دراسات وأبحاث

أنابيب الغاز العابرة للقارات: شرايين الطاقة.. وقلب الصراع
إعداد: أحمد عَلَّو
عميد متقاعد

تزداد أنابيب الغاز العابرة للقارات، أو «شرايين الطاقة الجديدة» كما يسميها البعض طولًا يومًا بعد يوم. فهذه الأنابيب التي أصبحت بمنزلة «حبال السرة» للكثير من الدول وبخاصةٍ دول غرب أوروبا، وصلت إلى أميركا اللاتينية وبدأت بالانتشار شرقًا في هضاب آسيا الشمالية والوسطى وسهوبها. أصبح الغاز الطبيعي المُسال في السنوات الأخيرة أحد أهم مصادر الطاقة النظيفة المطلوبة في معظم أنحاء العالم، إذ يتضاعف الطلب العالمي على هذه المادة كل عشر سنوات تقريبًا.
وبينما تتصارع الدول المستهلكة على امتداد أوراسيا، للفوز بعقود شراء الغاز من الدول المنتجة، يبرز صراع آخر للتحكّم بهذه السلعة الاستراتيجية، من خلال التحكّم بالمسار الذي تسلكه للوصول إلى الأسواق عبر الأنابيب الضخمة.

 

أنابيب الغاز كخياراتٍ استراتيجية
منذ مطلع القرن الحالي، وُضع عدد من الخطط لتمديد أنابيب الغاز، فبوشر بتنفيذ بعضها وما زال بعضها الآخر قيد التخطيط. وقد قامت روسيا بتنفيذ بعض هذه الخطوط لتعزيز موقعها في سوق الطاقة الأوروبي على المدى البعيد، بينما دعم الأوروبيون والأميركيون خطوطًا أخرى للحدّ من هيمنة الروس على سوق الطاقة الأوروبي والعالمي.
كذلك، هناك مشاريع خطوط تبنّتها الصين والهند وباكستان في إطار مقاربات تمتزج حساباتها الاقتصادية باعتباراتها السياسية والاستراتيجية البعيدة المدى.

 

الأنابيب الروسية
باشرت روسيا بناء عدد من الخطوط لنقل الغاز إلى شمال أوروبا وجنوبها، كما إلى منطقة البلقان وتركيا. وأبرز هذه الخطوط «السيل الشمالي» و«السيل الجنوبي»، اللذان يتجهان إلى أوروبا عبر بحر البلطيق والبحر الأسود.
- السيل الشمالي(نورث ستريم):
يتجه عبر بحر البلطيق نحو ألمانيا مباشرة ويتوزع منها على دول شمال أوروبا. سيمكّن هذا الخط روسيا من نقل غازها إلى كلٍ من الدانمارك وهولندا وبلجيكا وبريطانيا وفرنسا وبولندا وتشيكيا.
- السيل الجنوبي (ساوث ستريم):
انطلقت مبادرة أنبوب «السيل الجنوبي» في العام 2007 كمشروعٍ مشترك بين شركتي «إيني» الإيطالية و«غازبروم» الروسية، لنقل الغاز الروسي إلى جنوب أوروبا ووسطها عبر البحر الأسود وبلغاريا, لكنّ روسيا أوقفت العمل به.

 

«نابوكو» والخطوط التركية
خط «نابوكو» هو مبادرة أوروبية مدعومة من الولايات المتحدة الأميركية تهدف إلى كسر الهيمنة الروسية على سوق الغاز في أوروبا. بدأت هذه المبادرة في العام 2002، من خلال مدّ أنبوب لنقل الغاز من منابعه في آسيا الوسطى والقوقاز باتجاه الأسواق الأوروبية، بعيدًا من الأراضي الروسية. فخلال أزمة الغاز التي نشبت بين روسيا وأوكرانيا في شتاء العام 2006، والتي أحدثت ضجة إعلامية وسياسية في أوروبا، شاع على نحوٍ واسع مصطلح الاستخدام السياسي للغاز، وأنّ روسيا لديها سلاح فعّال للضغط على الغرب، وبالتالي لا بد من تقليص الاعتماد الأوروبي على الوقود الأزرق الروسي. وهكذا قرّرت المفوضية الأوروبية تبنّي مشروع نقل الغاز من آسيا الوسطى والقوقاز إلى أوروبا عبر تركيا، من خلال خط أنابيب عُرف بخط «نابوكو».
يواجه بناء هذا الخط حتى الآن تعثّرًا سببه انقسامٌ أوروبي حيال روسيا.
وخط «نابوكو» هو أكبر خط من بين ثلاثة خطوط من المقرّر أن تصدّر الغاز الطبيعي من آسيا الوسطى والقوقاز، وربما الشرق الأوسط، إلى الأسواق الأوروبية عبر تركيا، وكان مقررًا أن تتدفق فيه أول شحنة غاز في العام 2017.

 

الخطوط الصينية والباكستانية

برز مشروع كبير لنقل الغاز من تركمنستان إلى أفغانستان وباكستان والهند، عبر خط يُعرف بخط أنابيب تابي-TAPI. ويحظى هذا الخط بدعم الولايات المتحدة، باعتباره بديلًا عن مشروع مماثل كانت إيران تعتزم إقامته مع الدول الثلاث.
وفي إطار الخطوط الآسيوية أيضًا، افتُتح رسميًا، في كانون الأول 2009 خط أنابيب الغاز بين الصين وآسيا الوسطى. يبدأ هذا الخط عند الحدود بين تركمنستان وأوزبكستان، ويمر بالأراضي الأوزبكية والكازاخية، قبل أن يصل إلى منطقة شينغ يانغ في شمال غربي الصين، ويتمدّد داخلها وصولًا إلى هونغ كونغ.
يرى البعض أنّ هذه الخطوة قد تُنهي احتكار روسيا في مجال نقل الغاز التركماني إلى الأسواق الخارجية، حتى من دون تحقّق الحلم الأوروبي ببناء خط عبر بحر قزوين لرفد مشروع «نابوكو».

 

لماذا الصراع على الغاز؟
في كانون الأول 1997، وافقت الدول الصناعية الكبرى على اتفاقية «كيوتو» التي تقضي بخفض الانبعاث الكلي للغازات الدفيئة في الغلاف الجوي عند مستوى يحول دون إلحاق ضرر بالنظام المناخي العالمي. لكن، وفي حين اتجهت الدول الأوروبية إلى الاعتماد بقوة ٍعلى الطاقة المتولّدة من الغاز بدلًا من النفط، رفضت الولايات المتحدة الأميركية أن توقّع الاتفاقية، بل سعت لمنع أوروبا من تقييم وارداتها الغازية باليورو بدلًا من الدولار، حتى لا يتحوّل هذا الأخير إلى مجرد عملة عادية.
يرى البعض أنّ «الحرب المقدسة» من أجل الغاز بدأت منذ ذلك التاريخ، ومن أوجه هذه الحرب «الثورات الملونة» في بعض بلدان أوروبا، واجتياح روسيا لأبخازيا بهدف احتكار تصدير الغاز إلى أوروبا عبر خطوط أنابيب أوكرانيا وبيلاروسيا.
وفي الجانب الآخر سعت الولايات المتحدة إلى جلب الغاز من تركمنستان وآسيا الوسطى إلى أوروبا عبر مشروع خط أنابيب «نابوكو».
في العام 2009، وقّعت شركة «غاز بروم» الروسية اتفاقًا لبناء مصافي غاز وأنابيب نقل ومحطات توليد طاقة مع الدولة النيجيرية صاحبة تاسع أكبر احتياطي من الغاز في العالم، وذلك بهدف تصدير الغاز نحو أوروبا عبر خط أنابيب يمر من ليبيا وصولًا إلى أوروبا عبر إيطاليا. وقد وافق رئيس وزرائها آنذاك سيلفيو برلسكوني على بيع 50 في المئة من شركة «إيني» البترولية الإيطالية لروسيا، ومن المفارقات أنّه عُزل من منصبه بعد ذلك.
ويرى بعض المحللين أنّه لم يكن من قبيل الصدف أن تبدأ جماعة «بوكو حرام» الإسلامية المتطرفة أولى عملياتها الإرهابية في نيجيريا في السنة ذاتها التي وقّعت فيها «غازبروم» عقدها مع الحكومة النيجيرية، وهو ما جعل أمر إنشاء خط الأنابيب هذا مستحيلًا.
كذلك، يرى البعض أنّ أحداث تونس وإسقاط النظام الليبي وعزل برلسكوني في إيطاليا، أغلقت خط «أفريكان ستريم» على روسيا، التي ردت بإغلاق جورجيا في وجه الأميركيين، وهؤلاء بدورهم أغلقوا نيجيريا في وجه الروس. فالولايات المتحدة تعزف «مقطوعة نابوكو»، هذا المشروع الطموح الذي يروم استخراج الغاز من تركمنستان، وتصديره مباشرة نحو أوروبا عبر حوض بحر قزوين من دون المرور بروسيا، وهي استراتيجية حيوية لحلف شمال الأطلسي الذي يريد تحرير الجمهوريات السوفياتية السابقة وأوروبا من النفوذ الروسي.
حاولت روسيا منع تنفيذ مشروع «نابوكو» باستراتيجيةٍ ذات مسارات متعددة، فتبنّت اتفاقية العام 2018 بين الدول المشاطئة لبحر قزوين، واتجهت إلى احتكار عقود شراء الغاز وبيعه في آسيا الوسطى، وتحديدًا مع الدول التي ستمدّ خط «نابوكو» بالغاز. وهكذا انسحبت هذه الدول من تموين الخط بسبب عدم القدرة على الإيفاء بالتزاماتها. وبات السؤال: ما هو الهدف من «نابوكو»، ما الجدوى من إنشاء خط أنابيب لنقل غاز جفّفت روسيا مصادره، ولا تتوافر له حتى الجغرافيا ليمر فيها؟ مع ذلك تمّ توقيع «اتفاقية نابوكو».
يرى بعض المحلّلين أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها اعتمدوا استراتيجية هجومية للردّ على عرقلة مشروع «نابوكو»، ومضوا قدمًا في مشروع بناء خط أنابيب الغاز أولًا، ثم البحث عن الغاز ثانيًا، وذلك عملًا بالقول الأميركي المأثور: «لقد اتخذتُ قراري، فلا تشوّش علي بالحقائق والوقائع». وفي الواقع، فإنّ انتهاج هذه الاستراتيجية كان الهدف منه «استقطاب أكبر عدد من الدول وجلب اهتمامها لهذا المشروع» كما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في حفل توقيع هذه الاتفاقية.
كما أنّ الإصرار على المشروع يشكل ضغطًا استراتيجيًا دائمًا على روسيا، وهذا يعني دفعها إلى التعامل مع الإمدادات الغازية نحو أوروبا بشكلٍ يلبّي حاجات هذه القارة، وعدم استخدامها للضغط السياسي.
كذلك، برزت مطامح تركيا التي ستستفيد من تحولها إلى عقدة خط أنابيب الغاز، فضلًا عن أنّ «نابوكو» سيعود عليها بعائدٍ سنوي يبلغ 630 مليون دولار، وسيساعدها أيضًا في المفاوضات الجارية مع أوروبا بهدف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ومن هنا يمكن فهم ماهية الموقف التركي من الأحداث الجارية في المنطقة، من تونس إلى ليبيا ومصر ثم سوريا، وبخاصةٍ إذا علمنا أنّ «نابوكو» عبارة عن اتحاد بين شركات ألمانية ونمساوية وبلغارية وتركية ورومانية بدعمٍ أميركي.

 

نابوكو والشرق الأوسط
يعتقد بعض الاستراتيجيين ومراكز الدراسات، أنّ عدم توافر الغاز الآسيوي لخط «نابوكو» سيتمّ تعويضه بالغاز الموجود في كردستان العراق، أو في شرقي المتوسط الذي تدل المعلومات حتى الآن بأنّه الأغنى في العالم بالغاز وهذا ما أكده معهد واشنطن للدراسات. ولذلك، اندلعت الصراعات في الشرق الأوسط وسوريا، فمن المفترض أن يعتمد «نابوكو» على الغاز الموجود في سواحل لبنان وسوريا وفلسطين وقبرص واليونان ومصر، وكذلك على خط الأنابيب الإيراني أو القطري أو كليهما، عبر العراق وسوريا فلبنان أو تركيا. وهذا يعني أنّ الصراع الدائر في المنطقة سببه الرئيس رفض بعض دول الإقليم وبخاصةٍ سوريا وإيران الانصياع لإرادة بعض الدول العربية والأوروبية والولايات المتحدة وتركيا في إنجاز هذا الملف.

 

الاقتصاد... والهيمنة
لقد بات واضحًا أنّ الإمساك بزمام موارد الغاز الطبيعي وأنابيبه وممراته، أضحى جزءًا أصيلًا من معايير القوة الجيوسياسية في عالم اليوم. ويُعدّ الطلب على هذا الوقود الأسرع نموًا بين أصناف الطاقة المختلفة. وقد خرجت أسواقه من نطاقها الثنائي والإقليمي التقليدي، لتأخذ طابعًا دوليًا أكثر ارتباطًا بمعايير السوق العالمية.
وتكشف آليات الصراع الدولي الحالي أنّ النظام العالمي الجديد يتشكل وفق صيرورة تقوم على منظومات القوة الاقتصادية والهيمنة العسكرية التي ترتكز على حجر أساس هو الطاقة بشكلٍ عام، والغاز الطبيعي بشكلٍ خاص. ومن هنا يمكن فهم آليات التنافس والصراع بين المحورين الروسي والأميركي.

كذلك، تشير الوقائع التي تشهدها المنطقة، إلى أنّ هذا الإقليم سيكون لسنواتٍ قادمة مسرحًا للصراع والتجاذب الجيوسياسي العالمي، وبخاصةٍ الدول التي تحتوي إمكانات هائلة من الغاز. ومن هنا يمكن إدراك معنى التركيز الغربي على سوريا في هذه المرحلة، بموقعها الجيوستراتيجي المهم على البحر المتوسط وثرواتها الواعدة، فهي مفتاح آسيا من خلال الخط الذي يمتد من إيران عبر تركمنستان إلى الصين، والخط المقترح الذي قد يمتد من إيران عبر العراق وسوريا إلى البحر ولبنان (طريق الحرير الجديد). وربما يكمن هنا سبب الخلاف ومربط النزاع والتدخلات الدولية، والاشتباك الإقليمي من الخليج إلى تركيا، وحتى روسيا أيضًا التي تعتبر أنّ سوريا «بوابة موسكو»، ففَوق أرضها وفي بحرها وبيَدِ سلطتها هذا المفتاح. كذلك، بات واضحًا أنّ غاز شرقي المتوسط هو البديل الاستراتيجي الذي تستطيع الولايات المتحدة من خلاله التحكّم بأوروبا ومنع روسيا من تأدية هذا الدور.


المراجع: ‎

- en.wikipedia.org/wiki/Natural_gas‎
- www.eia.gov/naturalgas
- www.eia.doe.gov/kids/energyfacts/sources/non.../naturalgas.html‎
- https://www.cia.gov/library/publications/the-world.../2253rank.html