نحن وأولادنا

أنا أكره جسدي...
إعداد: باسكال معوض بو مارون

تراجعت علامات ماريا في المدرسة بشكلٍ ملحوظ، وباتت تفضل تمضية أوقات فراغها في غرفتها. لاحظت والدتها أنّ ابنتها تغيّرت منذ بلغت الرابعة عشرة وازداد وزنها عدة كيلوغرامات. الفتاة الجميلة، باتت ترى نفسها قبيحة بسبب زيادة وزنها. لا تعرف ماذا ترتدي كلما أرادت الخروج من المنزل، لا بل أنّها تتحاشى الخروج ما أمكنها ذلك. حتى المدرسة لم تعد بالنسبة لها مساحة للتفاعل مع الرفاق، فكثيرًا ما تتعرض للتنمّر من قبل بعضهم... وهذا ما يُلقي بها في دوامة من القلق لا تجد مهربًا منه سوى بالعزلة والتهام المزيد من الطعام!

المراهقة فترة دقيقة جدًا في حياة الإنسان، ومن الضروري أن تمر بأقل تداعيات ممكنة على المراهق. ولصورة الجسد عنده أهمية محورية في حياته، فهي تؤثر في ثقته بنفسه سلبًا أو إيجابًا، مع ما لذلك من انعكاسات على هويته الشخصية وسلوكه خلال فترة المراهقة وبعدها. 

ترى المعالجة النفسية فالنتينا إسطنبولي أنّ لزيادة الوزن المفرطة آثار سلبية جمّة على نفسية المراهقين، بالإضافة إلى آثارها على صحتهم. وتشير إلى أنّ مشكلة الإفراط في الطعام تكون في البداية طريقة سلبية للتكيّف، يلجأ إليها المراهق للتعامل مع توترات يومية نفسية أو عاطفية. فالإفراط في الأكل هو سلوك ناتج عن حالة نفسية تعبّر عن فراغ داخلي نتيجة اضطرابات الحياة، ما يدفع الشخص إلى محاولة ملء الفراغ الذي يشعر به بتناول كمياتٍ كبيرة من الطعام ليصل إلى مرحلة فقدان السيطرة على سلوكه الغذائي.

 

مخاطر الصورة النمطية

وتوضح إسطنبولي أنّ هذه الآثار السلبية تزداد حدة في ثقافتنا الاجتماعية الشرقية، وذلك بسبب تأثيرات الصورة النمطية للجسم المثالي في الأشخاص. وكثيرًا ما يقع المراهقون ضحية عوامل خارجية تشوّه صورة أجسامهم، خصوصًا بسبب مقارنتها مع الصورة النمطية السائدة التي تركّز عادة على الرشاقة والنحافة. وعندما تبدأ المقارنة مع الغير وفق هذه الصفات، تتضاءل ثقة المراهق بنفسه وبمظهره الخارجي، ويشعر أنهّ لا يستحق الاهتمام.

يعاني المراهق أكثر من غيره الآثار النفسية الناتجة عن السمنة، فيشعر أنّه غير مرغوب به، ويصل إلى مرحلة من القلق وعدم الثقة بالنفس والخوف والخجل الاجتماعي. فالانتقاد الذي يتعرض له من الآخرين، يعرّضه للشعور بالعجز والإحراج من مواجهة الآخرين وبالخطر من المتنمرين عليه. وهو يرى أنّ الجسم المثالي لا يشبه جسمه، وهذا ما يخلق عنده حالة من الاكتئاب وعدم احترام الذات ومشاكل في التغذية واللجوء إلى التدخين والمكمّلات الغذائية أو حتى عمليات التجميل أو الحميات المتطرّفة، لأنّه لا يتحمّل رؤية جسمه الحقيقي ولا يتقبّله. 

 

الحلقة المغلقة

إصابة المراهق بالتوتّر النفسي، تؤدي بدورها إلى زيادة الوزن، إذ يلجأ عادة إلى التهام الطعام لتخفيف توتّره، وهكذا يدخل في حلقة مفرغة لا يستطيع الخروج منها بسهولة. فالسمنة تسبب الاكتئاب الذي بدوره يسبّب السمنة... 

وتوضح إسطنبولي أنّه في أحيان كثيرة يشعر المراهق البدين أنّه لا يستحق أن يكون بين الناس، لأنّه لا يحترم ذاته ولا صورته، التي هي برأيه دون المستوى؛ وتنتج هذه الفكرة عن المقارنة مع الآخرين عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي التي تضع معايير عالية للجمال، وتقيّم الإنسان بحسب شكله وجسمه المثالي. وهي تُحذر من هذا الفخ، إذ أنّه في اليوم الذي يفقد فيه المراهق حب الذات والصورة الإيجابية عن نفسه في ظل قلق اجتماعي، ينغلق ويتقوقع على ذاته ويرفض التعامل مع العالم الخارجي، فيعيش وحيدًا بمنأى عن الملاحظات والتعابير الجارحة التي تطال شكله. 

 

ما هو العلاج؟

يبدأ العلاج في خطوة أولى بمعرفة السبب النفسي للمشكلة. نطلب من المراهق تحديد الجسم الذي يطمح أن يملكه يومًا من الأيام؛ عندها يبدأ العقل والوعي بتقوية الإرادة، ونعمل على تقوية حب المراهق لذاته والثقة بالقدرات الموجودة لديه من خلال تمارين معينة أيضًا. 

من المهم أن يسجّل المراهق يومياته في الأكل ومدى الجوع الذي يشعر به والأفكار والمشاعر التي تراوده خلال تناول الطعام، ونمط العيش الذي يُشعره أحيانًا بالملل الذي يجرّ بدوره إلى الشعور بالجوع، كل هذا يضعه في مواجهة أفكاره وتصرفاته وأهوائه. وبذلك يتّخذ قرارات حاسمة بتغيير نوعية طعامه وكميته ونمط حياته. ونساعد المراهق الذي يستخدم الطعام ليتأقلم مع مشاعره، على اللجوء إلى طرق مفيدة كالتأمل والقراءة والاسترخاء. لكن في موازاة ذلك من الضروري أن يحتضنه أهله وأقاربه ويشجعونه ويؤمّنون له الدعم النفسي والعاطفي، ويحفّزونه على الاستمرار والمواظبة وعدم الاستسلام. 

 

الأم وسيط المصالحة مع صورة الجسد

تؤدي الأم دورًا أساسيًا في مصالحة أولادها مع أجسامهم، كما أنّها تستطيع جسديًا ونفسيًا أن تكون جزءًا من تحسين شكلهم الخارجي المؤثّر في شعورهم الداخلي. ويجب عليها أن تكون قدوة لأولادها من خلال تناول الطعام الصحي وممارسة الرياضة واتباع نظام حياة صحي بشكلٍ عام وليس عن طريق النظريات، فالأفعال تتحدث بصوتٍ أعلى من الكلمات، والأولاد عادة هم صورة عن أهلهم.

وعلى الأم أن تكون شخصًا منفتحًا لمناقشة أمور حياتها مع أبنائها، فتفتح بذلك الباب أمامهم لمناقشة أمور حياتهم، ومنها إحباطهم من زيادة الوزن. وهي تستطيع أن تقدّم المساعدة الإيجابية، وتكون متاحة للاستماع من دون تقديم اقتراحات غير مرغوب فيها، فالتواصل بين الأم وأولادها يمكن أن يحقق العجائب. 

أخيرًا، إنّ للصورة التي نكوّنها عن جسدنا دورًا محوريًا في حياتنا، فإما أن تكون إيجابية وتسهم في تعزيز ثقتنا بالنفس، أو سلبية تهدم هذه الثقة مع ما يترتب على ذلك من تداعيات. وبالتالي، من المهم جدًا أن نساعد أولادنا على تقبّل أجسادهم في موازاة العمل على معالجة المشكلة حين تكون موجودة، كما في حالة الوزن الزائد. ومن الضروري أن نعلمهم كيف يتقبلون الآخر أيضًا ويحترمونه سواء أكان قويًا أو ضعيفًا، نحيفًا أو سمينًا، جميلًا أو أقل جمالًا... ففي كل إنسان صفات جيدة يجب أن نكتشفها بعيدًا من مغريات الشكل.