يُعتبر الحدث (الطفل) مهدَّدًا/ معرضًا للخطر: إذا وُجد في بيئة تعرّضه للاستغلال أو تهدّد صحته أو سلامته أو أخلاقه أو ظروف تربيته؛ إذا تعرّض لاعتداء جنسي أو عنف جسدي يتجاوز حدود ما يبيحه العرف من ضروب التأنيب غير المؤذي؛ إذا وُجد متسولًا أو متشردًا» بحسب نص القانون رقم 422 في مادته الخامسة والعشرين (حماية الأحداث المخالفين للقانون أو المعرضين للخطر). وكذلك، يمكن أن تكون الإساءة عبر إهانة الطفل أو توبيخه المفرط أو الاستخفاف به أو إهماله.
الحلقة الأضعف
يشهد لبنان ارتفاعًا في أعداد الأطفال الذين يتعرضون للعنف في أُسَرهم وفق ما يلاحظ المختصون. وإذ يؤكد هؤلاء أنّه لا يمكن تبرير العنف اللاواعي والوحشي ضدّ الأطفال، فإنّهم يلفتون إلى وجود أسباب مختلفة تدفع البعض إلى تعنيف أطفالهم، ومن أهم هذه الأسباب الأزمة الاقتصادية الراهنة. فالظروف الصعبة ألقت بثقلها على الأُسَر، وولّدت لدى البعض توترًا وضغوطًا نفسية تدفعهم إلى البحث عن «فشة خلق أو متنفَس»، بحسب الاختصاصي في علم النفس محمد ناصر الدين. وهو يضيف: «منذ بداية الأزمة الاقتصادية حتى اليوم، خسر عدد كبير من أرباب المنازل أعمالهم، وتراجعت مداخيل عدد آخر وفقدت أكثر من نصف قيمتها، ولهذا يكون بالنسبة إليه المنفس من خلال تعنيف أضعف حلقة حوله لإدراكه أنّه عاجزٌ عن محاسبته».
من الأسباب الأخرى الشائعة لتعنيف الأهل لأطفالهم، أن يكونوا هم في طفولتهم قد تعرّضوا لعنفٍ لفظي أو جسدي أو الاثنين معًا، ونشأوا في بيئة عدوانية نقلت إليهم ثقافة العنف من دون أن يَعوا ذلك. هذا ما تؤكّده المساعدة الاجتماعية ريان من جمعية أهلية تعنى بمساعدة الأطفال الذين يتعرّضون للعنف. وهي تضيف أنّ المعنّف في هذه الحالات يشعر أنّه بحاجة إلى العدوانية كسلاحٍ فاعل في وجه ما يواجهه من مشكلات وهموم، وقد يبالغ في ردة فعله في معظم الحالات.
وفي هذا السياق، يشير ناصر الدين إلى أنّ انخفاض مستوى الوعي في شأن التعامل مع الطفل يُعدّ من الأسباب الأساسية المؤدية إلى ممارسة العنف، إذ لا يكون الشخص المسيء للطفل مدركًا لمدى خطورة هذه الإساءة وتداعياتها على الطفل ونفسيته، فيعتبر أنّه «يربّيه» بهذه الطريقة. ويضيف: «يعاني المعنِّف أحيانًا ضعفًا في مهارات التواصل اللاعنفي مع الطفل، ما يدفعه إلى اعتماد الضرب والتعنيف».
آثار مدمِّرة
عادةً ما يكون لكل عملٍ وجهان، أحدهما إيجابي والآخر سلبي. ولكن في موضوع العنف الأسري على الأطفال فإنّ الآثار سلبية محض، لا بل هي مدمِّرة خصوصًا لنفسية الضحية وصحته الجسدية. وتؤكّد المساعِدة الاجتماعية أنّ أخطر نتيجة للعنف هي أن يتبنّى الطفل المعنّف السلوك نفسه فيصبح بدوره عدوانيًا تجاه محيطه، ويعتمد العنف لحلّ مشكلاته.
من جهته يرى ناصر الدين في هذا السياق أنّ الآثار النفسية على الطفل تختلف بحسب ظروفه وبحسب مدى قسوة العنف الذي تعرّض له ونوعه، وهذه الآثار تكون نفسية وجسدية. فقد يصبح من يتعرّض للعنف أحيانًا ضعيف المهارات الاجتماعية والعاطفية، وغالبًا ما ينخفض تقديره لذاته وثقته بنفسه، فضلًا عن تراجعه في دراسته أو هروبه إلى الآفات الخطيرة (مثل المخدرات أو الكحول وغيرها).
أما على المستوى الجسدي، فإنّ تعريض الحدث للضرب المفرط بواسطة اليد أو أدوات حادّة، أو التعنيف من خلال حرمانه من حاجات أساسية له (المأكل والملبس والمشرب) كعقاب أو احتجازه في أماكن رطبة ومظلمة، يؤدي إلى جروحات خطيرة أو كسور في العظام ومشاكل في الرئتَين والأعضاء الأخرى. وعلى المدى البعيد، تزداد نسبة الأمراض الداخلية لدى الطفل خصوصًا في حال التعرّض للكدمات المتكررة والنزيف الداخلي.
يجب ردع المعنِّفين
ما هي السُبل المتاحة اجتماعيًا وقانونيًا لردع المعنّفين؟ يخاف المحيطون بالحدث المعنَّف أحيانًا من أن يؤدي تدخّلهم لمحاولة منع الاعتداء بالضرب إلى «صب الزيت على النار» وتأجيج المشكلة، إذ يمكن أن يتمادى البالغ في التعنيف والإيذاء بدافع «الانتقام» من تدخّل آخرين في ما يعتبره «شؤونه الخاصة»، وهكذا يستمر الطفل الضحية في دوامة العنف.
تؤكّد ريان أنّ القوانين تحمي الحدث، وعندما تتبلغ الجمعيات الأهلية أنّ طفلًا يتعرض للأذى، تتدخل وتتخذ الإجراءات اللازمة لتتأكّد من أنّه بات في استقلالٍ تام عن المعنِّف وأصبح بأمان. فلبنان وقّع اتفاقيات تُعنى بحقوق الطفل وحمايته ومن بينها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقية حقوق الطفل، بالإضافة إلى افتتاح مكاتب على أراضيه لـ«منظمة الأمم المتّحدة للطفولة» UNICEF التي تهتم بشؤون الأطفال وتلبية الإحتياجات الأساسية لهم، وتتأكّد من حصولهم على حقوقهم.
لكنّ المشكلة هي في أنّ شريك المعنِّف يخاف أحيانًا من اتّخاذ إجراءات قانونية ضدّه، فمثلًا حين يكون المعنّف هو الأب، قد تواجه الأم انتقادات من محيطها أو عائلتها تمنعها من هجر زوجها وإبعاد أطفالها عنه لأنّها لا تتلقى أي دعم معنوي منهم. وإذا كانت لا تملك مدخولًا ماديًا، يصبح إبعاد الحدث عن العنف أصعب بسبب عدم قدرتها على تأمين حاجاته إذا افترقت عن زوجها. والأمر أيضًا نفسه بالنسبة إلى الزوج في حالات معيّنة. ولذلك، تصبح الحاجة ملحّة لتدعيم الشريك غير المعنّف ليتمكّن من حماية الحدث/الضحية، الأمر الذي تسعى إليه اليوم بعض الجمعيات التي تهتم بالشريك ماديًا من خلال إيجاد عمل له، ومعنويًا من خلال إحاطته وتوعيته بأنّ الاستمرار في الزواج من شريك عنيف يؤذي الأطفال أكثر من الانفصال عنه.
ومن الجدير بالذكر، أنه لا بد من توعية الأهل الذين يعتقدون أنّ الضرب هو «تربية» لأولادهم وليس أذًى، إذ يجب تنبيههم إلى خطورة ما يمارسونه من عنف على أطفالهم ومتابعتهم عن كثب لمساعدتهم متى دعت الحاجة لذلك. فالفارق كبير بين قصاص يعود بالفائدة على الطفل ويوجهه وبين تعنيفه.
الرعاية النفسية والصحية
«أول ما يجب القيام به عند مساعدة الطفل المتعرّض للإساءة والعنف هو توقيف هذه الإساءة أولًا»، هذه ضرورة ملحّة وفق ما يؤكّد الاختصاصي في علم النفس محمد ناصر الدين، فالعلاج النفسي يصبح فاعلًا أكثر بعد إبعاد الطفل عن كل متسبّب للعنف أو الأذى. وبالإضافة إلى الدعم النفسي، يجب تشجيع الطفل على متابعة روتينه في الحياة عندما يصبح جاهزًا لذلك، من خلال ممارسته أنشطة يحبها مثل النزهات في الطبيعة أو على الشاطئ، الرسم، التلوين، الغناء، والرياضة... فهذه الممارسات تخفّف القلق والتوتر لديه. وبالطبع يجب تقديم الرعاية الصحية للطفل للوقاية مما قد تسببه له الكدمات من أضرار على المديَين القريب والبعيد.
ومن الضروري أيضًا أن يتم وضع عدد من الخطوط الساخنة يستطيع الأطفال الوصول إليها بسهولة وأمان للتواصل مع من يمكنه مساعدتهم. يمكن أيضًا أن يصل لهذه الخطوط من خلال وسائط آمنة أيضًا لا تعرّضه إلى مزيد من التعنيف، وهكذا لا يستطيع المعتدي «الانتقام» من الضحية والإساءة إليه أكثر.
إنّ آثار العنف الذي يتعرّض له الطفل قد تكون مدمرّة، في المقابل فإنّ للمبالغة في الحماية والدلال الزائد آثارها السلبية أيضًا على شخصيته. المهم أن نعرف كأهل كيف نوفّق بين ما تتطلبه التربية من توجيه وتقويم للسلوكيات الخاطئة، وبين توفير الحب والرعاية لفلذات أكبادنا، فهم أمانة الحياة لدينا، وأغلى ما لنا فيها.