بلى فلسفة

أنا... أهوى
إعداد: اسعد مخول
العقيد

كانت جارتي في الرّيف ­ وهو بعيد اليوم زماناً ومكاناً ­ تُبقي الطّعام فوق طاولتها على الدّوام. لم تكن تلك الطّاولة واضحة المعالم لفرط ما حملت من أشياء البيت, إلاّ أنّ أم جرجس كانت تجد عليها فسحة توزّع فيها الصّحون الملأى بالخير إستعداداً لاستقبال ضيف أو عابر.
لم تكن الجارة دائمة الإقامة في بيتها, فعظيم وقتها مكتوب للحقول. من هنا فإنّ غايتها من صحون الخير تلك لم تكن اصطياد جار لمساءلته عن الأوضاع العامّة في القرية والوطن... والدّنيا, أو استدراج جارة لاستئناف حديث عن شؤون الغير وأخباره الشخصيّة. لكنّها كانت توصي إبنها, الطّالب الناشئ, وقبل أن تغادر البيت, الى ضرورة عرض الطعام على كل قادم, سواء في أوقات الأكل المعروفة, صباحاً وظهراً ومساءً, كما يكتب على غلافات العقاقير, أو في أي وقت آخر. فقد يصيب الضيف جوع بعد سفر أو عمل... أو بعد رؤية “أكلات” أم جرجس الشهيّة الطيّبة. وفي المبدأ, عندها هي, أنّ الله لا يبارك المواسم والغلال إلاّ إذا كانت “السفرة ممدودة” بشكل دائم. وفي المبدأ أيضاً, أنه يجب أن نأكل حين يُعرض علينا الطعام, كائنة ما كانت المناسبة, فإنْ فعَلنا ذلك لدى صديق, فرح واغتبط, وإن فعلناه لدى خصم أو عذول... حنق واغتاظ.
لكنّ أم جرجس كانت تستغلّ فرصة وجودها في البـيت خلال حضـور الضّيف لتحمّـله, في جيـبه أو في داخـل كيـس صغير من القمـاش, أشيـاء من جـنى الأرض كي يتـنـاولها على هواه في طريق العودة, فقد يطول مشواره, وقـد يتـعب ويجـوع.
وفي عصرنا الحاضر, وهو عصر من طُردوا من ظلّ الشجر, وأُبعدوا عن صدى الأودية, وفُصلوا من مهبّ الرّيح ومرقد النسيم... عصر الرابضين أمام عروش المطاعم والمتاجر يبيعون الغذاء والماء... والهواء, كسبتُ وديعتين في أحد المصارف, إحداهما متواضعة محدودة ممكنة الحساب, والثانية صعبة التحديد قيمة وقدراً ورسوخاً في عالم الأرقام.
فالأولى ما هي إلا مبلغ من المال سلّمته للمصرف بموافقتي ورضاي, مستبدلاً إيّاه بورقة صغيرة قد لا تفيدني عند اللزوم في شيء, وقد لا تكون القرش الأبيض لليوم الأسود.
أما الثانية فهي سيّدة “مصرفية” إكتشفتها في المصرف, تحمل توقيعاً فاعلاً, وتمتّ إليّ بواحدة من صلات القربى, إذ أنها تنتمي الى الرّيف عينه الذي تنتمي إليه المرحومة أم جرجس... وأنا.
لم أصل إليها من الفراغ, فلقد سبقتني إليها مقدّمة من قِبل أحد الأصحاب, وهو زميل لها في “المصرفيّة”. رحّبت بي, وحدّثتني, موجِزة, عن أهلها وعن بيتها السّابق عند أحد مرتفعات القرية, كما حدّثتها أنا بدوري, بإيجازية أكبر, عن أهلي وعن بيتي, ثم عادت هي الى عملها, وخضعت أنا للصّمت بعد انقضاء إجازة الكلام عندي, وهي إجازة لا تتخطى اللحظات في مرّات كثيرة.
كان أمام طاولتها ضيف آخر جلس الى اليمين, أما أنا فجلست الى اليسار, والمكان معدّ لاثنين فقط, أما الثالث ­ إن حضر ­ فعليه الاستلقاء على الأرض, أو سحب واحد منّا بالكتفين الى الخارج.
لحظات... واقتربت من السيّدة “المصرفية” نادلةٌ قدّمت إليها فنجاناً من القهوة على طبق صغير, تسلّمتْه هي منها ووضعتْه أمامي, وعادت للإهتمام بأوراقها.
قلت لنفسي: يبدو أنّها في عجلة من أمرها, من هنا إسراعها في تقديم الضيافة, وهذا ما يفعله مضيفو البيوت حين يسرعون في تكريم ضيف يرغبون في أن تكون زيارته إليهم قصيرة, لكنّهم بالمقابل يؤخّرون ذلك بالنسبة لضيف يرغبون أن تطول إقامته حباً به, وشوقاً إليه.
رفعتُ يدي تحيّة للفنجان ولصاحبته, وقلت وقد حملت همّه: “أنا لا أشرب القهوة”. كان من الممكن أن أظنّ أنّه للضيف الآخر, لكنّه يبدو قريباً مني, مسافةً, أكثر منـه, إنّه لا شـك لي, خصوصاً وأنها زيـارتي الأولى للسيّـدة “المصرفـيّة”, ومن الواجـب أن تقدّم لي شيـئاً أشربه أو أمضغه.
لكنّ السيـّدة وضعـت حداً لهذا الهمّ, إذ أنها سحبـت الفنجان نحـو أوراقها بثقة وهدوء وعن سابـق تصـوّر, قائـلة: لا, لا, هـذا لـي أنـا... أعلنَتْ ذلك وقد بدا عليها الاطمئنان لأنني لم أطبق شفتيّ على ذاك الفخّار الأبيض الساخن, وبقي كل ما فيه على ما كان, و”لم يمسسه إنسان”.
تسلّمت بطاقة الحساب, ثم غادرت المكان من دون أن أنتبه الى قريبتي إن كانت قد باشرت باحتساء السائل الأسود أم لا. لقد شغلت نفسي بالورقة التي تحمل رقم ثروتي المنقولة... وهي منقولة لأنّ عقلي يجب أن ينتقل معها كلما خطت خطوة في سوق المال الكبير... وكنت أدندن من دون إنتباه, ومن دون إتقان:
 

آه يا من يقولّلي أهوى
أسقيه بإيدي قهوة
أنا... أهوى.