ملف العدد

أيام قبل المعركة
إعداد: ندين البلعة خيرالله

صقيع العاصفة «زينة» الذي لفح السواحل وشغل الناس وأقفل المدارس عدّة أيام، كان يلحّ علينا بأسئلة من نوع: كيف يقيم عسكريّونا في الجرد حيث الحرارة تنخفض إلى ما تحت الصفر بدرجات؟ ترى كيف يؤمّنون الحراسة في ليل العواصف؟ كيف يتنقّلون من مركز إلى آخر؟ وكيف يؤمّنون حاجاتهم اليومية؟ وماذا عن الواقفين على الحواجز منهم؟...
تلك الأسئلة كانت في بالنا عندما انطلقنا من بيروت في جولة تمتدّ من عرسال إلى رأس بعلبك، لنستطلع أحوال عسكريّينا هناك. والحق يُقال: «الحكي مش متل الشوفي». فعلًا إنه لكذلك، ولو لم نشاهد بأم العين ما شاهدناه، لما استطعنا أن ندرك يومًا ما يقاسيه أبطالنا المنتشرون في الأعالي، ورفاقهم الأسرى الذين يحتجزهم الإرهابيون في تلك المناطق النائية الوعرة.

 

«الحكي مش متل الشوفي»
بوصولنا إلى «ضهر البيدر» بدأت «زينة» تبشّرنا بما ينتظرنا في الأعالي، مع أنّ الحظ حالفنا يومها فالطقس كان دافئًا والشمس مشرقة.
ومع تقدّمنا في الطريق إلى عرسال، راح الشعور برهبة المكان يتسلّل إلينا شيئًا فشيئًا! وحدها الحواجز والنقاط العسكرية المنتشرة على طول الطريق على أتمّ الاستعداد، تتيح لنا الشعور بالأمان. في مركز قيادة اللواء الثامن في اللبوة تركنا الآلية التي تقلّنا، وانتقلنا بآليات رباعية الدفع نحو الجرود حيث ثبّت جيشنا انتشاره منذ نهاية معركة عرسال في آب الفائت. من مداخل بلدة عرسال إلى مركز المهنية، فمركز الخزانات، وحاجز المصيدة، ووادي حميّد والحصن والزيتونة، إلى عقبة الجرد فمركز وادي عطا... كل ما استطعنا قوله «الله يحمي جيشنا». لقد كان قيامنا بتلك الجولة أشبه بخوض معركة، فما هو حال هؤلاء العسكريين الذين ينتقلون من منازلهم إلى مراكز خدمتهم، يتعرّضون لمخاطر الطرقات التي تشبه كل شيء إلاّ الطرقات، ناهيك عن خطر المسلّحين والاعتداءات التي يواجهونها يوميًا في هذه المناطق. حقًا «الحكي مش متل الشوفي!».

 

على مداخل عرسال...
انطلقت جولتنا من مراكز اللواء الثامن المنتشرة بدءًا من مدخل بلدة عرسال (من ناحية اللبوة) حيث ثُبٍّت حاجز للسرية 811. هدوء لافت والمارّة ينفّذون تعليمات العسكريين بكل احترام. يقول الملازم روي: «أصبحنا نعرف معظم سكان المنطقة»، ويضيف، «إنه حاجز موقع المستوصف حيث كان يواجهنا يوميًا خطر سيارات مفخّخة واحتمال التعرّض لهجوم من داخل القرية وجرودها والأطراف. مسؤوليتنا كانت ولا تزال كبيرة، فالخطر يحدق بنا من كل الجهات ولكن الوعي الكبير الذي يتمتّع به عسكريّونا جعلنا نتخطّى المحن ونصل إلى الهدوء الذي ترونه حاليًا».
الملازم روي تخرّج في العام 2014 أي أنه حديث الخدمة، ومع أنه يؤدّي خدمته في موقع خطر فهو يقول: «تأقلمنا مع الوضع ورسالتنا تفرض علينا تخطّي مخاوفنا، أنا شخصيًا تخطّيت كل الحواجز والمشاعر السلبية، والسبب الأبرز هو مسؤوليتنا، ووجود رفاق لنا في أيدي الإرهابيين. التفكير بهم كافٍ لجعلنا نستشرس في القيام بواجبنا».
يقف العريف يوسف بعتاده الكامل من الدرع إلى الخوذة والسلاح على الحاجز، يركّز على المارة وقد حفظ وجوه معظمهم كونهم من أهالي المنطقة، وهو يخدم فيها منذ بداية المعارك. يمضي خمسة أيام في الخدمة تعقبها مأذونية لثلاثة أيام. العاصفة احتجزته في المركز لأكثر من أسبوع، «ولكن هذا لم يزعجه، خلال المعارك كنّا نبقى عشرات الأيام في المركز يقول، إنها ظروف الخدمة وعلينا تخطّي الصعوبات والتأقلم مع الأوضاع الدقيقة»... وفي ما خصّ تعاون المواطنين يؤكّد العريف يوسف: «هم مرتاحون لمهمّتنا هذه، فهي تعود في النهاية لمصلحتهم وأمنهم، وهم ينصاعون للقوانين».

 

هنا صورهم، هنا دماؤهم...
تابعنا طريقنا بصمت، نراقب كل ما حولنا محاولين استعادة الأحداث التي شهدتها تلك المنطقة خلال المعارك من خلال ربط ما سمعناه مع أسماء المواقع والمراكز. فهنا الحاجز المؤدّي إلى مركز المهنيّة وقد عُلِّقت عليه صورة للعسكريين الشهداء الذين استهدف الإرهاب شاحنتهم في عرسال، وهناك طريق متعرّجة تدلّ على مدى صعوبة التنقّل التي عانى منها العسكريون. وفي المقابل مهنية عرسال القابعة على تلّة صغيرة والتي صمد فيها الجيش في وجه مئات الإرهابيين.
وصلنا إلى مركز الكتيبة 83 حيث يخبرنا ملازم أول (آمر فصيلة العتاد والمعدّات في قيادة الكتيبة)، أنهم انتقلوا إليه في أوائل تمّوز أي قبل بدء معركة عرسال بحوالى شهر. ويقول: كان الهجوم في هذه النقطة تحديدًا وعلى نطاق واسع... سقط لنا شهداء، فقد هاجمنا الإرهابيون بأعداد هائلة، وعلى الرغم من ذلك صمدنا. اليوم نحن ثابتون في هذا المركز واستطعنا بفضل دماء شهدائنا وجروح مصابينا وعزيمة عسكريينا أن نحصّن أنفسنا. ما زلنا على الجبهة والتحرّكات المشبوهة للمسلّحين تحصل من وقت لآخر ولكن بنسبة أقلّ بكثير من السابق، ونحن نتصدّى لهم في كلّ مرّة يحاولون التسلّل لدخول بلدة عرسال. وعن الصعوبات التي تواجههم يقول: «ككل مهمة نقوم بها، لا بد من وجود بعض الصعوبات التي تختلف باختلاف المهمة وطبيعة المنطقة. هنا الأرض جردية والمناخ قاسٍ، ما يجعل المهمّة أصعب. ولكننا مستعدّون لتخطّي كل العراقيل، فنحن جيش وهذه طبيعة عملنا. لوجستيًا استطعنا خلال العاصفة تأمين معظم حاجاتنا مستعينين بالعتاد المناسب، وقمنا بفتح الطرقات المؤدّية إلى مراكزنا بآلياتنا الخاصة».
وعن أطول مدّة قضاها في الخدمة من دون أن يرى عائلته يجيب: «23 يومًا، ولكن مهما طالت الفترة فإن التفكير في هذا الأمر غير وارد، لأننا حين ننفّذ مهمّة ننسى أي أمر آخر، حماية وطننا وترابه وشعبه هي الأولوية».
لا يخفي الملازم أول أنه وعسكرييه يشعرون بالفخر كونهم يتصدّون لمجموعات إرهابية استطاعت أن تخترق دولًا كبرى وترتكب المجازر فيها. حسبنا أننا حمينا بلدنا وشعبنا من شرّ الإرهابيين يقول...
من دشمة المراقبة المبنية على تلّة مطلّة على الجبال والمناطق المحيطة يحدّثنا الرقيب أول عثمان يقول: «لا أنسى رفاقي الذين سقطوا بقربي ليلة الهجوم على مركزنا هؤلاء أخوتي، تشاركنا كل شيء، دماؤهم أمانة في عنقي».
الخدمة في المؤسسة العسكرية تحتلّ المرتبة الأولى في حياة الرقيب محمد من الكتيبة نفسها، في السابق خدم في صيدا، ولكن «مهمّتنا واحدة أينما كنّا» يقول، مؤكّدًا افتخاره بالمشاركة في الحفاظ على لبنان واللبنانيين ومحاربة الإرهاب لحمايتهم.

 

أجمل المهمات أخطرها
تابعنا التقدّم وقد واكبتنا آلية عسكرية من اللواء الثامن، وبدأنا نبتعد تدريجًا عن المناطق الآهلة بالسكان حتى وصلنا إلى أول تلّة في الجرود حيث ما يُعرَف بمركز الخزانات. هناك استقبلنا آمر السرية 833 الذي لا ننسى ابتسامته. ابتسامة تفصح عن ثقته الكبيرة بنفسه وبعسكرييه، وقد رأيناها على كل الوجوه التي قابلناها في الجرود فزرعت في نفسنا الأمل بأن جيشنا صامد في وجه الرياح والصعوبات.
«تمركزنا هنا منذ 12/8/2014 أي بعد انتهاء المعارك حيث أعدنا الإنتشار العسكري على كل التلال المحيطة ببلدة عرسال للمراقبة ومعالجة أي إشكال قد يقع، ومواجهة أي محاولة هجوم أو تسلّل قد نتعرّض لها. فنحن نمارس انتشارًا حذرًا ونحن معرّضون يوميًا لأي نوع من الاعتداءات، حيث نتوقّع محاولات تسلّل المسلّحين من الجرود إلى داخل البلدة ونتصدّى لها بمختلف الوسائل المتاحة. ولهذه الغاية قمنا بإغلاق كل المنافذ التي يمكن التسلّل عبرها».
يشيد آمر السرية بالأداء العالي للعسكريين، فهم تأقلموا مع طبيعة الأرض والمهمة على حدّ سواء، وأصبحوا قادرين على تنفيذ أوامر القيادة وتطبيقها بحذافيرها. وعن المخاوف التي يواجهونها يتحدّث النقيب بكل ثقة: «لم يعد لدينا مخاوف على الرغم من خطورة المنطقة والمهمة التي ننفّذها، فقد انتشرنا بشكلٍ دقيق وكامل، مراكزنا محصّنة وإمكاناتنا ممتازة. ونحن على معرفة تامة بمهمتنا وهذا الأمر يبدّد عوامل الخوف كلّها».
ماذا عن الضغوطات النفسية التي يرتّبها عليك خوف أهلك والمقرّبين منك؟
«مع بداية تمركزنا في هذه المنطقة كان خوفهم أكبر من مخاطر الخدمة، ولكن مع مرور الوقت باتوا يتقبّلون فكرة وجودي هنا». ويختم حديثه قائلًا: «هذه من أجمل المهمات التي نفّذتها في حياتي العسكرية، وهي مصدر فخر واعتزاز لي. وسوف نبرهن دائمًا أننا على قدر المسؤولية وسنكون مصدر فخر لقيادتنا وللوطن انشاءالله، فالمهمة مهمّتنا والأرض أرضنا والويل لمن يحاول العبث بأمننا».
الجندي أحمد على ملّالته ينفّذ نوبة الحرس والمراقبة، ينظر باتجاه الجرود والبلدة تحسّبًا لأي حركة مشبوهة. ويؤكّد أن لا مخاوف لديه سوى من التسلّل الليلي، ولكنه باتكاله على نفسه وعلى رفاقه يتخطّى خوفه هذا ويؤكّد «نحن في المؤسسة لنحمي الوطن ولا يتمّ سوى ما كتبه الله».

 

يا تلال خلفها تلال...
من الخزانات تابعنا التقدّم بصعوبة نظرًا إلى طبيعة الأرض الوعرة والموحلة، فنحن لم نكن نسير على طريق محدّد وواضح، بل على طريق مستحدث شُقّ في الجبل لربط المراكز العسكرية ببعضها. وكنا نتساءل: كيف يستطيع جيشنا تحمّل كل هذه الصعوبات والتنقّل يوميًا من هذه المراكز وإليها؟ لا بل كيف يتمكّن العسكريون من حفظ المسار الوعر، في منطقة باتت عند توغّلنا فيها، أشبه بصحراء كبيرة قاحلة لا بداية لها ولا نهاية!
تلال مكشوفة من كل الجهات على تلال أخرى، وطرقات ومنحدرات قاسية لا يمكن تخطّيها سوى بآليات مخصّصة ومجهّزة... مررنا بكل ذلك حتى وصلنا إلى حاجز المصيدة الذي يربط بين بلدة عرسال وجرودها. هنا ثُبِّت حاجز للسرية 831 لمنع أي مرور غير مصرّح به وللتصدّي لأي محاولة تسلّل.
يقول الجندي أحمد «نحن محصّنون جيّدًا ومستعدّون لأي مواجهة والويل لمن يقترب»، كيف تعيشون في الصقيع؟ يضحك ويجيب: تتجلّد المياه في القساطل والخزانات، بسيطة، نذوّب الثلج للاستخدمات اليومية. أما التدفئة فتتم بالطرق المتاحة، نشعل نارًا ونرتدي ثيابًا سميكة... نسأل ماذا عن تعاون المواطنين معكم؟ فيجيب: بالنسبة إلينا كل المواطنين أهلنا، سواء في عرسال أو في أي بقعة من بقاع الوطن.

 

في أعماق الجرد
على الطريق الوعرة نفسها تابعنا التقدّم في أعماق الجرود، ننظر من حولنا فلا نرى سوى التلال والوديان التي غطّى الثلج بعضها فأخفى أي ملامح للطرقات التي استحدثها الجيش. وعلى بعضها الآخر يظهر التراب بسبب «الشرد» أي الهواء القوي الذي يطيّر الثلوج ويجمعها في بقعة واحدة مكشوفة. هذا الهواء الهائج تسبّب مع بداية العاصفة برمي عسكري لأمتار عن ملّالته وإصابته بكسور بينما كان يحاول تغطية السلاح لحمايته من الثلج!
وصلنا إلى أبعد مركز عن خطوط الإمداد وهو آخر مركز في عمق الجرود. تلّة مكشوفة من كل الجهات إنه «مركز الحصن». هناك تتمركز السرية 813 في آخر مركز للواء الثامن في الجرود، ومن هذا المركز يظهر حاجز الحصن الذي شهد على خطف العسكريين خلال المعركة، وعلى أثره شنّ الجيش هجومًا معاكسًا لاحتلال كل التلال المحيطة. هذا المركز هو الأصعب لأنه مكشوف ويطلّ على أماكن وجود الإرهابيين في الجرود. آمر المركز يأخذنا من على سطح المبنى في جولة «بصرية» إلى هذه الأماكن. على بعد بضع كيلومترات تقع تلّة على شكل قلعة، يتحصّن فيها الإرهابيون الذين ما زالوا يتواجدون هناك مختبئين في المغاور.

 

من أين وكيف تتمّ محاولات التسلّل؟
يشير النقيب آمر المركز إلى خط في وادي حميّد حيث يحاول الإرهابيون التسلّل على شكل مجموعات من أربعة أو خمسة أشخاص عبر طريق هي المدخل الوحيد إلى عرسال لأن الجيش أغلق كل المداخل الأخرى. ويوضح: نضبط محاولات التسلّل ونتصدى لها، فالخفراء يراقبون بدقّة مختلف القطاعات. وعند ملاحظة أي حركة تتمّ الإفادة عنها والتأكّد منها، وبالتالي تعالج بالأسلحة المناسبة.
قبالة هذه التلة، نرى تلّة أخرى تُسمّى بقعة الكسارات، يعبر إلى هذه البقعة عمال مدنيون يحملون إذنًا بالمرور، لكن أي تحرّك آخر مشبوه وغير مصرّح به، تتمّ الرماية عليه.
العريف خضر من الذين شاركوا في المواجهة التي حصلت في مركز وادي حميّد. يقول: «كنّا حوالى 25 عسكريًا تعرّضنا للهجوم استشهد منّا 8 وأصيب 8 آخرون، ولكننا صمدنا في مركزنا، دافعنا عنه فلم يسقط والحمدلله». ويضيف: «الإرهاب لم يستطع إخافتنا فهل يعيقنا الطقس عن القيام بواجبنا؟».

 

مراكز على امتداد وادي حميّد
من حاجز المصيدة الذي يقع في قعر الوادي انتقلنا صعودًا إلى مراكز محيطة بعرسال تُعرف بمراكز وادي حميّد حيث سلّمنا عسكريّو اللواء الثامن إلى آخرين من اللواء السادس لنتابع معهم جولتنا. على المرتفع الذي تتمركز فيه السرية 632 يجري العمل الدؤوب لتحصين المركز وترتيبه. فإلى مهمّاتهم الأمنية يعمل العسكريّون باستمرار على تحسين وضعية تمركزهم، كما يتابعون تدريباتهم ليظلّوا في جهوزية تامة. نسألهم هل من صعوبة في الحصول على حاجاتهم اليومية في تلك البقعة النائية، يؤكّدون أنهم يتسلّمون الوجبات اللذيذة يوميًا. اللذيذة طبعًا تبقى بين قوسَين، فالطعام يصل باردًا، لكن من يتشاركون التعب، يتشاركون الطعام بلذّة وإن كان باردًا.
الرقيب جورج يسكن في عكار، ويخدم هنا في جرود البقاع. هو متزوّج ولديه ولد، تمرّ أيام لا يرى فيها عائلته، وحين نسأله عن صعوبة هذا الأمر يسارع بالإجابة: «هذا واجبنا الذي أقسمنا اليمين على تأديته كاملًا. لقد تأقلمنا مع جميع ظروف الخدمة».

 

هنا الزيتونة
بعد جولتنا في مراكز اللواءَين الثامن والسادس، كانت مراكز فوج التدخل الخامس بانتظارنا. هنا مركز الزيتونة حيث يرتدي العسكريون الثياب الثقيلة ويغطون رؤوسهم ووجوههم، فالحرارة أصبحت أكثر تدنيًا والتدفئة باتت ضرورية.
الملازم أول جو من السرية الثانية في الفوج، يحدّثنا عن العاصفة التي مرّت صعبة «ولكنها لم تضعف إرادتنا ولم تخفّف من عزيمتنا. فقد كنّا محصّنين لمواجهتها بالتموين والعتاد الضروريين، واستعنّا بالجرافات لفتح الطرقات. مع بداية العاصفة كان الأمر متعبًا ولكن بعدها تأمّن كل شيء وكلّه أصبح «محلولًا»!

وكيف تقيّم معنويات العسكريين؟
بالـ«Loge»، يجيب، «نلمس ذلك من خلال جهوزيتهم الدائمة واستعدادهم لمواجهة أي خطر مهما كان كبيرًا... لقد ثبّت الشباب أنفسهم جيّدًا في المنطقة». ويلفت إلى أن مركز الزيتونة هذا كان مقرًا للرماية يستخدمه الإرهابيون للتدرب قبل أن يسيطر عليه الجيش.
الرقيب أول جان من السرية نفسها يرى فرقًا شاسعًا بين مهمّة بيروت وهذه المهمّة في جرود عرسال: «حفظ الأمن في بيروت أشبه بنزهة قياسًا إلى ما نقوم به الآن. التصدّي للإرهابيين مهمة يفتخر بها كل عسكري». ويخبرنا عن تسلّل حصل مرّة بين موقع السرية وموقع آخر لسرية من اللواء الثامن. «استطعنا بالتنسيق في ما بيننا، صدّ هذا التسلّل وإيقاع خسائر في صفوف المتسلّلين... ممنوع عليهم الاقتراب منّا لأنّنا محصّنون ومستعدّون!»، وحين نسأله عن مخاوفه يجيب مستنفرًا: «لا مجال للخوف، شو نحنا جايين نخاف أو نقاتل!؟».

 

عقبة الجرد: الآلية لم تعد تتحرك
تابعنا بآليتنا رباعية الدفع للتقدّم نحو المراكز الأخرى التي ينتشر فيها التدخل الخامس، ولكن حتى هذه الآلية لم تكن قادرة على السير في الطرقات الجردية وتخطّي عراقيلها. فقد وصلنا إلى عقبة الجرد أمام مركز للتدخل الخامس وعلقت الآلية التي كانت تنقلنا بالثلوج والوحل! لم نستطع الخروج من هذا المأزق، فسارع عسكريو التدخل الخامس إلى نجدتنا. منهم من حاول شدّ الآلية لإخراجها لكن من دون جدوى، آخرون ركضوا نحو مركزهم لإحضار حبلٍ لقطرها، وسائق الملاّلة سارع إلى ملاّلته لتشغيلها وسحب آليتنا بواسطتها... ما كان حالنا لو لم يكونوا معنا!؟ هنا يشير النقيب ماهر آمر السرية الثانية إلى أن إحدى الصعوبات التي واجهتهم خلال العاصفة كانت تجمّد مياه الآليات وبطّارياتها ما كان يمنعها عن العمل!
ولتوفير الوقت ونظرًا إلى اقتراب موعد غروب الشمس وخطورة الجليد والمسلك في فترة بعد الظهر، ركبنا في آليات التدخل الخامس لمتابعة جولتنا. وقد كان ما فعلناه خيرًا، فمع التقدّم في الطريق أكثر، كانت الصعوبات تزداد.

 

بين لغم وآخر... نستذكر نور الدين
قبل الإنطلاق إلى المركز التالي، يخبرنا النقيب عن الدورية الصباحية اليومية التي يقوم بها عناصر السرية عند الساعة السادسة صباحًا وسط الجليد والهواء القارس، مع حسّاسة ألغام تحسّبًا لأي فخّ أو كمين قد يزرعه الإرهابيّون. ويضيف: هذا ما حصل بالفعل، إذ كشفنا لغمًا على بعد أمتار من مركزنا، كان مزروعًا وسط الطريق ليتمّ تفجيره لاسلكيًا عند مرور إحدى آلياتنا، وعلى بعد أقل من متر لغم آخر... لقد نجونا حقًا بأعجوبة من هذا الكمين... ويستذكر النقيب المعاون الشهيد محمد نور الدين من فوج الهندسة، الذي قام بتفكيك العبوتَين لكنه استشهد فيما كان يفكّك عبوة ثالثة.
وعن وضع المسلّحين الإرهابيين حاليًا، يقول النقيب ماهر بكل ثقة: «تحرّكاتهم أصبحت الآن محصورة في طرقات وادي الرعيان، أمام أنظارنا. لقد حاولوا عدّة مرّات زرع عبوات ولكننا كنا نرصدهم ونتصدّى لهم بالنيران ونجبرهم على التراجع».
تابعنا السير غير آبهين لتعرّج الطريق ولا للـ«خضخضة» والغبار. كنا نتأمل ما يحيط بنا ونصغي إلى آمر السرية الذي أخبرنا كيف قاموا بتخطيط الطرقات وشقّها وتأريفها لتأمين تنقّل العسكريين بين المراكز. «لقد تأقلمنا مع العمل الميداني وتدرّبنا على ردود الفعل، أما لوجستيًا فلا نزال نعاني بعض الصعوبات». عسكري في الآلية يتحدّث عن جمال الثلج الذي غيّر منظر الجبال والجرود الجافة ومنحها مسحة جمال. عسكري آخر يستذكر رفاقه المأسورين ويتساءل عن حالهم في هذا البرد القارس!

 

هنا استشهد داني!
الرحلة مستمرّة مرورًا بمختلف المراكز المتبقية للفوج، نقترب أكثر فأكثر من مداخل منطقة عرسال التي تظهر مكشوفة على مختلف المراكز العسكرية. في مركز وادي عطا حركة لا تهدأ، آليات منتشرة وعسكريون يتحرّكون بوتيرة سريعة لإنهاء الأعمال الضرورية قبل حلول الظلام. هنا استوقفنا أحد الضباط، ليدلّنا على مكان استشهاد الرائد داني خيرالله. الأمكنة التي يسقط فيهــا شهــداء يقدّســها الرفــاق.
لحظة مؤثرة، تابعنا بعدها مع مساعد آمر السرية الرابعة الذي لفت إلى صعوبة هذه النقطة في قعر الوادي، حتى الآليات المجنزرة كانت تعجز أحيانًا عن عبورها. مع ذلك، فالعسكريون جاهزون لمواجهة أي صعوبة ينفّذون مهمّات المراقبة ويقيمون التحصينات للمحافظة على موقعهم.

 

مع المواطنين
حين وصلنا إلى المركز الأخير في جولتنا، حيث السرية الأولى في فوج التدخل الخامس، كانت الشمس قد بدأت تختفي شيئًا فشيئًا وبدأنا نشعر بالبرد أكثر. هنا بدأ العسكريون يلملمون حاجاتهم وأغراضهم استعدادًا للدخول إلى الغرف وملازمتها إلى حين يأتي دورهم في الحراسة والمراقبة، بانتظار شمس يوم جديد. الملازم سلطان يحدّثنا عن علاقتهم بالمواطنين، فهذا المركز هو الأقرب إلى أبناء بلدة عرسال: بشكل عام نلمس إيجابية لدى المحيط، كوننا مصدر أمان لأهالي البلدة، نؤمّن حياتهم ونسهّل أعمالهم، يأتون إلى أراضيهم ونساعدهم إذا علقوا في مكان ما بسبب الثلوج والعاصفة. لسنا في منطقة معادية ولكننا نأخذ حذرنا تحسّبًا لأي اختراق غريب.
انتهت الجولة، ودّعنا الجرود... وقفلنا عائدين لكن أجزاء من القلب ظلّت هناك ترافق الأبطال بالدعاء...