شعراء وقصائد

إبراهيم شحرور شاعرية البساطة
إعداد: د.هيام كيروز

بين الديوان الأول ”أساور من تعب“، والإصدار الأخير ”مفاتيح بجياب الورق“، مرورًا بــ ”تياب القلوب... قلوب“، ثمّة قصائد تعكس الحياة وحركيتها المستمرّة، وتسوّغ لـ إبراهيم شحرور معالجة شعرية لعناصر ومعطيات واقعية. كأنما الفعل الشعري بالنسبة إليه طرحٌ لمسائل يومية ولأسئلة وجودية، وانفتاح على نوافذ ذاتية وإنسانية واجتماعية في آن.

 

يندرج نتاج إبراهيم شحرور في نسق الكتابة المغايرة التي تغري الباحث؛ تنمو مثل بذرة وليس مثل خط، وتنطوي على جوهر، وتبوح بسر. كتابة ملتحمة بالزمان والمكان والحدث والمشهد. تختزل المألوف واللامألوف والجوهري والهامشي، بتلك الدفقة العاطفية المنبثقة من «تموضع» عين الشاعر، كما يقول، ومن طقوسيّـتها.

من عالم الهندسة المعمارية إلى ملكوت الشعر، أطلّ إبراهيم شحرور متوكّئًا على موهبة فطرية رقيقة كبتلات الياسمين، نامت تحت وسادته، وصحت على الإشراقات الزجلية لوالده الشاعر خليل شحرور، النقيب الأول لشعر الزجل، ونمت في مناخات شعرية ملائمة: «ضيوف البيت شعراء، والليالي عابقة بالشعر».

«فِتّ ع حالي لقيت خلطة فيا زجل وفيا الشعرا اللّي قريتُن وفِيا الحياة. عم حاول طلّعا».

 

اللحظة الشعرية

«مناخ الحرية أخذني إلى الشعر» يقول إبراهيم شحرور، «حيث الخيال هو اللعب الحر في الآفاق المفتوحة، فلا ضوابط تحدّ من انفلاته». ويتابع «حتى أنّ القيود بأشكالها العديدة، وبالقلق الناتج عنها، تخلق الشعر».

الحرية إذًا هي الجوهر في النسيج الشعري، والمرتبطة منها بالقلق تخلق الأنا التي تطوّر الخيال كي يستجيب لحاجة الروح للانعتاق من العوائق. ولعلّ هذا ما عناه غاستون باشلار* بقوله: «الشاعر يحلم أن يكون حرًّا، بهذا الحلم الهادف إلى التحرّر من الضرورة، يخلق عالمه الجديد ويبدع فنّه شعرًا».

النفاذ إلى طقوس إبراهيم شحرور الوجدانية يدفع لطرح سؤالين: إلى أي حدّ تستطيع الكلمات استيعاب الصور وتزويقها بالخيال؟ وأي رؤية خيالية تصلح قناةً تسرّب هيكلية العالم في هيكلية اللغة؟ السؤالان تمليهما توريات في النصوص تصبّ في خانة فرضية لا تخرج على نطاق الواقعية، يصوغها الخيال، الأمر الذي يجعلها مدًى مفتوحًا على الابتكار الخلّاق. انسجامًا مع هذه المقاربة يرى إبراهيم شحرور ما حوله رؤية فنية: كل مشهد يطلق مخيّلته، يتكوّن داخله، فيعيد خلقه بدلالاتٍ جديدة، مؤكّدًا أنّ الشعر هو الموهبة في تفاعلها العميق مع اليوميات، وعناصر الطبيعة، ولغة المدينة وشوارعها وحياتها والمشاهد الصغيرة المتوافرة، يمنحها الشاعر الفرصة لكي تعرض ذاتها المتمثّلة في جوهر الشعر. في هذا السياق يتلاقى مع ما كتبه أدونيس: «الشعر عندنا قضايا عامة، مشاكل وأفكار عريضة واسعة، إنّه مواضيع ونظريات، وما يعوزه هو ثقبها، والتسلّل إليها والغوص في سرائرها».

بيروت شو حلوة، قبل تِرم لِفطار بجوعا راضية.

بتبقى خدودا صفر وعيونا زغار، بتكرّ آخر خيط من شمس النهار،

ت تشرب العتمة ع معدِة فاضية.

 

البنية، جمالية الأسلوب واللغة الشعرية

تمهّد المقاربة الأسلوبية لبلورة معطيات تدلّ على صفات الشعر في أدواته البلاغية والجمالية بما فيها الطريقة التي بها يتقاطع المضمون والتعبير. ومعًا يعلوان في علاقة التحام مفصلي، بهدف إضاءة ديناميات الآلية التي بموجبها يتحرّك المضمون وينتج صورًا وفاعلية لغوية متميّزة، ترتكز على «قدرة الخيال الديناميكي على التعامل مع الواقع واقتطاع منطق خاص وسط فوضى الأشياء» كما يشير غاستون باشلار. من جوهر هذه المنطلقات ومراميها، يحبك الشحرور خيوطًا لجدلية التماثل والتغيّر في الكتابة الشعرية. وتؤكّد جدّة صوره الخاطفة على أنّ الشعر هو في القدرة على توليد الدهشة:

«لا يكفي أن تكون قافية القصيدة مدهشة، إنما أن تمتلئ القصيدة بالجماليات» على قوله، وأن تومض في الوجدان، وتسحب ظلّها على المخيّلة التي تنتج فانتازيا تصويرية، كأنها تلاقِح الجمال بين اللمعة والتركيب.

يشكّل الشحرور قصيدته كما لو أنّها امتداد لتخصّصه في الهندسة المعمارية: «يضع لها مخطّطًا ويدعها تتطوّر حتى تفضي إلى النهاية التي يتخيّلها». يسكب الفكرة في نبضة، والنبضة في كلمة، والكلمة في نبرة، والنبرة في معنى، والمعنى في وزن يتواتر كالبرق، خفيفًا، رشيقًا، مطواعًا للفكر. هي الحياة في شعره: تحكي، تفرح، تبكي، تتألّم، تصفّق وتطير في سياق «مبسّط» لا بسيط. فلا إسراف لغوي، ولا تضخيم بلاغي، ولا صخب غنائي، ولا قوافٍ منمّقة، ولا احتفالات إيمائية، ولا مراعاة لتقنية بحور الشعر. إنها ترجمة للمشاعر فحسب، تسوقها مفردات «مخربطة المعاني» تنادي بعضها، تتوالى في سلاسة استثنائية على إيقاع السهولة المستحيلة، لتجعل من شعره الشعر الأصعب: «البراعة أن تُوصِل الفكرة بسهولة ويشعر المتلقّي ببساطتها».

ما أجملو لون التلج بالفيّ

ما أجملو لابس طقم أبيض حلو

وأول ما تضحكلو الشمس شويّ

«بيدوب»، وبيرجع لــ أصلو ميّ

وبيقول عن طقمو الأبيض مش إلو!

يعيد الشحرور إنتاج صور الطبيعة، كأنّ ثمّة مدًى ثريًّا تحت قشرة عناصرها، يكوّن الشرارة التي تضرم أمامه مساحات البياض، ويضع مخيّلته في منظور التجاوز الدائم، في ما تختزنه من صور:

قلّلو البرق للرعد «عيّط بعد! صعبة ينام الواحد بها الجو»

«مش وحدك النعسان» قلّلو الرعد

«بِسكت أنا ع شرط تطفي الضوّ»

 

الصابون لو كان عندو عيون،

قولك عيونو كيف بيكونو؟

صوبَنت وجّي دمّع الصابون،

تخمين حزني فات بعيونو.

المهارة هنا ليست على مستوى ترجمة الحدث إلى لغة، إنما على مستوى ترجمة الخيال إلى فيض مدهش من التعابير الجديدة التي تؤكّد ابتكارات الشحرور ومداها، وتجسّد ما قاله نوفاليس* «لا بدّ للعالم من العودة إلى الخيال فمعه يكتشف معناه الأصلي ثانية».

شعرية الشحرور مجرّة تلاوين، ومختصر كوكبة من الانفعالات تعصف في كل الاتّجاهات، راسمة الصورة، كاسرة الرتابة، ملتحمة بالوجدان، مانحة للموت حزنًا راقيًا جميلًا، كثيف العذوبة وبعيدًا عن الانتحاب:

إمي الّلي توعى بعد ما ينامو الكِلّ

تا الضَوّ تطفي بالأُوَض كِلاّ

مين اللّي قلّلو وقت ما حبّت تفِلّ

يطفي وراها هالدني... الله

«الشعر يولد من الوجع الممتد بعد صدمة الغياب، ومن الجرح الذي لا يلتئم» يقول الشحرور.

بذكر يا بيّي قبل ما فلّيت وصدرك سكاكين الوجع عم تِدبحو

ع الباب كلما بــ سعلتك دقّيت يتسابقو العِينين حتى يِفتحو

مبارح رِحت ع أوضتك طليّت بعدو دَوَا السّعلِه الأصفر مطرحو

كانت عم تشتّي الدني بالبيت وتحت الشّتي وردات صوتك فتّحو

كانت عم تشتّي الدني بالبيت من وين جايي هالشّتي.. وبرّا صحو؟

لا رموز، ولا رمزية في شعر الشحرور، بل رؤى مجنّحة، معطوفة على معاناة، لا يتبيّن فيها الحدّ الذي يفصل بين الحزن والمرح، وبين الشفافية والكثافة:

بلبس إذا بردان، شو ما كان،

بخزانتي، في تياب حرزانه.

وصعبه إذا قلبي بقِي بردان،

طال الدفا عن رفّ لِخزاني.

مش شايف بعمري قلب دِفيان،

إلا إذا لابس ... قلب تاني.

 

فيروز... قرينة الخيال المُشعّ

إضافة إلى الأشعار التي صاغها لـ «فيروز»، تتداخل عناوين الأغنيات التي صدح بها صوتها، وتمتزج في الكثير من نصوصه الشعرية. وكأن صوتها يتكامل، ويتقطّر تماثلًا مع الصور التي تتدفّق داخل الروح، أو كأنّه يذكّي توقه إلى النقاء، ويمنح شعره الحرية التي يقتضيها الشعر. وإذ يقرن اسمها وأغنياتها بأشعاره، فإنّه يتجاوز ظاهر صوتها إلى ما يضمره هذا الصوت المفتوح على إلهامات روحية تلامس تكوينه الوجداني، فينسكب واللّغة الشعرية في سياق واحد. وها هو يقول:

الله بيكتب شعر؟ إي بيجوز

حابب بسابع يوم، يتسلّى

باعت صبيّي إسمها فيروز

قالو عم تغنّي شعر الله

بين الواقعية والذاتية، وبين التعامل مع الذكريات والمشاهد والعاطفة، يحمل شعر إبراهيم شحرور هوية «شحرورية الهوى».

 

 

مصادر:

- برنامج «نقطة فاصلة» تلفزيون OTV، مع حبيب يونس.

- برنامج «شبابيك مفتوحة»، تلفزيون الجديد – مع لوركا سبيتي.

 

هوامش:

- غاستون باشلار، فيلسوف فرنسي (1962 – 1884). تسعى فلسفته في الخيال إلى «القوة العميقة ذاتها» التي تُعدّ الإرادة البشرية والخيال أبرز تفرعاتها.

- فريديرك نوفاليس، فيلسوف وشاعر وكاتب ألماني (1772 – 1801) من شعراء بداية عصر الرومانسية.