قضايا إقيمية

أهداف الصهيونية على «طبق من داعش»
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

ليست مفارقة أن تجمع صور الإرهاب ووسائله وأهدافه بين العديد من التنظيمات والحركات على مرّ العصور، إنما المفارقة أن يتخذ بعض التنظيمات من الأديان السماوية، ذريعة لتنفيذ برامجه وغاياته، بأدوات وطرق لا علاقة لها بروح هذه الأديان لا من قريب ولا من بعيد. والمفارقة الأدهى أن يجتمع تنظيمان إرهابيان متوحشان كالصهيونية والداعشية في منطقة هي الأشد حساسية بين أصقاع الأرض، حيث مهبط الرسالات السماوية ومكان انطلاقها. وإذا كان التستر وراء الدين وسيلة يستعملها الطرفان لتبرير وجودهما واستمرارهما، فإنهما يجاهران بإقامة الدولة الدينية، بالإرهاب والعنف والتنكيل والترهيب في وجه كل من يتصدى لهما، ما يعيدنا إلى حملات التتار والمغول في القرون الوسطى.

أهداف الصهيونية على «طبق من داعش»
من البداية: خداع وتضليل ومصالح دول كبرى

لقد برزت ظاهرة ما سمي «المجاهدون العرب» أثناء التدخل السوفياتي العســكري في أفغانسـتــان في حــرب دامــت عـشــر سنــوات (1979-1989). وكان الهدف من تلك الحرب دعم الحكومة الأفغانية الصديقة للاتحاد السوفياتي، والتي كانت تعاني من  جراء هجمات الثوار المعارضين لها والمدعومين من مجموعة من الدول المناوئة للسوفيات في حينه.


شكّل المقاتلون، الذين سمّوا لاحقًا بـ«العرب الأفغان»، الجذر الأساسي للظاهرة الداعشية الحالية، بعد أن كانوا عبارة عن فائض بشري وخطر استراتيجي على أمن الدول الغربية لعقدين من الزمن. هذا الفائض تمّ تحويله إلى منطقة الشرق الأوسط بعد اتخاذ القرار الأميركي بالانسحاب من العراق (2011)، في عملية تشبه إلى حد بعيد عملية تحويل الفائض اليهودي إلى الشرق، حيث استخدمت الشعارات والأساطير الدينية، لتغطية الحسابات والأهداف الجيوسياسية.


في هذا الإطار من الخداع والتضليل تمت عملية الاستيطان الصهيونية التي هي في جوهرها تصدير لإحدى مشاكل أوروبا الاجتماعية (المسألة اليهودية) إلى الشرق، فيهود أوروبا، بحسب النظرة الغربية، شكلوا مجرد فائض بشري لا نفع منه داخل أوروبا، لكن يمكن توظيفه في فلسطين نقطة تقاطع المصالح الغربية المتناقضة.
في المقلب الآخر تبرز ظاهرة الداعشية حاليًا كظاهرة مركّبة ومعقّدة، وكتعبير عن حالة الفراغ الحضاري والسياسي الذي عاشته المنطقة العربية إثر سقوط المشاريع القومية والإسلامية الكبرى التي طرحت نفسها كبديل بعد اختفاء دولة الخلافة العثمانية وتقسيم المنطقة وفق معاهدات غربية (سايكس بيكو)، تلك المشاريع التي وعدت بالوحدة العربية وبإسقاط الحدود المصطنعة والتقسيمات الغربية من دون أن تنجح في تحقيق ذلك.


وفي هذا السياق عبّرت داعش بمظاهر همجيتها ووحشيتها عن سقوط العرب والمسلمين في فخ تقديس تراثهم الماضي المتنازع عليه، وعن إخفاقهم في الاستفادة من نقاط القوة الكامنة فيه، حتى أنّ مجرد إعلان الخلافة بشكل اعتباطي من قبلها أصبح لدى شرائح كبيرة من المسلمين التائهين اليائسين المستنفرين تعصبًا وعصبية، كافيًا لحلّ أو لطمس كل مشاكل المنطقة التي لا تعدّ ولا تحصى في المجالات التربوية والتعليمية والصحية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية والأمنية...


والواقع أن داعش لم تكن سوى إحدى نتائج حالة التخريب والتشويه التي لحقت بصورة الإسلام الأصيل القائم في الأساس على الغفران والتسامح والعدالة واحترام النفس البشرية. وفلسفة الحرب التي تعتمدها ليست مجرد عقيدة عسكرية, بل هي أيضًا عقيدة فكرية لها مرجعيتها الفقهية الخاصة التي تبرر لها كل هذا العنف الممنهج تجاه كل ما عداها، فهي تعتبر انّ كل ما هو خارج إطارها كفر أو ردة محضة أو فسق واضح أو ضلال وبدعة وأصحابها يستحقون القتل والإبادة.

 

التطابق الحادّ


على ضوء هذا المشهد يتأكد التطابق الحاد بين داعش والصهيونية لناحية دعوتهما إلى قتل كل من يعترض طريقهما واستخدامهما كل وسائل الترويع والتنكيل بحق المخالفين، من صلب وقطع رؤوس وتفجير واغتيال وبقر بطون الحوامل وتسميم المياه وحرق المحاصيل الزراعية وسرقة المواشي والتهجير وانتهاك الأعراض والحرمات... وصولًا إلى طرد السكان وتهجيرهم بشكل ممنهج. فما فعلته المنظمات الصهيونية في فلسطين تكرّره الآن داعش في حق المسيحيين والأكراد والأيزيديين والعلويين والشيعة وحتى السنة المخالفين لها. ولم يتوقف التشابه عند هذا الحد، فاذا تمت دراسة كيف استطاع الكيان الصهيوني بناء قوة عسكرية خاصة به، نجد أنه استفاد من خبرات الضباط اليهود الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى والثانية، وقام باستقدامهم، تمامًا كما فعلت داعش عندما استقدمت ضباطًا من القوقاز والشيشان بالإضافة إلى الاستعانة بضباط الجيش العراقي المنحل. وهذا التشابه يصل إلى ما اسمته داعش «الدولة الاسلامية» التي تقوم على اساس ديني مذهبي صرف من دون أدنى حد من قبول التعايش مع المكوّن الآخر في المنطقة، تمامًا كما يرى منظّرو الفكر الصهيوني الذين يدعون إلى «نقاء الدولة اليهودية» أي إقامة دولة يهودية خالصة لا عرب فيها. وفي هذا الإطار يقول الحاخام شلومو أفنير: «إن احتلال الأرض وإقامة المستوطنات أمر يفوق كل الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية، إنه يفوق الحقوق القومية لهؤلاء الكفّار الموجودين على أرضنا»، في حين اعتبر الحاخام يعقوب مدان أنّ حرب 1967 تشكل جزءًا من الأوامر الرّبانية لتطهير ما سمّاه «ميراث إبراهيم وإسحاق ويعقوب من سيطرة قوى الشر التي استولت على هذه الأرض». وقد حرصت المرجعيات الدينية اليهودية على تعبئة الجمهور الإسرائيلي ضد أي حزب يوافق على المشاركة في حكومة تتبنى التسوية مع العرب كخيار لحل الصراع، وبالتالي فإن أي مراقب يستطيع أن يلحظ أن ظروف نشأة الكيان الصهيوني تشبه تمامًا ظروف نشأة ما يسمى بداعش، وكلاهما يسعى إلى عدم الاستقرار وفرض قوانينه القهرية في المناطق التي يكون موجودًا فيها، من دون أي مراعاة للقوانين الدولية أو الإنسانية. وبمتابعة الأخبار القادمة من قلب الكيان الإسرائيلي، نندهش من شدة التطابق بين أفكار المتطرفين اليهود الحريديم المتعصبين، مع أفكار داعش، بدءًا من نبذ الآخرين وأفكارهم وما يسمّونه «الاغيار» ووصولًا إلى فتاوى الحاخامات اليهود بقتل وإزالة كل معارض تطاله أيديهم من بشر أو حجر. وما يقوم به المستوطنون المتطرّفون اليوم من امتثال لفتاوى حاخاماتهم من هدم بيوت الفلسطينيين وتهجيرهم وقتلهم، لا يبتعد كثيرًا عن فتاوى مشايخ داعش من قتل من أسموهم «الكفار» الشبيه بمصطلح «الأغيار» لدى اليهود. والملفت أنه منذ ظهور داعش وحتى الآن، لم تعلن الدوائر الإسرائيلية عن تخوّفها من هذه الجماعات المسلّحة ولم تقل أنها تهدد وجود الكيان الصهيوني، بل إنّ التقارير الإسرائيلية في هذا الخصوص أشارت إلى أن وجود هذه الجماعات بحد ذاته يخدم مصالح إسرائيل ويعزز علاقاتها مع دول المنطقة، ويؤدي إلى تفتيت الدول العربية وإضعاف جيوشها، وهذا من أبرز الأهداف التي سعت الدوائر العسكرية في تل أبيب لتحقيقه منذ سنـوات طــوال وقد اتاهــا مجانًــا على «طبــق من داعش».