معالم وآثار

أميرة المدن ما زالت تنقّب في ماضيها
إعداد: جان دارك أبي ياغي

أحيت جمعية تشجيع حماية المواقع الطبيعية والأبنية القديمة في لبنان (أبساد)، بالتعاون مع وزارة الثقافة، أيام التراث الوطني 2018، بجولات شملت مواقع تراثية وأثرية في البترون وصور والشوف.
شارك في هذه الجولات التي نفّذت خلال 3 أيام متتالية 300 شخص جاؤوا من مختلف المناطق اللبنانية، يجمعهم الحرص على هوية لبنان والحفاظ على إرث الأسلاف.
مجلة «الجيش» شاركت جمعية «أبساد» في إحياء أيام التراث الوطني، من خلال تحقيقات تنشر تباعًا، ونبدأ في هذا العدد من منطقة صور.

 

انطلقت الرحلة في تمام الساعة السادسة صباحًا من أمام قصر ليندا سرسق في الأشرفية، باتجاه منطقة صور.
بعد استراحة قصيرة في صيدا، كان استقبال لافت للوفد من قبل بلدية صور عند مدخل السوق القديم للمدينة.
هذه «المدينة التي حكماؤها هم بحّارتها، وفلاَّحوها ملاَّحوها، وشعراؤها مؤرِّخوها، ونساؤها أميرات الممالك المكتوبة في دفاتر الزمان»، ما زالت تحوي كنوزًا يجري العمل على اكتشافها.
بعد لمحة تاريخية قدّمها نائب رئيس البلدية عن صور التي تعتبر من أقدم المدن على ساحل البحر المتوسط، إلى كونها رمزًا من رموز العيش المشترك بنسيجها الاجتماعي من كل الأطياف، دُعي الجميع إلى الاستمتاع بالزيارة واكتشاف معالمها الجميلة فضلًا عن معاينة أشغال الترميم التي تشهدها أبنيتها التراثية.
 

الأسواق القديمة
بدأت الجولة في أسواق صور الحالية التي يعود تاريخ معظمها إلى القرن الثامن عشر، بينما يعود بعض مبانيها إلى القرن السادس عشر.
كانت الأسواق مصنّفة سابقًا بحسب المهن، سوق الصاغة وسوق التجّار وسوق الإسكافية وسوق الدباغة... معظمها حافظ على مبانيه كما كانت، ويمكن مشاهدة العناصر التقليدية للبناء فيها. بعض أجزاء هذه الأسواق كانت مسقوفة، مثل سوق الصاغة الذي ما زال قسم من سقفه قائمًا.
تتنوّع المحال التجارية الموجودة حاليًا في مدينة صور، وتتميّز بأسعارها التنافسية، وتشتهر مطاعمها بترويقة الفول والحمص التقليدية، إلى مطاعم السندويشات السريعة، والشاورما وغيرها... تجاور الأسواق الحارات السكنية القديمة الشمالية والجنوبية، وميناء الصيادين، مما جعلها مقصدًا مهمًا للسياحة.
يقود الطريق الملازم للرصيف إلى الحي المسيحي الذي ما زال محتفظًا بأزقته وأبنيته ذات النمط التقليدي. مشينا داخله سيرًا على الأقدام متوقّفين أمام أبرز بيوته التراثية الجميلة التي تروي حكايات الماضي.

 

حارات صور القديمة وأهم أبنيتها
تولّت مسؤولة الأنشطة في البلدية نسرين خضرا شرح برنامج الزيارة ومرافقتنا في الجولة. لكن قبل البدء، كان لا بدّ من تذوّق أطيب فول وحمص داخل حارات الأسواق القديمة. يرتفع داخل هذه الحارات خان من العهد العثماني، ومنزل قديم وجميل من العصر عينه تملكه إحدى أُسر صور العريقة من آل المملوك، بالإضافة إلى حُسينية الطائفة الشيعية بقبتيها ونمطها المعماري الرائع. على مقربة من الأسواق، مرفأ الصيد القديم الذي يضج بالحياة، وقد حلّ محل المرفأ الفينيقي الشمالي، الذي كان يعرف بالمرفأ الصيدوني بسبب موقعه.
بعد دمار صور في العام 1291 على يد السلطان أشرف خليل المملوكي، فقدت المدينة أهميتها وأصبحت قرية للصيادين الذين استقرّوا هناك. في أواخر القرن السادس عشر وعدت حكومة إيطاليا الأمير فخر الدين المعني بإعادة بناء مرفأ صور، وبنى عمه الأمير يونس المعني قصرًا هناك على أمل إعادة الحياة للمرفأ القديم، ولكن سقوط فخر الدين حال دون إكمال المشروع وإعادة الحياة للمدينة، وتحوّل قصر الأمير يونس المعني إلى خان يعرف حاليًا بخان عبده الأشقر.
عاد النسيان يغمر المدينة بعد سقوط فخر الدين، ودام ذلك حتى العام 1750 تقريبًا، حين أصبح الشيخ عباس محمد النصّار حاكمًا على صور، وأعاد إليها الحياة. فقد قام بتخطيطها وبنى السراي وسوقًا ومسجدًا وشجّع تاجر حرير ثري يدعى جرجس مشاقة على الاستقرار فيها كي يسهم في ازدهارها التجاري، وهذا ما حصل. يُعتبر الشيخ عباس من أهمّ البنّائين والشخصيات التي مرّت في تاريخ صور، توفي حوالى العام 1770، ودفن على رأس التل المعروف بتل النبي المعشوق، وقبره أحد أهم المعالم التي استهوت الرحّالة والمستشرقين.

 

مساجد المدينة القديمة
نتابع استكشاف معالم المدينة. ها نحن في بيت من بيوت الله، في المسجد الذي تمّ تأسيسه في العام 1928، برعاية مباركة من سماحة العلّامة الراحل السيد عبد الحسين شرف الدين (المجتهد والمفكّر والمؤلّف). يشكّل المسجد زاوية جمالية في فن النسيج المعماري الحضاري لمدينة صور، وقد استخدمت في بنائه عناصر معمارية تعود لفترات تاريخية سابقة مثل الأعمدة الغرانيتية التي تعود للفترة الرومانية، وتطلّب نقلها إلى موقع المسجد مجهود عشرات الرجال من المتطوّعين. يرتبط المسجد بذكرى الإمام موسى الصدر الذي كان إمامًا له، وفيه شكّل النواة الأولى لانطلاقته. إلاّ أنّ البناء فَقَدَ بعض عناصره المعمارية الأصلية نتيجة أعمال التوسّع، وذلك في العام 1982، وقد استعاد رونقه التاريخي مع بعض الترميم قبل إعادة افتتاحه في العام 2004.
انتقلنا إلى مسجد مجاور هو المسجد القديم الذي بناه حاكم صور الشيخ عباس المحمد النصّار حوالى العام 1750. يتميّز المسجد بواجهات جميلة مؤلّفة من عقود، استخدم في بنائه الحجر الرملي مثل سائر مباني صور القديمة، وقد جرى ترميمه حديثًا. وهو موثّق في معظم لوحات الرحّالة الذين زاروا صور.
 

مواقع صور الأثرية
كانت صور جزيرتين صغيرتين مقابل الشاطئ ضمّهما الملك حيرام في القرن العاشر قبل الميلاد فصارت جزيرة واحدة. وفي القرن الرابع ق.م، قام الإسكندر المقدوني ببناء معبر لقواته للوصول إلى الجزيرة فبدأت صور بالتحوّل لتصير شبه جزيرة. على الجزيرة كانت تقوم المدينة الفنيقية التي دمّرها اليونانيون قبل أن يبني السكّان مدينة جديدة فوقها.
يمكن حاليًا زيارة موقعين أثريين في صور:
 

• موقع آثار المدينة: قائم على الجزيرة القديمة ويضمّ بقايا كاتدرائية صور الصليبية التي استخدمت في عمارتها أعمدة من الغرانيت الأحمر وأحجار تمّ استخراجها في حينه من المنشآت الرومانية. تنتشر حول الكنيسة، وعلى مستويات أدنى منها، شبكة من الطرق والمساكن التي تعود إلى العصور الرومانية والبيزنطية.
 

• موقع آثار – البص: الجزء الشرقي من موقع البص هو مدينة أموات رومانية بيزنطية يشطرها الطريق الروماني البيزنطي الذي يوصل إلى المدينة، وملحق بها بعض المزارات الدينية. ويتكوّن الجزء الغربي بشكل رئيس من الميدان الرياضي والأندية الملحقة به بالإضافة إلى البوابة التذكارية: قوس النصر، وبعض المنشآت المهمّة.
هناك يمكن معاينة نواويس مزيّنة بنقوش تعود للميثولوجيا الإغريقية، من الإلياذة إلى الثيران والخراف والأكاليل التي كانت رموزًا للخصوبة والبركة. حفرت على معظم النواويس أسماء أصحابها ومهنهم وألقابهم، وقد أعيد استخدام هذه النواويس لاحقًا خلال الفترة البيزنطية. عثر في أثناء الحفريات في هذه المدافن على قوارير عطر زجاجية وعقود ومصنوعات ذهبية، وبعض قطع النقود البرونزية والفضية والذهبية... وقد نقل بعض النواويس المهمة إلى المتحف الوطني في بيروت.
هناك نوع من النواويس، ربما كان الأجمل، وهو النوع المحلي المنحوت من حجر ومغطّى بطبقة رسوم مختلفة الألوان. ولكن بسبب عوامل التعرّي فقدت هذه النواويس ألوانها ولم يعثر إلا على واحد منها بحالة جيدة. إلى الجهة الجنوبية من المدافن، يقوم مضمار سباق عربات الخيل الذي تمّ ترميم بعض أجزائه. يبلغ طول هذا الميدان 480 مترًا، وعرضه 120مترًا، ويمكن أن يتسع لـ 40.000 متفرج، ويعتبر ثاني أكبر ملعب من نوعه مسجل في العالم.

 

كنائس الطريق البيزنطي
توجد على الطريق البيزنطي كنيستان يعود تاريخهما تقريبًا إلى القرن الخامس ميلادي. تقع الأولى جنوب الطريق البيزنطي وتتميز بأرضيتها المزيّنة بأشكال هندسية من الرخام، وبنافورة مياه رخامية صغيرة.
أما الثانية فتقع قرب قوس النصر، أرضيتها مزخرفة بالرخام، وكذلك مدخلها المزيّن بتصاميم على شكل الشمس وشعاعها، وقد كانت جدرانها مغطاة بفسيفساء زجاجية.

 

البوابة التذكارية: قوس النصر
نصل في ختام الجولة إلى قوس النصر الذي يعود بناؤه إلى القرن الثاني الميلادي، وقد يكون بناه سكّان المدينة على شرف الإمبراطور هدريان الذي زار الشرق خلال القرن الثاني ميلادي، وكانت المدينة على علاقة جيدة معه وهو الذي جعلها عاصمة اتحادية لولاية الشرق.
قوس النصر مبني من الحجر الرملي الذي كان مغطّى بطبقة من الجص الأبيض ويحمل ألوانًا مختلفة، ويمكن مشاهدة طبقة صغيرة من الألوان على القاعدة الجنوبية في الجزء السفلي من القوس. وكان الشكل الخارجي للقوس يتغيّر وفق الذوق العام في المدينة، فيغطّى بالألوان أو الرخام، وخلال أربعة قرون، تغيّر شكله الخارجي عدة مرات.
على جانبي البوابة الرئيسة بابان أحدهما يؤدي إلى طريق للمشاة، ويمكن مشاهدة بقايا برجين قرب القوس: البرج الشمالي الذي كان مغطى بالموزاييك، والبرج الجنوبي الذي كانت أرضه مرصوفة بالحجر. هنا التقطت صورة تذكارية لجميع المشاركين.

 

أجمل الكنائس
كاتدرائية القديس توما للروم الكاثوليك في صور، هي من أجمل كنائس الشرق كما كان يردد مدير عام الآثار في لبنان، الشيخ موريس شهاب. تمّ بناء هذه الكاتدرائية حوالى العام 1765، بمساعدة وهمّة التاجر الكبير جرجس مشاقة. تقوم الكاتدرائية فوق آثار ظاهرة لكنيسة صليبية، ومن المرجّح أنّ الكنيسة الصليبية هي أيضًا قائمة على آثار كنيسة بيزنطية.
أما في حرم كنيسة سيدة البحار للموارنة في صور فقد ظهرت معالم أثرية تعود إلى الفترة الرومانية. بدأت المديرية العامة للآثار أعمال تنقيب في الموقع، فتبيّن وجود أربع غرف تمتد أسفل المباني المجاورة لباحة الكنيسة، يبدو أنها مخازن...
على بعد أمتار من الحفريات تنتصب كنيسة سيدة البحار التي بنيت نهاية القرن الـتاسع عشر، مما يجعل الموقع ذا امتدادات أثرية تمتد على ألفي عام.
ختام النهار التراثي كان في ميناء الصيادين وجولة بحرية حول المدينة الساحرة.
قبل المغادرة، قدّمت مديرة مكتب «الأبساد» رولى حسّون باسم رئيسة الجمعية السيدة ريا الداعوق كتب شكر لكل مَنْ أسهم في إنجاح هذا اليوم، وكان وعد بجولات أخرى...