سياحة في الوطن

أنفه: فيها بنى معاوية قسماً من أسطوله وملاّحاتها من أيام الفينيقيين
إعداد: باسكال معوض

حكايات البحر والصخر والــزيت والزيتون

 

خندق شق جلاميد الرأس البحري, فربط أمواجاً تتلاطم ببعضها... قلعة فينيقية قاومت الدهر... حكايات نسجتها عطاءات البحر وامتداداته, فكان الملح وكانت السفن وقوارب الصيادين, وحكايات أخرى فيها الكثير من عبق التاريخ ورائحة الزيت والزيتون.
أنفه بلدة عريقة تحـاول إبقاء الجسور وطيدة بين ماضيهـا والحاضر, وفي جنباتها يتكشف للزائـر الكثـير من أقاصـيص الذاكرة الشعبية وأوجه الجمال.

 

أسماء عديدة لبلدة واحدة

تغوص جذور أنفه في غياهب التاريخ وتقدم لزائرها مفاجأة عند كل منعطف, ففي رسائل تل العمارنة الشهيرة التي تعود الى القرن الرابع عشر ق. م. كانت البلدة تدعى “أمبي” Am-bi)) ثم تحولّت الى “أمبا Ampa)) حين ذكرت في النقوش الأشورية في عهد الملك أسرحدون في الألف الأول قبل الميلاد.
وفي العهد اليوناني الروماني ذكرت باسم “ترياريس” (Trieres) أي السفينة ذات الصفوف الثلاثة من المجاذيف. وفي العهد البيزنطي ظلّت ترياريس مذكورة على نطاق واسع حيث أضحت مركز أسقفية, وشارك أسقفها في المجمع الخلقيدوني المسكوني الرابع المنعقد سنة 451 م. ونالت المنطقة نصيبها من الزلزال الكبير الذي ضرب الساحل في منتصف القرن السادس الميلادي (551 م).
أما في القرن السابع الميلادي فقد افتتحها العرب وعرفت في مصادرهم باسم أنفه, حيث ذكرت في حديث نبوي شريف كونها حصناً منيعاً في منطقة بحر الروم, وقد بنى أيضاً على أراضيها وفي بحرها قسم من أسطول معاوية الحربي.
احتلها الصليبيون مع بداية القرن الثاني عشر ودعوها “نفين” وكانت تقوم عليها آنذاك قلعة عظيمة يقال أنها كانت محصنة بتسعة أبراج عملاقة, وتعود الى العهد الفينيقي حين قطع اللسان الصخري الذي تتميز به أنفه, وفُصل عن البر من خلال شق أخدودين عظيمين وصل عمقهما الى مستوى البحر. أما الهدف من شقهما فعزل القلعة العظيمة الكائنة على الرأس. وكانت ترتفع في وسط الأخدود الأول مسلّة صخرية تستعمل كمرتكز للجسر المتحرك الذي يصل القلعة بالبر.
عنـدما وصـل المماليـك الى أنفه أجـلى سلطـانهم قلاوون الصليـبيين عنـها في عام 1289 م, وقام بتدمير القلعة البحرية ورمى قسماً من حجارتها الضخمة في البحر. وأصبحت أنفـه في العهد المملوكي مركزاً لولايـة شمـلـت الكـورة وقسـم من جـبه بشري. كذلـك, بقيـت البلـدة مركـزاً إداريـاً “لناحـية أنفـه” في العـهد العثماني, وكانـت تـضم 13 قرية و14 مزرعة. أما في نهايـة عـهد المتصرفيـة فقد أضحـت المركـز الشـتوي لقضـاء الكـورة حيـث بنـيـت فيهـا “السـراي”.
وفي عهـد الإنتداب, وأثنـاء الحرب العالمية الثانية كانت أنفه مركزاً عسكرياً هاماً حيـث أنشئ فيها مطار حربي في سهل السودات.

 

قلعة أنفه

استحوذ رأس أنفه الداخل في البحر بطول 400 م وعرض 100 م, إهتمام جميع الشعوب التي مرت في البلدة. هذا الإهتمام يتجلى من خلال الآثار العديدة فيها: أعمال الفينيقيين المحفورة في الرأس الصخري, ومعاصر الخمور القديمة التي اشتهرت أنفه بجودتها, عدا الأقنية والأدراج والآبار والمدافن المحفورة في الصخور, والقطع الفخارية من مختلف العصور, وقطع الفسيفساء الملونة...
بموجب قرار صادر عام 1973, اعتبرت قلعة أنفه ضمن الأبنية الأثرية, وهي تتميز بالخندق المحفور بكامله في الصخر والذي يبلغ طوله نحو خمسين متراً وعرضه عشرين متراً وارتفاعه عشرين متراً, ويشكل نوعاً من “ترعة” تصل المياه بالمياه من وسط الرأس الحجري, والجدير ذكره أن الخندق بكامله نقش بالمطرقة والإزميل. وقد تعود أسباب إنشاء هذا الخندق الى أمرين: أولهما جعل المكان صالحاً لبناء السفن, والثاني إحاطة المياه بشكل كامل بالقلعة ما يجعلها نوعاً من جزيرة بحرية لا يمكن الوصول إليها, إلا عبر جسر متحرك ما زالت قاعدته قائمة في وسط الخندق, وقد بوشر العمل آنذاك بخندقين آخرين كخطين إضافيين للقلعة إلا أن حفرهما لم يكتمل.
معالم حفر إرتكاز أساسات أسوار القلعة واضحة في الأرض حتى اليوم, وبعض من أبراجها الإثني عشر على طول الشاطئ مع بقايا من أكبر أسوارها ما زال منتصباً عند نهاية الرأس.
ويضم الشاطئ الشمالي للرأس خمسة منحدرات صخرية لإنزال السفن؛ وقد جرّ الأقدمون مياه نبع الغير الى القلعة عبر شبكة من القساطل الفخارية المميزة التي وجدت تمديداتها عند حفر أساسات الكثير من البيوت الحديثة.
تعرّضت القلعة بعد أن هدمها المماليك (1289) لكثير من التعديات عبر التاريخ, فقد استعملت كمصدر لحجارة البناء (خاصة بيوت ميناء طرابلس التي نقلت اليها بحراً) ولإنشاء الملاحات, كما عبث فيها الكثير من الباحثين عن الكنوز, الى إقامة الأبنية الحديثة والمشاريع التي طمست الكثير من المعالم الأثرية.

 

كنائس أثرية

في بلدة أنفه ثلاث كنائس تقوم بمحاذاة الشاطئ وتخبر بما كان للبلدة من أهمية, أولها كنيسة سيدة الريح الصغير والتي بنيت في العهد البيزنطي على الشاطئ الشمالي للبلدة عند بداية رأس القلعة. ويقال أن المؤرخ العربي شمس الدين الدمشقي عناها بقوله: “وبها (أنفه) بيت يزعمون أنه أول بيت وضع باسم مريم في الشام”. أي أنها أول كنيسة على اسم العذراء في بلاد الشام.
أصاب الكنيسة الكثير من الخراب, بيد أن داخلها يشكل تراثاً جليلاً لما تحويه من الرسوم أو الأيقونات الجدارية؛ وباستطاعة الباحث المدقق أن يلاحظ صورة تمثّل القديس جاورجيوس على حصانه, وجزءاً من أخرى كانت تمثل القديس ديمتريوس . وعند المدخل صورة عظيمة للسيد المسيح وصور بعض القديسين, وأخرى تمثّل العذراء وهي تقوم بتهدئة عاصفة هوجاء. وقد أدخلت الكنيسة ضمن لائحة الجرد العام للأبنية الأثرية بالقرار رقم 475 بتاريخ 21/10/1959.
وفي وسط البلدة كنيسة أخرى بناها الصليبيون على اسم القديسة كاترينا تعود الى القرن الثاني عشر الميلادي, وتشبه من الناحية المعمارية كنيسة السيدة في دير البلمند. وتحمل واجهة الكنيسة الغربية أكبر نافذة مستديرة بين الكنائس الصليبية المعاصرة لها. وقد أدخلت ضمن لائحة الجرد العام للأبنية الأثرية بالقرار رقم 505 بتاريخ 5/3/1937, وأجرت عليها مديرية الآثار ترميمات عدة.

 وتطل على الساحل الغربي في وسط الحارة القديمة كنيسة مار سمعان ومار ميخائيل التي تعود للعصر البيزنطي. وتتألف من هيكلين مزدوجين في بناء واحد, وفيها بقايا جداريات ( Peintures Murales) ويحتفل في ساحتها بعيد مار سمعان العمودي في الأول من أيلول من كل عام. ويمتاز سقف الكنيسة بأنه يحتوي على جرار كانت تستعمل في البناء قديماً, للتخفيف من وطأة الصدى. وقد خضعت الكنيسة لترميمات عدة بهمة مجلس رعية أنفه, وبإشراف المديرية العامة للأثار, حيث كانت قد أدخلت ضمن لائحة الجرد العام للأبنية الأثرية بالقرار رقم 475 بتاريخ 21/10/1959.

 

آثار أيضاً وأيضاً

الى ما تقدم, تضم أنفه الكثير من الآثار التي حدثنا عنها المهندس جورج ساسين ابن البلدة قائلاً:
تحتوي أنفه على مواقع أثرية كثيرة وقديمة ومنها دير مار يوحنا, ودير سيدة الناطور, وتلة مار جرجس ومار عبدا الغنية بالقبور المحفورة في الصخر من القرون المسيحية الأولى, ومزارات مار قزما ودميانوس, والأربعون شهيداً وموقع الشهداء, وتلة مار أنطونيوس وتلة نبع الغير بمغاورها المحفورة في الصخر, الى المغاور الطبيعية والأقبية والبيوت القديمة التي ينبغي المحافظة عليها.
يمثل الدير في أقسامه العديدة التي بنيت خلال العصور المختلفة, سجلاً تاريخياً هاماً, فهو يحتوي على مدافن نحتت في الصخر من فترات ما قبل الميلاد, وفيه غرف محفورة من العصر اليوناني ­ الروماني وآبار من الفترة الهلنستية, وأقبية ومعاصر من القرون الوسطى.دير سيدة الناطور يعود للقرن الحادي عشر أما أساساته فهي أقدم بكثير, ويحوي آثاراً وغرفاً محفورة في الصخر. وتتميز كنيسة الدير برسوم جدرانية جميلة من القرن الحادي عشر. وتوجد أمام الدير ناعورة رومانية قديمة لم يبق منها سوى ركيزة الدولاب المحفورة في الصخر.

 

تلال ومواقع

تعتـبر تلة مـار أنطونيـوس موقعـاً غنـياً بالآثار وتمـتاز بكونهـا موقـعاً طبيعياً جيداً من الناحية الجيومورفولوجية؛ وقد ثبـت أنها كانـت في العصور الجيـولوجية الماضـية شاطئـاً بحرياً حيـث وصـلت آثار مياه البحـر الى أسفل التـلة. وتزخـر التـلة بالمغـاور الطبيعية, والآثار الصوانية العائـدة للإنسان الأول, والمدافن المحفورة في الصخر من القرنين السابع والخامس قبل الميلاد. ويقع على التلة دير مار أنطونيوس الكبير الذي يضم آثار مدافن وفسيفساء من الفترة البيزنطية والقرن السابع.
أما على تلة الغير حيث يوجد نبع ماء, فتم الكشف عن قساطل ريّ تعود الى العهد الروماني كانت تجرّ المياه الى القلعة القديمة مروراً بالبلدة, كما تحوي التلة مدافن محفورة بالصخر تعود الى القرن السادس قبل الميلاد.
وفي البلدة أيضاً منزل قديم يعود الى القرن الثامن عشر بني في الفترة العثمانية, وكان مقصداً للرسميين والوجهاء الذين كانوا يقصدون البلدة, ويسمى اليوم منزل الخوري جرجس, وقد تعاقبت على المنزل أربعة أجيال من الكهنة, وما زال قائماً حتى اليوم.
السراي القديم أصبح اليوم مركزاً للبريد ومدرسة للبنات, بعد أن كان في زمن المتصرفية مركزاً شتوياً لقائمقام قضاء الكورة. أما مدرسة المساواة الوطنية فيعود بناؤها الى العام 1908 وهي على الطراز اللبناني القديم وقد كانت مدرسة خاصة إلا أن أصحابها قدموها للدولة في العام 1950, وهي تعرف باسم مدرسة جبران مكاري.

 

أنفه في مشاريع بلديتها

السيد وفاء نقولا نائب رئيس البلدية قال إن أنفه, تعتبر من أقدم بلدات البحر المتوسط وهي زاخرة بالآثار التي تحكي عن تاريخها العريق, وقد اشتهرت برأسها الداخل في البحر والذي يميزها منذ القدم ويجعل منها بلدة بحرية تتفاعل مع مياهها وتستفيد منها الى أقصى الحدود.
ففي البلدة ملاحات محفورة في الصخور منذ أيام الفينيقيين جددها الأهلون عبر العصور.
وأنفه هي أول بلدة انتجت الملح وما زالت تنتجه, علماً أنه من أفضل الأنواع الموجودة في السوق. أما ملاحاتها الكثيرة فتعطي الشاطئ منظراً غريباً ومميزاً, وإنتاجها ينقل الى معملين لتكرير الملح متواجدين في البلدة.

كذلك تستثمر أنفه الثروة السمكية الموجودة في بحرها, حيث يوجد على شاطئها مرفأ قديم خاص بالصيد, يؤمن من خلاله الصيادون كميات كبيرة من الأسماك الطازجة يومياً.

وتقوم على شاطئ البلدة منتجعات بحرية فخمة تعزز السياحة الصيفية في المنطقة؛ وفي المستقبل القريب سوف يتم تنفيذ مشروع ضخم حول دير سيدة الناطور يمتد على مساحة 450 متراً, ويستثمر البحر والشاطئ والآثار بما ينمي السياحة في البلدة.

وتتميز أنفه بإنتاج الزيت والزيتون من بساتينها الكثيرة, حيث يوجد فيها أربعة معاصر للزيتون تقدم أجود أنواع الزيت الشمالي. وصناعياً تنتج أنفه سفناً من مصنعها الخاص ببناء السفن والقوارب, وتحوي معملين لتصنيع الحجارة والرخام من الصخور.
ويتابع السيد نقولا حديثه عن أنفه اليوم فيقول: في العام 1998, بدأ المجلس البلدي بتزفيت طرقات البلدة وإنارتها وانشاء حديقتين, الى شق طرق زراعية وفتح معبر يصل البلدة بالأوتوستراد.
أما المشروع الأهم الذي أنجزناه, فهو ترميم سوق البلدة التراثي.
أما بالنسبة لمشاريعنا المستقبلية فنحن نسعى لمد البلدة بالكهرباء بواسطة كابلات تمتد تحت الأرض, ما يلغي وظيفة الأعمدة الكهربائية التي تشوه مظهر البلدة.

وأضاف قائلاً: قـرب منطـقة الكنـائس الأثريـة, تـتم دراسة مشـروع لإقامة مدرج روماني على الطريقة القديمـة, وهو مشـروع ضخم يكلف أموالاً طائلة, نعمل على تأمينها بأقرب وقت ممكن. كما أننا بصدد وضع دراسة بهدف رسم خرائط تنظم مسحاً للشوار ع والبيوت لتسميتها وترقيمها, بشكل يسهّل التجول داخل البلدة للسواح المحليين والأجانب. كما نعمل على مشروع هندسي لتنظيم جديد للمنطقة العليا للبلدة تلحظ شروطاً معينة للبناء فيها, ما يجعل من أنفه في المستقبل بلدة تتميز بطابع هندسي راق.
مع مشاريع ومخططات لمستقبل بلدة يحكي تاريخها عن عراقتها وحضارتها, نغادر أنفه البحرية الجميلة التي تركت في قلبنا أثراً عميقاً ومميزاً...

 

“ناطور الرحمة”

تقـول الحكايا القديمـة أن رجـلاً شريـراً عاش في تلك المنطقة, وفي أحد الأيام ظهرت له السيدة العذراء, فتـاب ونـدم على كل أفعاله, وللتكفـير عنها ربـط نفـسه بسلاسل حديدية في منزل قرب البحر, ثم رمى مفتاح السلاسل في البحر. وكان الناس يأتون إليه بدافع الشفقة فيطعمونه ويهتمون به. وبعد فترة من هذا العذاب يقال أن صياداً اصطاد سمكة ووجد في بطنها مفتاح السلاسل, فعلم الرجل أن هذه الرسالة من الله تعلمه أنه نال الغفران, وأن رحمة الله الكبيرة سامحته على أعماله الشريرة السابقة. وقد بني في مكان إقامة هذا الرجل دير سمي على اسمه كونه كان منتظراً لرحمة الله, دير سيدة “الناطور” كما يقال له بالعامية. وقد أصبحت هذه الحكاية من التراث الشعبي لبلدة أنفه.


أنفه بالأرقام     
على مساحة إجمالية تبلغ نحو خمسة ملايين متر مربع محاذية للبحر, يقيم نحو ستة آلاف مواطن لبناني من أنفه, وهم من العائلات التالية:
جريج, صليبا, دعبول, عيسى, نعمه, مكاري, الخوري, نقولا, عوده, عور, شخاشيري, سركيس, ساسين, عويجان, داغر, عسّاف, النمر, سابا, أنجول, السوري, الضيعة, دمعه, الأرمني, فوز, فارس, إبراهيم, نخوّل, موسى, عوض, المسيح, طرّاف, علاوة, عثمان.

 

 تصوير: المجند فادي الرز

المرجع:

كتيب أنفه التاريخ والتراث,
هيئة حماية البيئة والتراث الكورة وجوارها