مهمة خارج الحدود

أقوى من التعب والخطر

لم تتفاجأ حين رأته يهرع لارتداء بزته العسكرية وتجهيز حقيبته فور ورود اتصال من الفوج. بحدسها أدركت أنّه ذاهب للمشاركة في مهمة البحث والإنقاذ خلف الحدود. ذلك العسكري هو زوجها وهي تعرفه حق المعرفة، وتُدرك ألّا صعوبة تؤخره ولا خطر يثنيه عن تلبية نداء الواجب. المشهد نفسه تكرر في بيوت أخرى، فعسكريو فوج الهندسة هبّوا هبّة واحدة للمشاركة في المهمة الإنسانية النبيلة. كان المطلوب عددًا محددًا، لكن من تطوعوا للمشاركة كانوا الأكثرية الساحقة. إنّهم جنودنا الذين نعهدهم شجعانًا، أقوى من التعب والخطر، إنّهم رجال العطاء.

 

انطلقوا بحماسةٍ واندفاع يعكسان معنوياتهم العالية والتزامهم الثابت، وعادوا مرتاحي الضمير لما أنجزوه. انتصروا على هول المشاهد، فحسبهم أنّهم بذلوا جهودًا تتخطى الممكن بحثًا عن نبض بين الركام، عن بقايا حياة.

جهودهم كانت محل تقدير عالٍ من قائد الجيش العماد جوزاف عون الذي زار فوج الهندسة والتقى قائده وعناصر الفريقَين، هنأهم بالسلامة، أكد لهم مدى افتخاره وثقته بهم، معتبرًا أنّ مشاركتهم في هذه المهمة الإنسانية هي وسام على صدر الفوج والمؤسسة، فليس هناك ما هو أنبل من العطاء والتضحية في سبيل الآخرين، وهذا ما فعلوه بالأمس بعد انفجار مرفأ بيروت، وما فعلوه اليوم إثر الزلزال في تركيا وسوريا، وسيفعلونه كلما دعاهم الواجب. 

 

فعل الإرادة

متابعته الدقيقة للمهمة انعكست في حديثه إليهم منوهًا بكيفية تصرّفهم في هذا المبنى أو ذاك، وعلى تلك البوكلين، وسوى ذلك من تفاصيل... واصفًا مدى خطورة الوضع ومدى شجاعتهم في مواجهته غير عابئين بما قد يتعرضون له. 

العماد عون نوّه أيضًا بإصرار الفريقَين على إنجاز المهمة الإنسانية من دون أن يكونوا مزودين المعدات اللازمة، قارن بين ما يملكونه وما جُهزت به فرق أخرى، مؤكدًا أنّ فعل الإرادة هو الأهم، فالحروب تُخاض بالأسلحة إنما الرجال هم من يصنعون الانتصار...

ومرة جديدة عاد ليؤكد لهم عمق التقدير الذي يُكنه لهم مواطنوهم، ومدى الثقة التي تحوزها المؤسسة محليًا وخارجيًا، مستعرضًا عدة أمثلة في هذا السياق ومن بينها ما يتعلّق بالتبرعات التي تُقدّم لها وتؤدي دورًا أساسيًا في دعم صمودها. 

يغادر العماد عون فوج الهندسة، لكننا نعاين صدى اللقاء مشرقًا على وجوه العسكريين فيه. قبل أن نتحدث إليهم عن التجربة التي عاشوها وسط أهوال الزلزال والهزات الارتدادية ومشاهد الموت، نلتقي قائد الفوج العقيد روجيه خوري ليضعنا في صورة التحضيرات التي سبقت المهمة. يخبرنا أنّه تلقّى اتصالًا من قائد الجيش يقضي بتشكيل فريق للمساهمة في أعمال البحث والإنقاذ في تركيا وسوريا بعد حصول الزلزال، لكن الوقت الفاصل بين الاتصال وتشكيل الفريقَين لم يتجاوز الساعتَين. الجميع كانوا يرغبون في المشاركة في المهمة، والذين تم اختيارهم أصبحوا في جهوزية تامة خلال وقت قياسي. 

الفريق الذي توجّه إلى تركيا كان بإمرة الملازم أول إياد أبو فرج، وقوامه ٢٠ عنصرًا من بينهم ٥ عناصر قادرين على قيادة آليات هندسية، عنصر مسعف ميداني، عنصر للمشغل، عنصران للصيانة، والباقون من الذين شاركوا في عمليات الإنقاذ في انفجار مرفأ بيروت. 

وأشار إلى أنّه حصل تأخير في موعد إقلاع الطائرة الذي كان مقررًا في الساعة السادسة إلى الساعة الثامنة بسبب حصول هزة أخرى في تركيا. حطت الطائرة في أضنه وبسبب الدمار تطلب الوصول إلى منطقة البستان في كهرمان ١٣ ساعة، مع ذلك باشر الفريق عمله فور وصوله وسط ظروف من الصعب تحمّلها. 

أما الفريق الذي توجّه إلى سوريا فكان بإمرة الملازم أول محمود البستاني وضم ١٥ عسكريًا. كانت نقطة التجمع في فوج إطفاء بيروت حيث التقوا عناصر من الصليب الأحمر اللبناني والدفاع المدني وانطلقوا إلى منطقة جبلة السورية. 

في ما يتعلق بالمعدات التي جُهز بها الفريقان أوضح العقيد خوري أنّها تضمنت: أدوات طبية، مقصات للحديد، حبال، صاروخ قصل للباطون والحديد، مولد كهرباء، قفازات، شرائط كهربائية، عدة ميكانيك...وسوى ذلك من عتاد تتطلبه المهمة. 

 

من أين لهم هذا؟!

من أين لعسكريينا هذا الاندفاع الذي يأخذهم بكل حماسة إلى مهمة صعبة خارج الحدود وهم يعانون ما يعانونه؟ إنّها النخوة معقودة على المناقبية ومعززة بالحس الإنساني، إنّها ثمرة التنشئة العسكرية المرتكزة إلى المبادئ الأخلاقية والمشبعة بحب التضحية والتفاني في أداء الواجب. يخبرنا قائد الفوج أنّ بين العسكريين «من لم يكن في جيبه قرش واحد، مع ذلك كان في طليعة من أرادوا المشاركة، على أي حال القيادة لم تهمل هذا الأمر وخصصت للمشاركين مبلغًا من المال كي يتدبروا شؤونهم، كما أنّهم كانوا مزودين وجبات جاهزة». 

زادت هذه المهمة العسكريين المشاركين خبرة في عمليات البحث والإنقاذ، إضافة إلى ما اكتسبوه في عمليات الإغاثة خلال انفجار مرفأ بيروت، وهي قبل كل شيء مهمة إنسانية يُشرّفنا أن نشارك فيها وفق العقيد خوري. 

 

حكايات الأرض

يتحدث الملازم أول إياد أبو فرج عن مهمة فريقه في مرعش – بلدة البستان جنوبي تركيا مشيرًا إلى الساعات الطويلة التي أمضوها قبل الوصول إلى هناك، مؤكدًا أنّه لمس عند العسكريين اندفاعًا لافتًا واستعدادًا لبذل النفس من أجل هدف إنساني، وهذا ما تجلّى أولًا بالسرعة في الجهوزية وثانيًا في العمل على الأرض. 

وأضاف: كنا أول فريق أجنبي يصل إلى تركيا للقيام بعمليات البحث والإنقاذ، تمركزنا في مدرسة لم يصبها الكثير من الدمار وتُعد إلى حد ما آمنة. أبرز ما واجهنا من صعوبات كان عائق اللغة من جهة وصعوبة التنقل بسبب الدمار من جهة أخرى. 

أمضى الفريق يومًا ونصف من دون غذاء أو مياه للاستحمام أو أي وسائل لوجستية، وافترش العسكريون الأرض ليلًا بينما كانت درجة الحرارة ١٥ تحت الصفر، إلا أنّ ذلك كله لا يرد في حديث الملازم عن الصعوبات! فهذه الأخيرة بالنسبة إليه وإلى سائر العسكريين لا تحول من دون تنفيذ المهمة، لذلك كان تركيزه أولًا على صعوبة التنقل...

ننتقل إلى العناصر المشاركين، نتحدث إلى مجموعة منهم، العريف السيد علي الحسيني، العريف رمضان الحاج، والعريف أحمد مشيك، هم سائقو آليات هندسية. يتحدثون بنبرةٍ واحدة عن ساعات طويلة من العمل القاسي بحثًا عن أمل، عن حياة ينقذونها. المشاهد المهولة تمحو الإحساس بالتعب، تلغي أي حساب للخطر، لا يشعر المرء سوى بتلك الرغبة القوية لسماع صوت من تحت الأنقاض... يقولون. ويضيف آخرون: اضطررنا في معظم الأحيان إلى العمل يدويًا كي لا نعرّض حياة الذين هم تحت الأنقاض للخطر. 

 

حيث الأب تكون العائلة

ماذا عن الفريق الذي نفّذ المهمة في سوريا؟ يتحدث آمر المجموعة الملازم أول محمود البستاني بتأثرٍ بالغ: «كان بانتظارنا وفد من الجيش السوري أخذنا إلى مواقع الأضرار حيث قمنا باستطلاعٍ فوري. أول نقطة عملنا فيها كانت حي مسجد الرحمن، حيث قمنا بعملية بحث عن عائلتَين تتألف كل منهما من ٣ أشخاص. بعد ساعات طويلة وجدناهم متوفين، والوالد يحتضن ابنه، مشهد لا يمكن نسيانه. 

انتقلنا إلى حي الرميلة حيث بدأنا عملية إنقاذ في مبنى من ٦ طبقات، العمل استلزم الكثير من الدقة والصبر خصوصًا مع استعمال البوكلين الذي كان ضروريًا، وكم كانت فرحتنا كبيرة عندما تأكدنا أن هناك من هم على قيد الحياة. «نسينا المهمة، نسينا التعب كلو». وقال إنّ أكثر ما يشعرنا بالحزن هو أننا في كل مرة كنا نجد الأب يحتضن زوجته وأولاده، والأخ يحتضن أخته، في وضعية تُدمي القلب». 

 

جرس الواجب

«لم أكمل كلامي مع زوجتي حول رغبتي في الذهاب إلى سوريا للمساعدة في عمليات البحث والإنقاذ، حتى رنّ جرس الواجب: كان الملازم أول البستاني يأمرني بتهيئة عتادي للتوجه مع البعثة المشكّلة إلى سوريا»، كما يخبرنا المؤهل سامر الأسعد. ويضيف: «كنت على أتم الجهوزية، للقيام بهذا الواجب الإنساني بالدرجة الأولى». ويتابع، كان الوضع صعبًا بسبب الدمار والمشاهد المأسوية غير أنّ الفرح كان ينسينا كل شيء عندما ننقذ شخصًا. 

يُجمع معظم العسكريين على أنّ المشاهد الإنسانية التي 

 

المشاركون

فريق مهمة تركيا: الملازم أول إياد أبو فرج، المؤهل أول بيار داوود، المؤهل أول علاء إبراهيم، المؤهل ميشال نصر، المعاون أول حسن خليفة، المعاون أول رضوان إسماعيل، المعاون أول هيثم رضوان، المعاون حسين نسر، الرقيب أول علي ملحم، الرقيب أول حسين مشيك، الرقيب أول يامن دلال، الرقيب مازن طالب، الرقيب محمود النمير، الرقيب مصطفى الحلبي، العريف السيد علي الحسيني، العريف أحمد مشيك، العريف رمضان الحاج، العريف ياسر يونس، الجندي أحمد الحاج، والجندي أمير عبد الخالق. 

فريق مهمة سوريا: الملازم أول محمود البستاني، المؤهل سامر الأسعد، المعاون أول وائل جرجس، المعاون أول شادي العلي، المعاون أول محمد تلجة، المعاون أول محمد سعدا، الرقيب أول خليل السحمراني، الرقيب أول جعفر صالح، الرقيب أول عمار سرحان، الرقيب أول عزيز كيروز، العريف يوسف الراعي، الجندي خضر خضر، الجندي خالد مسرّة، الجندي حسن نزها، والجندي حسن يونس.

رأوها في سوريا تركت في داخلهم شعورًا بالتأثر الشديد والحزن لا سيما عندما كانوا ينتشلون أطفالًا متوفين، أو متوفين والأب يحضن أولاده محاولًا حمايتهم أو الأخت التي تمسك بيد أخيها، كل ذلك ترك فيهم وقعًا قويًا حيث انهالت دموعهم عند عودتهم إلى بيوتهم محتضنين أولادهم.

من جهته يؤكد المعاون أول وائل جرجس أنّه لم يتردد للحظةٍ في المشاركة بالمهمة، بينما يؤكد رفيقه المعاون أول محمد سعدا «لو انطلبت مية مرة، أكيد بروح»... 

هل تستمر الحياة على ما كانت عليه بعد معايشة أهوال الزلزال وإن بصفة منقذين وباحثين بين الأنقاض عن أمل بالحياة؟ إنّها تجربة مرة قد تغيّر الكثير في أولويات الإنسان...