دراسات وأبحاث

أوكرانيا أرض «الكباش» بين روسيا والغرب
إعداد: د. أحمد علو
عميد متقاعد

 

هل وصلت اللعبة إلى مرحلة «كش ملك»؟

يبدو أن التدخل الغربي في أوكرانيا والذي أدى إلى استيلاء المعارضة المدعومة من الغرب على السلطة في كييف، قد وصل إلى مرحلة «كش ملك» في لعبة الشطرنج الكبرى بين الولايات المتحدة والإتحاد الاوروبي من جهة، وروسيا وحلفائها من جهة أخرى.

 

معابر وثروات
تأتي هذه اللعبة في سياق الصراع على النفوذ، والسيطرة على موارد الطاقة في العالم، وعلى اسعارها وطرق امدادها إلى أوروبا والغرب. وهذه الطرق ترسم وفق الآتي: من الخليج عبر مضيق هرمز وقناة السويس، ومن روسيا عبر أوكرانيا، ومن بحر قزوين عبر جورجيا والبحر الأسود، ومن تركيا عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، وصولاً إلى البحر المتوسط. هذا البحر الواعد هو الآخر في حوضه الشرقي باحتياط يرجح البعض أنه أكبر من احتياط دول الخليج، وأرخص لسهولة استخراجه ونقله.
ترى روسيا أن أوكرانيا هي حجر الأساس في بناء مجالها الحيوي المباشر وفضائها الجيوستراتيجي الأوروبي، وهي الأهم ضمن ثلاث دول استقلت عن الإتحاد السوفياتي السابق: بيلاروسيا وأوكرانيا وكازاخستان. وهذه الدول تشكل الفضاء الضروري لأمن روسيا واقتصادها، وغياب أوكرانيا عن هذا الطوق الذي بنته روسيا، سيشكل فجوة كبرى في جدار الأمن الستراتيجي الروسي - الأوراسي وفي تأثيره على العالم، فإذا فقدت روسيا أحد مكونات هذا العقد خسرت إمكان استعادة دورها كقوة عظمى...
ويرى بعض المحللين أن أوكرانيا اليوم هي «ارض الكباش» بين مصالح روسيا ومصالح الغرب إلى جانب معركة سوريا المستمرة، وهم يرون أن الصراع الدائر في هاتين الدولتين لا يمكن فصله، وهو يشكل حربًا بالواسطة (Proxy battleground) بين هذين المحورين مع تصاعد المواجهة الحادة بين روسيا من جهة والولايات المتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي من جهة أخرى. هذه الحرب تندرج في إطار السعي إلى بناء عالم متعدد الأقطاب بدلاً من عالم القطب الواحد، والذي ترنَّح يوم تم اسقاط الصاروخين «المجهولي الهوية» فوق البحر المتوسط حين هددت الولايات المتحدة بضرب سوريا صيف العام 2013.

 

الموقع والمساحة
تمتاز أوكرانيا بموقعها الاستراتيجي المهم على تقاطع الطرق ما بين أوروبا وآسيا. فهي تشكل البوابة الشرقية للقارة الأوروبية باتجاه القارة الآسيوية عبر روسيا الآسيوية.
وتبعد كييف عاصمة أوكرانيا نحو 757 كلم عن موسكو عاصمة روسيا، في حين لاتبعد موسكو عن أقرب نقطة في الحدود الأوكرانية، أكثر من 480 كلم.
تبلغ مساحة أوكرانيا نحو 603.550 كلم2، منها 24.220 كلم2 من المسطحات المائية. وتعتبر أوكرانيا ثاني أكبر دول أوروبا مساحة بعد القسم الأوروبي من روسيا، وقبل فرنسا القارية.
تتميز الأراضي الأوكرانية بكثرة مسطحاتها السهلية وبالهضاب الصالحة للزراعة، وتجري فيها انهار كثيرة. أما الجبال الوحيدة فيها فتقع إلى الغرب وهي جبال الكرابات التي يبلغ ارتفاع أعلى قممها نحو 2061 مترًا، وجبال شبه جزيرة القرم من الجهة الجنوبية المشاطئة للبحر الأسود.

 

الحدود
يبلغ طول الحدود الأوكرانية نحو 4566 كلم، موزعة كما يأتي: بيلاروسيا 891 كلم، هنغاريا 103 كلم، مولدوفا 940 كلم، بولندا 428 كلم، رومانيا 538 كلم، سلوفاكيا 90 كلم، روسيا 1576 كلم. أما حدودها البحرية فتبلغ 2782 كلم على البحر الأسود وبحر آزوف الذي يعتبره البعض امتدادًا للبحر الأسود أو جزءًا منه.

 

الديموغرافيا واللغة والديانات
قدّر عدد سكان أوكرانيا وفق «كتاب حقائق العالم» الذي تعدّه وكالة المخابرات المركزية الأميركية، بنحو 44 مليونًا و573 الفًا و205 أنفس (تقديرات تموز 2013)، يتوزعون كما يأتي: 77.8% من الأوكرانيين معظمهم في غرب البلاد، و17.3% من الروس يقطنون الأقسام الشرقية والجنوبية من أوكرانيا، أما الباقي فمن اتنيات مختلفة (تقديرات العام 2001).
تتحدر اللغة الأوكرانية اللغة الرسمية في البلاد من اللغة السلافية القديمة، وهي تتشابه مع اللغة الروسية إلى حد كبير، علمًا أن الروسية كانت اللغة الرسمية الأولى خلال فترة الاتحاد السوفياتي، وما زال معظم الشعب الأوكراني يتكلّمها حتى اليوم.
أما في ما خص الديانات فاستنادًا إلى تقديرات العام 2006، تعتبر المسيحية الأرثوذكسية الشرقية الأوكرانية هي الديانة الأكثر انتشارًا بين سكان البلاد، حيث ثمة 50.4% يتبعون بطريركية كييف، بينما يتبع 26.1% بطريركية موسكو الأرثوذكسية.

 

أوكرانيا في القرون الوسطى
سكنت القبائل السلافية أوكرانيا الحالية، منذ القرن التاسع الميلادي وأسست ما يعرف بمملكة «روس كييف» (Kievan Rus) التي شملت الشطر الغربي من أوكرانيا الحالية، بيلاروسيا، وقسما كبيرا من أراضي روسيا الحالية. خلال القرنين العاشر والحادي عشر، أصبحت هذه المملكة الدولة الأكبر والأقوى في أوروبا.
في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، تسببت الغارات المستمرة من جانب القبائل التركية الرحل، بهجرة جماعية للسكان السلاف إلى مناطق أكثر أمناً في الغابات الكثيفة الشمالية. وفي القرن الثالث عشر اجتاح الغزو المغولي البلاد حيث دمرت كييف تمامًا العام 1240.
خلفت «روس كييف» على الأراضي الأوكرانية إمارتين اندمجتا معًا في مملكة غاليسيا فولينيا، هذه المملكة خضعت في منتصف القرن الرابع عشر لكاسيمير الثالث البولندي، بينما سقطت كييف بيد دوق من ليتوانيا الكبرى.

 

في العصور الحديثة
بعد تشكيل الكومونولث البولندي اللتواني العام 1569، انتقلت أجزاء كبيرة من الأراضي الأوكرانية من حكم ليتوانيا إلى الإدارة البولندية، ونقلت إلى التاج البولندي.
بعد معاهدة بيرياسلاف (1654) التي تلت الحرب الروسية - البولندية، ألحقت الضفة اليسرى من أوكرانيا بروسيا الموسكوفية، وبعد تقسيم بولندا خضعت غاليسيا الأوكرانية الغربية للنمسا، بينما تمّ ضم ما تبقى من أوكرانيا تدريجيا إلى الإمبراطورية الروسية.
على الرغم من الوعود بالاستقلال الذاتي التي قدمتها معاهدة بيرياسلاف للأوكرانيين، لم تحصل النخبة الأوكرانية أبدًا على الحريات والحكم الذاتي من الإمبراطورية الروسية، لكنهم وصلوا إلى أعلى المناصب في الدولة الروسية، وفي الكنيسة الروسية الأرثوذكسية. وقد لجأ النظام الروسي إلى سياسة «روسنة» الأرض الأوكرانية، حيث منع استخدام اللغة الأوكرانية في الحديث العام و الطباعة.

 

بعد الحرب العالمية الأولى
مع انهيار الإمبراطوريتين الروسية والنمسوية بعد الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية (1917)، برزت الحركة الوطنية الأوكرانية لتقرير المصير من جديد. وخلال الفترة الواقعة بين 1917-1920، برزت عدة دويلات أوكرانية منفصلة لفترة وجيزة: جمهورية أوكرانيا الشعبية، الهتمانات، وجمهورية أوكرانيا السوفييتية الاشتراكية المناصرة للبلاشفة (أو أوكرانيا السوفييتية) التي أنشئت تباعا على أراضي الإمبراطورية الروسية السابقة، بينما ظهرت كل من جمهورية غرب أوكرانيا الشعبية، وجمهورية هوتسول لفترة وجيزة في المناطق التي كانت تخضع سابقًا للنمسا وهنغاريا.

 

بعد الحرب العالمية الثانية
في أيلول 1939، تقاسمت القوات الألمانية والسوفياتية أراضي بولندا، وحارب الاوكرانيون الغربيون تحت لواء هتلر والاوكرانيون الشرقيون تحت لواء ستالين. ولكن بعد هزيمة هتلر واستيلاء الاتحاد السوفياتي على اوروبا الشرقية، تمَّ لمّ شمل الشعب الأوكراني وتحقق توحيد أوكرانيا للمرة الأولى في تاريخها، وكان ذلك حدثًا حاسمًا في تاريخ الأمة الأوكرانية.
لحقت أضرار بالغة بالجمهورية من جراء الحرب التي دمرت أكثر من 700 مدينة وبلدة و28000 قرية، وتدهورت الأوضاع بسبب المجاعة، ما اقتضى جهودًا كبيرة للتعافي.
كانت أوكرانيا العام 1945 أحد الأعضاء المؤسسين لمنظمة الأمم المتحدة، وفيها أنشئ أول كمبيوتر سوفياتي MESM في معهد كييف للتكنولوجيا الإلكترونية وبدأ العمل به العام1950.
بعد سقوط الإتحاد السوفياتي
في 16 تموز 1990، اعتمد البرلمان الجديد إعلان سيادة دولة أوكرانيا، وفي 24 آب 1991 اعتمد قانون الاستقلال والذي نص على أن أوكرانيا دولة ديمقراطية مستقلة.
جرى الاستفتاء والانتخابات الرئاسية الأولى يوم 1 كانون الأول 1991، وقد أيد أكثر من 90% من الشعب الأوكراني قانون الاستقلال، وانتخب رئيس البرلمان، ليونيد كرافتشوك ليكون أول رئيس للبلاد.
اعتبرت أوكرانيا بداية كجمهورية بظروف اقتصادية مواتية بالمقارنة مع مناطق أخرى من الاتحاد السوفياتي. ومع ذلك شهدت البلاد تباطؤًا اقتصاديًا أكثر عمقًا من بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة الأخرى. وخلال فترة الركود، خسرت أوكرانيا 60 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي (1991 – 1999)، وعانت معدلات تضخم كبيرة، ما أدى إلى حصول تظاهرات واضرابات.
استقر الاقتصاد الأوكراني قبل نهاية التسعينيات من القرن المنصرم (العام 1996)، ومنذ العام 2000، تمتعت البلاد بنمو اقتصادي حقيقي مطرد بلغ سبعة في المئة سنويًا كمعدل وسطي.

 

الدستور الجديد
اعتمد دستور جديد لأوكرانيا خلال حكم الرئيس الثاني ليونيد كوتشما (1996)، وقد حول هذا الدستور جمهورية أوكرانيا إلى نظام نصف رئاسي، وأنشأ نظامًا سياسيًا مستقرًا. تعرض كوتشما لانتقاد المعارضين بسبب الفساد وتزوير الانتخابات، وعدم تشجيع حرية التعبير وتركيز معظم السلطة في مكتبه، كما أنه نقل الممتلكات العامة مرارًا إلى أيدي القلة ذات النفوذ.
العام 2004، أعلن فيكتور يانكوفيتش، رئيس الوزراء آنذاك فائزًا في الانتخابات الرئاسية التي اعتبرتها المحكمة العليا في أوكرانيا مزورة إلى حد كبير. تسببت النتائج في موجة من الغضب العام دعمًا لمرشح المعارضة، فيكتور يــوشتشيــنـــكو، الذي طعن في نتائج الانتخابات، وقد أدى ذلك إلى اندلاع «الثورة البرتقالية» السلمية، والتي أوصلت يوشتشينكو ويوليا تيموشينكو إلى السلطة، في حين دفعت فيكتور يانوكوفيتش إلى المعارضة. عاد يانوكوفيتش إلى منصب في السلطة العام 2006، عندما أصبح رئيسا للوزراء في تحالف الوحدة الوطنية. لكن انتخابات مبكرة (أيلول 2007) أعادت تيموشينكو رئيسًا للوزراء مرة أخرى وانتخب يانوكوفيتش رئيسًا للدولة العام 2010.

 

النظام السياسي
أوكرانيا جمهورية ذات نظام مختلط نصف برلماني ونصف رئاسي مع فصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. تتألف السلطة التشريعية في أوكرانيا من برلمان يضم 450 مقعدًا، ويعتبر مسؤولاً في المقام الأول عن تشكيل السلطة التنفيذية ومجلس الوزراء، الذي يرأسه رئيس الوزراء، ويتم انتخاب الرئيس بالاقتراع الشعبي لمدة خمس سنوات وهو رأس الهرم الرسمي في الدولة.

 

الموارد والاقتصاد
تعتمد أوكرانيا في اقتصادها على الزراعة بشكل رئيس وكانت تعتبر سلة الفواكه والخضار لأوروبا. من منتوجاتها البطاطا والحبوب وبخاصة القمح والشعير (من أجود الأنواع في العالم)، وهي تشتهر بقطعان الماشية وانتاج الأجبان والألبان، التي تصدر قسمًا كبيرًا منها. كذلك تعتمد اوكرانيا على بعض الصناعات المعدنية الثقيلة والأسلحة، والادوات الكهربائية، لكنها تعتمد على روسيا في تأمين حاجاتها من البترول والغاز.

 

القوات المسلحة
كان الجيش الأوكراني يمثل ثاني أكبر قوة عسكرية في أوروبا بعد روسيا، وكان في ايام الإتحاد السوفياتي السابق يضم نحو 700 الف عسكري ومئات الصواريخ النووية وآلاف المدرعات والطائرات. وقد تخلت أوكرانيا عن ترسانتها النووية لصالح روسيا وانضمت إلى معاهدة عدم الانتشار النووي بعد معاهدة بودابست (1994).
يضم الجيش الأوكراني اليوم القوات البرية والجوية والبحرية ويصل عديده الى نحو 160 الف جندي، ولديه اكثر من مليون من الإحتياط، ومئات الطائرات الروسية (ميغ وسوخوي) وعشرات من طائرات الهليوكوبتر والصواريخ البالستية المتوسطة والقصيرة المدى، بالإضافة إلى مئات الدبابات والمدافع المتنوعة الروسية والاوكرانية الصنع. وتبلغ ميزانية الدفاع نحو 2 مليار دولار (تقديرات 2012) وتمثل 1.1% من الدخل القومي. وتخضع القوات المسلحة الأوكرانية لإمرة رئيس الجمهورية.

 

مقر الأساطيل الروسية
كانت الشواطئ الأوكرانية على البحر الأسود مقر الأساطيل الروسية منذ العهد القيصري، وكذلك في فترة الاتحاد السوفياتي حيث كانت موزعة ما بين شبه جزيرة القرم واوديسا وبحر آزوف. وبعد استقلالها حاولت اوكرانيا إلغاء هذه القواعد، ولكن البحرية الروسية بقيت تتمركز في الأماكن ذاتها بعد الاتفاق على قسمة الأسطول السوفياتي وعقد معاهدات بين الدولتين. في المقابل تدفع روسيا لقاء بدلًا ماديًا سنويًا لأوكرانيا أو تزودها بالغاز. وهذا الموضوع هو أحد أسباب الخلاف الروسي - الأوكراني الدائم حتى اليوم على الرغم من تمديد هذه الإتفاقيات حتى العام 2042.
تشترك أوكرانيا في قوات حفظ السلام في عدد من دول العالم ومنها لبنان، ضمن قوات اليونيفل في الجنوب.

 

الأزمة الأوكرانية
تواجه أوكرانيا أزمة اقتصادية كبرى، وقد اشتد الصراع فيها بين توجه يريد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، تحت عنوان الشراكة الاقتصادية، وبين توجه آخر يريد الانضمام للاتحاد الجمركي مع روسيا.
ويمكن ملاحظة حجم الاشتباك بين الدول الغربية بقيادة أميركا، وبين روسيا الاتحادية، في قلب الصراع الأوكراني الأوكراني حيث يرمي الغرب بثقله لتغليب خيار دفع الحكومة الأوكرانية لتوقيع اتفاق الشراكة معه، وبالتالي الانضمام إلى حلف الأطلسي، فيما روسيا تضغط بقوة لمنع ذلك.
اسباب الاحتدام في الصراع على ارض أوكرانيا ودلالاته، وما يرسم آفاقه المستقبلية المحتملة يمكن اختصاره في ما يأتي:
 

• اولاً، محاولات فك ارتباط اوكرانيا بالاتحاد الروسي:
يرى البعض أن السبب الرئيس الذي دفع إلى اشتعال هذا الصراع، هو استمرار محاولات الدول الغربية التي بدأت إثر انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، لفك ارتباط أوكرانيا بالاتحاد الروسي، ودفعها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عبر توقيع اتفاق الشراكة معه، ومن ثم انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي، وجعلها قاعدة له، لإقامة قواعد للدرع الصاروخي فوق أراضيها. وهذا ما تجد فيه روسيا تهديدًا لأمنها ووسيلة للعمل على إثارة التناقضات داخلها لتفكيك الاتحاد الروسي، بعد أن نجحت سابقًا محاولات تفكيك الاتحاد السوفياتي السابق. وبالتالي تخشى روسيا استخدام أوكرانيا لدفعها إلى تقديم التنازلات في بعض الملفات الدولية لمصلحة السياسية الاميركية والغربية، بما يخدم إعادة انتاج الهيمنة الاميركية وتكريسها، وتقويض الجهود الروسية التي نجحت حتى الآن في اضعاف هذه الهيمنة، ودفعت اميركا إلى الجلوس الى الطاولة والتفاهم معها لإيجاد الحلول للعديد من الملفات الساخنة.
كما يرى هذا البعض أن روسيا بعد استعادة نفوذها الدولي، وإقامة تحالفات دولية قوية تمثلت في حلف مجموعة دول البريكس، وفي منظمة شنغهاي، «باتت اليوم في وضع قوي يمكنها من إحباط المحاولة الاميركية الغربية لضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي».
ويرى البعض الآخر أنه إذا كان الغرب يسعى اليوم إلى فتح جبهة جديدة في مواجهة روسيا بهدف اشغالها وممارسة الضغط عليها، فهذا من ضمن لعبة الشطرنج الكبرى على المسرح الأوراسي، والعالمي، لدفعها إلى القبول بمقايضة أوكرانيا بملفات أخرى في العالم، من سوريا والعراق وإيران إلى مصر وأفريقيا، ومن اميركا اللاتينية وحتى كوريا الشمالية. في المقابل تسعى روسيا لمنع الغرب من تحويل أوكرانيا الى ساحة بازار أو «طاولة كباش»، وهو ما تجلى في منع الحكومة الأوكرانية من توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وذلك عبر تقديم حزمة من الاغراءات المالية والاقتصادية لها ما جعلها ترفض العرض الأوروبي، ودفع بالغرب إلى تشجيع الإضطرابات الأخيرة في كييف والإنقلاب على الاتفاق الذي تم في 21 شباط 2014 والاستيلاء على السلطة من قبل المحتجين وإسقاط الرئيس يانوكوفيتش المؤيد للسياسة الروسية.
 

• ثانيًا، عودة الحرب الباردة والخطوط الحمر الروسية:
إن الصراع المحتدم اليوم على أوكرانيا، يدل إلى عودة العالم إلى الحرب الباردة في ظروف مختلفة وتشبيك دولي، يذكر بالنزاعات غير المباشرة التي خاضها القطبان خلال تلك الحرب ومحاولة كل منهما ترجيح كفة حليفه.
ومن الواضح أن هناك انقسامًا على المستوى الشعبي الأوكراني بين اتجاهين، واحد مؤيد للغرب (أوكرانيا الغربية)، وآخر مؤيد لروسيا، فهذه الجيوبولتيك المعقدة تجعل من الصعب على روسيا القبول بالمساومة مع الغرب، لا سيما أن السياسة الروسية تعمل على حسم الصراع معه في الجمهوريات السوفياتية السابقة (دول آسيا الوسطى) التي تم اختراقها غربيًا، باعتبارها جزءًا من المجال الحيوي للأمن القومي الروسي. كما أنها تعمل على تعزيز حضورها الفاعل في الساحة الدولية، ولهذا يعتبر البعض أن اوكرانيا من الخطوط الحمر الروسية وهي لن تسمح للغرب بالسيطرة عليها أو الشغب فيها.

 

بين الأسباب والنتائج
خلاصة القول، إن روسيا معنية ببقاء أوكرانيا في حديقتها الأمامية للضرورات الآتية:
1- أمنيًا: تملك روسيا حدودًا طويلة مع أوكرانيا، وموسكو لا تبعد عن الحدود الأوكرانية أكثر من 480 كلم، ولهذا فان سيطرة الغرب على هذا البلد تشكل تهديدًا مباشرًا لأمن عاصمة روسيا، لا يمكن أن تسمح به موسكو.
2- استراتيجيًا: تتمثل الضرورات الاستراتيجية على نحو خاص بوجود الأسطول الروسي في البحر الأسود، الذي يتخذ من الموانئ الأوكرانية قاعدة أساس له لوصول روسيا إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط وغيره. كذلك فإن مدينة سيفاستبول التي يقيم عليها الأسطول الروسي هي في الأصل مدينة روسية تم ضمها مع شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا عندما كانت دولة اشتراكية ضمن الاتحاد السوفياتي السابق والمؤسسة له، وقد وقّعت روسيا اتفاقات ومعاهدات مع أوكرانيا بشأنها، بالإضافة إلى إتفاقيات لاقتسام المياه الاقليمية في البحر الأسود.
3- جيوبوليتيكيًا: إن أكثر من نصف سكان أوكرانيا في الشرق والجنوب، يتحدثون اللغة الروسية ويؤيدون العودة إلى تعزيز العلاقة مع روسيا. كذلك، فإن شبه جزيرة القرم (26100 كلم2) تتمتع بحكم ذاتي ومعظم سكانها من الروس (60%)، والحكومة الروسية حتى الآن تدفع رواتب موظفيها والمتقاعدين فيها.
4- اقتصاديًا: تشكل أوكرانيا الممر الاقتصادي والبوابة الروسية الجنوبية الرئيسة نحو أوروبا لمرور أنابيب الغاز الروسي والبضائع والسلع الروسية إليها.
5- جيوستراتيجيًا: تحوّل الصراع في أوكرانيا بعد التدخلات الغربية فيها ودعمها للمعارضة إلى قضية خلافية بامتياز بين روسيا والغرب، لاتقتصر تفاعلاتها وانعكاساتها في أوكرانيا وحدها، بل ترتبط بما يجري في المسارح الدولية الأخرى حيث تتصارع إرادات الدول الكبرى على النفوذ والموارد والمصالح، وتتشابك مع ما يجري في سوريا والعراق والخليج ومصر والقارة الأفريقية، وحتى شرقي أسيا والمحيط الهادئ وصولا إلى فنزويلا في أميركا الجنوبية.

 

أحداث الميدان وانقلاب 22 شباط 2014
اعتبرت موسكو أن الانقلاب على السلطة في كييف هو عمل غير دستوري، واستيلاء مسلح على السلطة بالقوة، ولمحت باللجوء إلى القوة لإعادة الأمور إلى وضعها السابق في أوكرانيا.
هذا التغيير في كييف لم يرق لسكان العديد من المناطق في جنوب البلاد وشرقها. ويوم 23 شباط، وكجزء من نتائج الثورة، ألغي قانون اللغة للأقليات (والذي يشمل الروسية) وتم إعلان اللغة الأوكرانية لغة رسمية وحيدة للبلاد. فجاء هذا القرار ليصب الزيت على النار في تلك الأقاليم المستاءة أصلا من التغييرات الحاصلة في عاصمتهم. وقد رأت تلك الاقاليم وخاصة شبه جزيرة القرم أن خطوة إلغاء قانون اللغات هي دليل على أن المحتجين في كييف يحملون أجندة معادية لروسيا ولهم توجه عنصري.
في 27 شباط، احتل مسلحون يرتدون ملابس عسكرية روسية منشآت ذات أهمية في القرم (البرلمان القرمي ومطارين)، كان المسلحون قد سيطروا عليها. اتهمت كييف موسكو بالتدخل في شؤونها الداخلية، بينما أنكر الطرف الروسي هذه الادعاءات.
في الأول من آذار وافق مجلس الإتحاد الروسي بالإجماع على طلب الرئيس الروسي بوتين استخدام القوات العسكرية الروسية في أوكرانيا.
في 2 آذار، استدعى مجلس الأمن القومي الأوكراني كامل قوات احتياط القوات المسلحة، وقد أدى تصاعد التوتر في القرم بين الأطراف المؤيدة لروسيا والمؤيدة لأوكرانيا لاستجلاب ردود فعل داعمة للثورة ومنددة بروسيا من قبل حلفاء أوكرانيا الغربيين.
وفي المحصلة، يرى البعض أن احداث ميدان الاستقلال قد قسمت الأوكرانيين بين مؤيد للغرب ومؤيد لروسيا، حيث يلوح شبح تقسيم هذه البلاد وبخاصة بعد اعلان مجلس نواب القرم ذات الحكم الذاتي عن رغبته في الإنفصال والاستفتاء وطلب الحماية الروسية والانضمام إلى روسيا.

 

أوكرانيا جرح مفتوح وملتهب
لقد دلت الأحداث الأخيرة والمتسارعة في أوكرانيا، أن روسيا والغرب يتحاشيان الوصول إلى الصدام المباشر، كذلك لم تظهر روسيا، والتي تمتلك كثرة من الأوراق الرابحة في الأزمة، نيتها في التدخل العسكري المباشر في أوكرانيا لحماية الروس أو الناطقين بالروسية فيها والمؤيدين لها، وإن كانت تلوح به كخيار أخير. وروسيا التي دعمت الحكم الذاتي في جمهورية القرم وأيّدت انفصالها عن أوكرانيا، وافقت على معاهدة انضمامها إلى الإتحاد الروسي بعد إجراء الاستفتاء الشعبي الذي بلغت نسبة المطالبين فيه بالإنضمام إلى روسيا 96.7 %. هذه الخطوة قابلها الغرب بالرفض فاعتبرها انتهاكًا للقانون الدولي، واتخذ عقوبات اقتصادية ومالية ضد شخصيات روسية وقرمية، بالإضافة إلى البحث في الغاء (أو تجميد) عضوية روسيا في مجموعة الثماني (الدول الصناعية الكبرى في العالم)، وتحريك بعض القطع الحربية في البحر الأسود. من جهتها ردت روسيا بموقف حازم تجلى في خطاب بوتين، كما فرضت عقوبات على بعض الشخصيات الغربية وعمدت إلى إجراء مناورات في البحر الأسود.
مع ذلك، يبدو أن الأمور لن تتعدى هذا الحدّ من التدهور بانتظار خطوات دبلوماسية لم تنقطع في الأساس، وقد تؤدي إلى تفاهمات ترضي مصالح الطرفين، في أوكرانيا وسواها من مناطق الصراع. لكن الظاهر أيضًا أن أوكرانيا ستكون ساحة صراع دولي جديدة على النفوذ والطاقة، وجرحًا مفتوحًا على الإلتهاب. فللدول الغربية والولايات المتحدة مصالح مع روسيا وحلفائها تمتد وتتقاطع فوق ساحة العالم: من سوريا ومصر إلى إيران، ومن الصين إلى كوريا، ومن أوروبا إلى أميركا الجنوبية.

 

المراجع:
 - en.wikipedia.org/wiki/Ukraine
 - https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook
 - en.wikipedia.org/wiki/Autocephaly‎
- www.nytimes.com/‎rt.com/news/‎