إتفاق الطائف: عناوين الوحدة الوطنية والتحديث

إتفاق الطائف: عناوين الوحدة الوطنية والتحديث
إعداد: الدكتور شفيق المصري
أستاذ القانون الدولي المحاضر في الجامعتين اللبنانية والأميركية

تنقسم وثيقة الوفاق الوطني أو ما تعرف عادةَ بـ «اتفاق الطائف» بوجوه عديدة ومتكاملة من الأهمية. ولا يزال هذا الاتفاق، على الرغم من مرور بضعة عشر عامًا، يشكّل المرجعية الأولى لاستقرار الوطن وبناء الدولة وتثبيت وحدة المواطنين.

ولعلّ أهمية اتفاق الطائف تتمثّل، من بين وجوه عديدة، بالقيمة القانونية الاقليمية والدولية التي حظي بها الاتفاق كوثيقة أساسية، وبالمضمون الميثاقي الأساس من جهة والتنظيمي الدستوري من جهة ثانية وبالبنود أو على الأقل العناوين الانمائية من جهة ثالثة.

أوّلاً:   إتفاق الطائف في قيمته القانونية

حظيت هذه الوثيقة بوجهيها القانوني والسياسي بدعم إقليمي ودولي بارز إستطاع، منذ البدء، أن يحصّنها ويكفل استقرارها واستمرارها. فهي لم تعكس إجماعًا برلمانيًا لبنانيًا وحسب وإنما جاءت نتيجة مناخ إقليمي ودولي مؤاتٍ من دون أية مواجهات إقليمية حادة. وإذا كان من المعروف، تاريخيًا، أن الساحة اللبنانية تتأثّر سلبًا أم إيجابًا بالتطوّرات أو الأزمات الاقليمية المتأثّرة بدورها بالتجاذبات الدولية، فإن وثيقة الطائف عبّرت عن هذا المناخ التوافقي العام. ولعلّ هذا المناخ المؤاتي سهّل صياغتها وإقرارها ووّفر لها الدعم العربي والدولي المناسبين.

وبذلك شكّل اتفاق الطائف الإطار السياسي والقانوني الذي تعهّدته اللجنة الثلاثية العربية (المغرب والجزائر والسعودية) ووافقت عليه الدول العربية الأخرى كافة في مناسبات عديدة منفردة أو مجتمعة.

وبذلك أيضًا أقرّ مضمونه مجلس الأمن الدولي في بيانيه المؤرّخين في 7/11/1989 و 22/11/1989، واللذين أكّد فيهما دعمه لبنود هذا الاتفاق كافة الذي نجح في «تسوية للأزمة اللبنانية بكلّ جوانبها مع ضمان سيادة لبنان الكاملة واستقلاله وسلامة أراضيه والوحدة الوطنية فيه». وحرص مجلس الأمن كذلك على التأكيد أن اتفاق الطائف «هو الدعم الأساسي والضمان لحرية واستقلال ووحدة لبنان». كذلك حظيَ اتفاق الطائف بموافقة ودعم المجلس الأوروبي المعلن (في 9/12/1989) والذي كرّر تأكيده على تشبثه باتفاق الطائف وعبّر «عن اقتناعه بعدم وجود بديل وذلك في الظروف الحالية للعملية التي يرتئيها الاتفاق من أجل تحقيق الوفاق الوطني والسلام».

أما على المستوى اللبناني فتجدر الإشارة إلى:

  • إن المجلس النيابي اللبناني صدّق، في جلسته المنعقدة في 5/11/1989، على هذا الاتفاق – وثيقة الوفاق الوطني- من دون أي تحفّظ ولا استثناء. وهذا يعني أن الاتفاق بكامله (أي حتى البنود التي لم تدخل في الدستور) يكتسب صفة قانونية ملزمة.
  • وإن القسم الأكبر من هذا الاتفاق دخل في سياق التعديلات التي تناولت الدستور اللبناني إعتبارًا من 21/9/1990. وبالتالي أصبح من جملة المواد الدستورية الملزمة.
  • وإن الدستور اللبناني حرص في مقدّمته على تكريس القوة الدستورية لهذا الاتفاق عندما أكّد أن «لا شرعية لأية سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك». وعلى الرغم من أن هذا النص قد يصبح مثار جدل قانوني حول من يحكم وجود هذا التناقض وإلى أي مدى يمكن أن يصل ... على الرغم من ذلك، فإنّ الأهمية الدستورية لهذا الاتفاق تبقى قائمة ومحفوظة.
  • وإن سائر الخطب الرئاسية والبيانات الوزارية والتصريحات الرسمية الأخرى ما فتئت تؤكّد على ضرورة التشبّث بهذا الاتفاق واحترام نصوصه وتفعيل مواده الدستورية كافةً.

 

ثانيًا:  إتفاق الطائف في سياق الأسس الميثاقية

الأسس الميثاقية للبنان تنطلق من تجارب تاريخية أثبتت صدقيتها في ضمان استمرار هذا البلد واستقراره، كما حصّنته في مواجهة التحديات الداخلية والاقليمية والدولية الطاغية.

ولعلّ أهم الدروس التي يمكن أن يستخلصها أي قارئ واعٍ لتاريخ لبنان، ولا سيما بعد تواجد طوائفه المختلفة هي الآتية.

  • إن اللبنانيين الذين صمدوا في مواجهة بعض التحديات الخطيرة في الماضي إستندوا إلى عدد من التفاهمات المتمحورة حول حسن التقديم والتوقيت من جهة، وحول تحصين الصف الداخلي من جهة ثانية، وحول الأُطر القابلة للتعاطي والانعكاسات المرتقبة من جهة ثالثة.
  • وإذا كانت الاحداث المؤسفة التي مرّ بها لبنان قد غيّبت هذه المواثيق أو أغفلتها فلعلّ ذلك عائد إلى جهل أو تجاهل لتاريخ هذا البلد أو أنه عائد إلى معاندة غير مضمونة لسياق هذا التاريخ.
  • وبذلك فإن أي اتفاق يقصّر عن صوابية ما سبقه من مواثيق وعهود لا يستحقّ أن يعتبر من أركان هذه الأسس الميثاقية.

ولعلّ هذا التقديم يدفعنا إلى استحضار الميثاق الوطني العائد للعام 1943. فقد حُكي الكثير عن هذا الميثاق ونُسجت بصدده التأويلات والشروح المختلفة؛ وكُتب حوله ما شكّل بداية شبه إيديولوجية. ولم يكن في انتشار هذه الإيديولوجية أي ضير إلا أنها لم تستند إلى المرجعية التاريخية السليمة في هذا الإطار. فالواقع أن مرجعية الميثاق الوطني للعام 1943 تمثّلت في البيان الوزاري الأول الذي صدر في 8/11/1943 وقُدّم إلى المجلس النيابي اللبناني كـ «وثيقة استقلال» كما أسماها رياض الصلح، «لا كفاتورة حساب». وإذا أردنا أن نعرف الأطر العامة كافة  وحتى البنود التفصيلية التي تضّمنها هذا الميثاق يجب أن نعود إلى هذا البيان ونتّخذه مقياسًا لسائر الروايات والتفسيرات الأخرى. إلا أن ما حصل، مع الأسف، إن هذه الأخيرة طغت على جوهر هذا النص المكتوب الذي هو بالفعل الميثاق الوطني المكتوب والمقترن، حينذاك، بالاتجاهات والمواقف كافّة التي تمثّلت في المجلس النيابي.

والواقع أن هذا الانحراف أو التحريف أساء للانماء السياسي اللبناني مرّتين: مِن قِبَل مَن تحمّس له على أساس اعتماد سلبيتين لبناء الدولة ومن ثم لتطبيق التوزيع الطائفي المعروف، ومِن قِبَل مَن انتقده واعترض على الأمرين معًا من دون البحث عن صدقية المرجعية.

ولو تسنّى للبنانيين التعّرف على هذه المرجعية المتمثّلة بالبيان الوزاري الأوّل أساسًا للميثاق الوطني الأول لكانت المتغيّرات المرتقبة قد أدّت إلى ارتقاء ما في الحياة السياسية اللبنانية سواء على مستواها السياسي العام أو على المستوى الرسمي الحكومي أيضًا.

والواقع أن اتفاق الطائف للعام 1989 جاء بعد حوالي نصف قرن على البيان الوزاري الأول يؤكّد على الأسس الميثاقية التي أوردها هذا الأخير أو يحدّد مفاصلها الأساسية. وعلى سبيل المثال لا الحصر:

  • إن لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية مستقلّة، وإن اللبنانيين لا يريدون بلدهم للاستعمار مقرًّا ولا ممرًّا.
  • إن الحكومة اللبنانية تعتبر الطائفية والاقليمية من أخطر عوامل التفرقة والبغضاء. والحكومة عازمة، خلال وقت قريب، على القضاء عليهما معًا.
  • إن لبنان يؤمن بسيادة شعبه على مقدراته كافة. وهذا الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة التي يمارسها عبر مؤسّساته الدستورية.
  • إن لبنان يؤمن بضرورة فصل السلطات واستقلال القضاء واعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة من خلال المجالس المحلية المنتخبة.
  • وهو يؤمن أيضًا بضرورة ترشيد المناهج التربوية وتعزيز وطنيّتها وتعميم التعليم الابتدائي ومراقبة المدارس الخاصة والكتاب المدرسي.
  • وهي مطالبة باعتماد قانون انتخاب ذي صدقية وطنية بحيث يتمثّل فيه الشعب اللبناني بفئاته ومناطقه وأجياله كافة.
  • ولم يغب عن الحكومة، في البيانين الأول 1943 والأخير 1989 أن تؤكّد التزامها الاصلاحات كافةً بعد إقرارها مبادئ الكفاءة للوظيفة العامة والكفالة للأمن الاجتماعي والكفاية لمستلزمات الحياة الكريمة.

وإلى جانب هذه البنود – الأسس التي وردت في وثيقتي الوفاق الوطني (1943 و 1989)، حرص اتفاق الطائف على بعض النقاط التي أتت بمثابة تأكيد وتحديد لبنود سبق أن تناولها الميثاق الوطني الأول ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

  • إن لبنان الذي عرّفه الميثاق الأول بأنه ذو وجه عربي ورد في اتفاق الطائف على أنه وطن نهائي لأبنائه كافة من دون تجزئة ولا تقسيم ولا توطين.
  • وإن ديمقراطيته البرلمانية تفترض الفصل بين السلطات وتعاونها كما تفترض استمرارية المؤسسات وحكم القانون.
  • إن المقدّمة الجديدة للدستور المعدّل بناءً على اتفاق الطائف تشكّل، في المبدأ على الأقل، إستكمالاً نوعيًا لهذه الأسس الميثاقية المرتكزة إلى عدد من الاعتبارات الضامنة ومنها:
  • التزام لبنان ميثاقيْ جامعة الدول العربية والأمم المتحدة. وهذا تأكيد لالتزام مقرّر منذ العام 1945.
  • التزام لبنان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وهذا أمر في غاية الأهمية للوطن والمواطن معًا بعد أن أصبح هذا الإعلان مادةً دستوريةً ملزمة.
  • أما الاقتصاد المعتمد فلم يخرج عن نطاقه الليبرالي المبني على المبادرة الفردية ومرونة التحرّك من دون أن يتحوّل ذلك إلى فوضى متفلّتة ولا إلى جمود متعّنت.

ولهذا السبب، ربما، حرص اتفاق الطائف والذي تبنّاه الدستور مجتزئًا على التأكيد على نهجين إثنين:

  • «الانماء المتوازن للمناطق ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا...»
  • و «العمل على تحقيق عدالة إجتماعية شاملة من خلال الاصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي».

ولكن ما تبقّى من اتفاق الطائف ولم يدخل في صلب الدستور بقي، بانتظار اعتماده دستوريًا، ذا قيمة سياسية كبيرة بقدر ما حظي الاتفاق ذاته من إجماع نيابي وسياسي في آن ً، وبقدر ما تعهّده اتفاق عربي عام، وبقدر ما أيّده دعم عالمي تمثّل بمجلس الأمن من جهة والمجلس الأوروبي من جهة ثانية، ولا ننسى هنا البند الدستوري الذي أكّد أن «لا شرعية لأية سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك».

 

ثالثًا: اتفاق الطائف في عناوين الوحدة الوطنية وتحديث الدولة

أسهم اتفاق الطائف في تقديم تعريف نهائي للبنان دخل في دستوره كما تقدّم. وهذا التعريف حسم نهائية الوطن اللبناني وسيادته ووحدته الاقليمية من جهة وعروبة هويته وانتمائه من جهة أخرى. وإذا جاز للبعض التساؤل عن طول الانتظار (أي نيّف وخمسين سنة) لكي يصار إلى اعتماد هذا التعريف، فإن السبب يعود إلى الثنائيات المتجاذبة والمتواصلة من دون حلّ إلى أن وضع لها الدستور اللبناني المعدّل وفقًا للطائف حدًّا حاسمًا ونهائيًا. وقد جاء هذا التعريف تطمينًا ملحوظًا للفريق اللبناني حول عروبة لبنان. كما جاء تطمينًا آخر حول نهائية وجوده وسيادته. وبذلك حسم هذا التعريف الدستوري عدّة أمور في آن واحد:

  • لم يعُد ثمة مجال، بعد الآن، إلى الحديث عن لبنان ذي وجه عربي وجسم متوسطي وجذور فينيقية وما إلى ذلك.
  • ولم يعُد ثمة مجال أيضًا إلى الحديث عن القطر اللبناني وفقًا لأية صيغة اندماجية وإنما عن الدولة العربية الملتزمة قضايا العرب الأساسية والفاعلة في إطار جامعة الدول العربية.

وطالما أن هذا التعريف بات مادةً دستوريةً ملزمة فإن كل نشاط أو اعتقاد أو موقف مغاير يجب أن يحاسب عليه صاحبه فردًا أو جماعةً أو حزبًا.

  • ولم يكتفِ هذا التعريف بالهوية والانتماء وإنما أكّد على الأُطر الديمغرافية أيضًا لأنه اعتبر أرض لبنان أرضًا واحدةً لكل اللبنانيين «فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين».

والواقع أن هذه الفقرة لم يكن لها أي داعٍ لولا ظروف الحرب التي عصفت بلبنان بدءًا من منتصف السبعينات من القرن الماضي  من جهة ولولا المشاريع التوطينية الخجولة أو الصريحة من جهة أخرى. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه العبارة «لا توطين» وردت أصلًا في اتفاق الطائف وتأكّدت، من ثم، في الدستور. ولا يخفى أن هذا الاتفاق إقترن بتأييدٍ عربي وأوروبي ودولي عام. وليس من شك في أن مثل هذا التأييد العلني الجامع يشكّل اعترافًا بحق لبنان في رفض التوطين.

واستكمالًا لمهمّة توثيق الوحدة الوطنية وتمكينًا من إعادة التركيبة التاريخية الديمغرافية إلى أصولها العريقة، طالب  الطائف، بقدر ما استوجبته مآسي التهجير، «بحلّ مشكلة المهجّرين اللبنانيين جذريًا وإقرار حق كل مهجّر لبناني منذ العام 1975 بالعودة إلى المكان الذي هُجّر منه...»

والمعروف أن هذا البند يشكّل المفتاح الرئيس لتوثيق هذه الوحدة وتمتين دعائمها.

وقد أكّد اتفاق الطائف على أن قانون الانتخاب الجديد «يجب أن يراعي القواعد التي تضمن العيش المشترك بين اللبنانيين ويؤمّن صحة التمثيل السياسي لشتّى فئات الشعب وأجياله وفعالية ذلك التمثيل...».

والمعروف هنا أن كلمة «أجياله» تعني ضرورة خفض سن الاقتراع إلى 18 سنة وبالتالي تعديل المادة 21 من الدستور اللبناني والتي تفرض اكتمال الحادية والعشرين من العمر لممارسة الحقوق السياسية.

ويندرج هذا البند، في إطار حقوق الإنسان بالأساس لأن حقّ الاقتراع يشكّل صيغة من صيَغ حريّة التعبير الواردة في المادة 21 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي بات مادّة دستورية ملزمة على الصعيد اللبناني. هذا مع العلم أن سن الرشد القانوني يستحقّ مع بلوغ الشخص ثماني عشرة سنة، ولا يجوز لذلك تأخير سن الرشد الانتخابي إلى الحادية والعشرين.

وحرص اتفاق الطائف على أن «الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسّسات الدستورية». ويندرج هذا البند، في الواقع، في الإطار الذي حدّده القانون الدولي أصلًا. فالمادة 21 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنصّ في فقرتها الثالثة على أن «إرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم، ويجب أن تتجلّى هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجري دوريًا بالاقتراع العام».

ولا بد هنا من مواجهة السؤال المحوري: هل كان مفهوم «الشعب» الذي ورد في اتفاق الطائف منسجمًا في إطاره العام مع مفهوم الشعب الذي ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟؟... الواقع إن هذا المفهوم الذي ورد في الاتفاق الطائف يشمل أبناء المذاهب المختلفة في لبنان. ذلك لأن قوانين الانتخابات فيه تحفظ المقاعد النيابية للطوائف المعترف بها دستوريًا. وهذا يعني أن الاتفاق العام يسعى إلى الإقرار بحقوق هذه الطوائف في إطار وطني جامع. إلا أنّ اتفاق الطائف نفسه لحظ إمكان نشوء مجلس نيابي لا يستند إلى أي توزيع طائفي في المستقبل. وإذا أتيح لهذا المجلس أن يصبح ذا تمثيل شعبي – موضوعي، يصبح الأمر مختلفًا عندئذٍ؛ كما يعود الشعب اللبناني (وليس طوائفه النسبية) مصدر السلطات وصاحب السيادة.

وحرصًا من اتفاق الطائف على تحصين الوحدة الوطنية بين اللبنانيين أكّد أنه «لا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين». وقد قصدت هذه الفقرة، بالإضافة إلى تمتين أواصر الوحدة الوطنية، أن يصبح رفض التوطين مادة دستورية ملزمة. وبما أن اتفاق الطائف حظي بهذا التأييد العربي والدولي الشامل من دون أي تحفّظ، تأتي هذه العبارة «لا توطين» في سياق إجماع لبناني وعربي ودولي.

والواقع أن أهميّة اتفاق الطائف لا تقتصر على تعزيز الوحدة الوطنية وحسب وإنما تتناول الشقّ الثاني الذي لا يقلّ ضرورة وشأنًا وهو المتعلّق بتحديث الدولة اللبنانية وإن كان ذلك قد ورد على سبيل العناوين ولم يدخل في التفاصيل كافة.

ومن وجوه هذا التحديث الذي ركّز عليه اتفاق الطائف:

  • إنشاء مؤسّسات جديدة بالإضافة إلى التركيز على جعل السلطات الدستورية القائمة في أُطر مؤسّسية واضحة ومحدّدة. ومن هذه المؤسّسات الجديدة كان المجلس الدستوري والمجلس الاقتصادي والاجتماعي وإمكان اعتماد مجلس الشيوخ في المستقبل.
  • إعتماد أسس جديدة في التوجّه الدستوري العام بحيث تطرّق إلى التركيز على التعريف الاقتصادي والاجتماعي للديمقراطية لأنه نادى بالعدالة الاجتماعية وبالإنماء المتوازن طريقًا لها، كما أصرّ على وجوب إجراء إصلاح اقتصادي ومالي واجتماعي.
  • ولا يمكن إغفال الآلية التي اعتمدها  في إلغاء الطائفية السياسية (المادة 95 من الدستور).

أما بالنسبة إلى الآفاق المستقبلية، حرص الدستور اللبناني على التزام ميثاقيْ الجامعة العربية وهيئة الأمم المتحدة وكذلك أكّد التزامه أحكام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كافّة وحرص على أن «تجسّد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقول والمجالات دون استثناء». وبمقتضى هذا الالتزام الدستوري بات لكلّ مواطن لبناني الحقّ في التمتّع بالبنود كافّة التي أوردها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: الجسدية والمدنية والسياسية. فالمواطن اللبناني (وحتّى الأجنبي المقيم في لبنان بالنسبة إلى بعض هذه الحقوق) يستفيد اليوم من هذه الحقوق كافّة وإن كان الدستور الأساس قد اعترف له ببعضها منذ صدوره العام 1926.

ومما لا شكّ فيه أيضًا أن هذا الإعلان العالمي الذي بات يشكّل، في لبنان، مادّة دستورية ملزمة، يمكن اعتماده مرشدًا أساسيًا – قانونيًا ملزمًا لوجوه التحديث كافّة المتوافرة أو التي ستتوافر في المستقبل.

كذلك أورد اتفاق الطائف – الدستور مجالات استشراقية أخرى تتمثّل بإلغاء الطائفية السياسية وبالإنماء المتوازن للمناطق ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا. كما اعتبر إلغاء الطائفية هدفًا وطنيًا أساسيًا والإنماء المتوازن ركنًا من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام.

ومن المتفق عليه مبدئيًا أن هذه البنود الاستشراقية التي حرص اتفاق الطائف على توكيدها، كانت ولا تزال تشكّل الأُطر بل الأركان الأساسية لتحديث الدولة. فهي التي تُخرج الدولة من فدرالية الطوائف إلى رحاب المواطنية الواعية، ولبنان من صيغة «الدولة – المدينة» إلى دولة التحديث المتكامل. أما مسألة الامتناع عن تطبيق هذا الاتفاق – الدستور والتخلّف المقصود أو غير المقصود عن تحقيق هذه البنود الاستشراقية فلا علاقة لها بالاتفاق ذاته، مع أن هذا الأمر يشكّل خرقًا متواصلًا لأحكام الدستور اللبناني ذاته ويستتبع المساءلة القانونية من دون أي تردّد.

أما بالنسبة إلى التوجّهات والمؤسّسات التحديثية، فإن الدستور اللبناني أشار بصراحة إلى أُطرها العامة من جهة وإلى مؤسّساتها الدستورية من جهة أخرى. وإذا كان هذا البحث يقتصر على الأُطر التحديثية وحسب على أن يعقبه بحث آخر في المؤسّسات وصلاحيّاتها فإن أهمّ هذه الأُطر التحديثية التي أوردها الاتفاق – الدستور هي:

1- ما ورد في أن «لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل».  

والواقع أن الدستور أكّد، في بنود أخرى، على المساواة بين المواطنين وعلى اعتماد قاعدة الكفاءة والاستحقاق... إلخ.

إلا أن المهم في هذه الفقرة أنها أكّدت على النظام الجمهوري الديمقراطي البرلماني الذي يتسم بمواصفات دستورية تحديثية معروفة. أما المزيّة الثانية الهامة فهي التي تركّز على «العدالة الاجتماعية» التي سنشير إليها في سياق آخر.

وعلى الرغم من أن هذه المساواة المفترضة بين المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم المذهبية غير متوافرة حاليًا بسبب التوزيع الطائفي السياسي والإداري الراهن، فإن اتفاق الطائف – الدستور قد لحظ وجوب إلغاء الطائفية السياسية على أن يصار، مع تحقيق ذلك، إلى تطبيق مبدأ المساواة التامّة بين المواطنين.

وعلى هذا الأساس لا يصحّ انتقاد الطائف لأنه يناقض الأمر الواقع خصوصًا أن هذا الاتفاق لحظ إمكان التحرّر من هذا الأمر الواقع.

وعلى هذا الأساس أيضًا لا يصحّ القول أن اتفاق الطائف كرّس الطائفية بدلًا من أن يلغيها. فالمناصفة في المجلس النيابي وفي وظائف الفئة الأولى أتت بمثابة تطمين لكلّ الطوائف التي تشعر بالغبن من جهة وبالتوجّس من المستقبل من جهة أخرى. والأهم من ذلك أن إجراء المناصفة أتى على سبيل الترتيب المؤقّت بانتظار تحقيق بنود الاتفاق – الدستور كافة بما فيها البند المطالب بإلغاء الطائفية السياسية.

2- أما الأُطر الأخرى التأسيسية التي لحظها الاتفاق – الدستور فتتمثّل بالاجراءات والصلاحيات والهيئات الدستورية الجديدة ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

- تأطير النشاطات الدستورية بحيث اعتمد صراحة مبدأ فصل السلطات من جهة وإناطة السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء من ناحية أخرى. ولعلّ في ذلك مؤشّرًا بارزًا على فكرة التحديث من أجل تحقيق «دولة الحقّ والمؤسّسات» وإقرار الاستقرار الدستوري والحصانات المطلوبة والمسؤوليات الموضوعية.

- إعتماد النظام الاقتصادي الحرّ الذي كفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة من دون أن يغفل دور الدولة الانمائي والرعائي المطلوب.

والواقع أن هذا العنوان التحديثي قابل للتطوّر والتنويع بحيث ينسجم مع المتطلّبات الدولية للاقتصاد الجديد والشروط المطلوبة للشراكة الأورو متوسّطية من جهة وللانضمام إلى منظّمة التجارة الدولية من جهة ثانية. كذلك يمكن لهذا «النظام الاقتصادي الحر» أن لا يحول دون الإنماء المتوازن والعدالة الاجتماعية من جهة ثالثة. ولا يجوز هنا إغفال المادة 15 مثلًا من الدستور والتي تعتبر الملكية في حمى القانون والتي يمكن نزعها لأسباب المنفعة العامة فقط.

  • تشكيل بعض المجالس والهيئات التي تجسّد الضوابط الديمقراطية الحديثة للوظائف الدستورية ومنها المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء الذي جاء في هيكليته وصلاحيته ممثّلًا لسيادة المجلس النيابي بصفته الممثّل الأصيل للشعب اللبناني.

ولحظ الدستور أيضًا (نقلًا عن اتفاق الطائف) تشكيل المجلس الدستوري الذي ينظر بدستورية القوانين والبثّ في الطعون المتعلّقة بالانتخابات الرئاسية والنيابية. والمعروف أن هذا المجلس يشكّل ليس الوجه التحديثي الضروري للنظام اللبناني وحسب وإنما أيضًا الضمانة الديمقراطية للاستقرار أو السمو الدستوري.

ولحظ الاتفاق – الدستور كذلك إنشاء مجلس للشيوخ يتولّى القضايا المصيرية للوطن ويترافق مع انتخاب أوّل مجلس نيابي غير طائفي.

 

رابعًا:  العناوين التي لحظها اتفاق الطائف ولم تدخل في الدستور

من الواضح أن البنود التي لحظها اتفاق الطائف ودخلت في الدستور مع تعديله العام 1990 أصبحت مادة دستورية ملزمة تتمتّع بمرجعية دستورية سامية. أما البنود الأخرى التي لم يعتمدها الدستور (لأسباب مختلفة) فإنها ذات صفة قانونية عامة لأن المجلس النيابي اللبناني أقّرها في 5/11/1989 ولأن الدستور اللبناني ذاته يؤكّد أن «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك» ولأن بعض الهيئات التي اقترحها اتفاق الطائف إنتقلت إلى حيّز التنفيذ كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي.

والواقع أن هذه البنود من اتفاق الطائف والتي لم يعتمدها الدستور في سياق تعديلاته للعام 1990 تشكّل أهمية بارزة في عناوين الوحدة والتحديث:

1) الوحدة الوطنية:

أ- أكّد اتفاق الطائف على أن قانون الانتخاب الجديد «يجب أن يراعي القواعد التي تضمن العيش المشترك بين اللبنانيين ويؤمّن صحة التمثيل السياسي لشتّى فئات الشعب وأجياله وفعالية ذلك التمثيل، بعد إعادة النظر في التقسيم الإداري في إطار وحدة الأرض والشعب والمؤسّسات».

والمعروف أن الدستور لا يتضمّن أي قانون للانتخاب مع التفاصيل والتوزيعات المتعلّقة به لأنه يترك ذلك لقانون خاص بالانتخابات. ولكن الإشكال المتعلّق بهذا الإطار يتمثّل في حرص اتفاق الطائف على أن يراعي هذا القانون المطلوب تمثيل شتّى فئات الشعب و «أجياله». وكلمة أجياله هنا تشير إلى خفض سن الاقتراع إلى الثمانية عشرة. ولكن المادة 21 من الدستور تشترط اكتمال الحادية والعشرين لكل مواطن لكي يكون ناخبًا. وهذه المادة لم تعدّل في العام 1990 بناءً على اتفاق الطائف. وبذلك فإن تطبيق هذا الاتفاق لجهة صدقية التمثيل السياسي المطلوب لا يصبح ممكنًا إلا بتعديل هذه المادة الدستورية التي لم تُمّس منذ العام 1926.

ب- وحرص اتفاق الطائف على اقتراح الآلية المطلوبة لإلغاء الطائفية السياسية مع أنه لم يحدّد فترة زمنية لتشكيل هذه الآلية «أي الهيئة الوطنية [الاستشارية] لإلغاء الطائفية السياسية». وممّا لا شكّ فيه أن إلغاء الطائفية السياسية يشكّل الدعامة الأولى والأساسية للوحدة الوطنية وتنقل اللبناني من تبعيّته الطائفية الراهنة إلى رحاب مواطنيته المنفتحة الواثقة. والواقع أن الدستور تبنّى هذا البند بكامله في المادة 95 منه ولكنه، بعد مرور خمسة عشر عامًا على تعديل الدستور، لم يعمد المسؤولون إلى تشكيل هذه الهيئة الوطنية المطلوبة، الأمر الذي يمكن اعتباره تقاعسًا في تطبيق الدستور ذاته من دون أي مبرّر.

ج- وورد في اتفاق الطائف أيضًا بنود جريئة تتعلّق بالتربية والتعليم وذلك من أجل «الانتماء والانصهار الوطنيين». ومن هذه البنود «تعزيز رقابة الدولة على المدارس الخاصة وعلى الكتاب المدرسي». إلا أن هذا البند مع بعض النصوص الأخرى المتعلّقة به لم يدخل إلى الدستور اللبناني وبقيت بذلك المادة العاشرة منه محصّنة لم يمسّها أي تعديل منذ العام 1926. وهذه المادة تكرّس «حقوق الطوائف» في إنشاء مدارسها واعتماد معظم الصلاحيات العائدة إليها.

كما ورد في اتفاق الطائف أيضًا ضرورة إصلاح أوضاع الجامعة اللبنانية وتقديم الدعم لها وبخاصة في كلياتها التطبيقية. إلاّ أن هذا الطلب لم يقترن بأية نتيجة إيجابية. ولعلّ أوضاع الجامعة اللبنانية، بعد الطائف، إزدادت سوءًا وتقهقرًا مع أنها الجامعة الوطنية التي تشكّل البوتقة الثقافية الموحّدة لعشرات الآلاف من الطلاّب المتعدّدي المناطق والمذاهب.

د- أما مسألة «إلغاء الطائفة والمذهب في بطاقة الهوية» فهي ذات مردود وطني جيد. وقد حرص اتفاق الطائف على ذكرها لكي تكون منسجمة مع البند المندرج في إلغاء الطائفية السياسية وتعزيز الوحدة الوطنية. إلاّ أن هذا الطلب اصطدم في الواقع بإصرار بعض الدوائر الرسمية على وجوب تقديم «إخراج القيد» الذي لا يزال يشير إلى الطائفة والمذهب لصاحب العلاقة. وبذلك لم ينتج هذا البند الأثر الإيجابي المطلوب لأنه يتناقض مع الوثيقة الأخرى التي تعتبرها الدوائر الحكومية أكثر واقعية وأوفى تفصيلًا.

2) التحديث

أ- أعتبر اتفاق الطائف أن التقسيم الإداري في لبنان يؤمّن في المبدأ الانصهار الوطني ويضمن الحفاظ على العيش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسّسات. ولهذا طالب الاتفاق بالإبقاء على سلطة مركزية قوية مع توسيع صلاحيات المحافظين والقائمقامين واعتماد اللامركزية الادارية الموسّعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى.

ولكن الحكومة اللبنانية لم تستطع لغاية الساعة أن تعتمد أي قانون يراعي هذا التقسيم المطلوب والجامع بين اللاحصرية (في صلاحية المحافظين) واللامركزية (في انتخاب مجالس أقضية). ولكي لا يصار إلى استغلال مثل هذا الوضع توسّعًا وانقسامًا حرص الاتفاق على أن تكون هذه اللامركزية إدارية بحتة من دون أن تتوسّع إلى أي نطاق آخر. والواقع أن هذا البند الإصلاحي الأساسي ينعكس إيجابًا على تحديث الإدارة العامة من جهة، وعلى اعتماد قانون انتخاب أكثر تمثيلًا من جهة ثانية، وعلى تنفيذ سياسة إنمائية متوازنة من جهة ثالثة.

ب- وكان اهتمام اتفاق الطائف بإنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي للتنمية أمرًا حيويًا جدًا من أجل استكمال تعريف الديمقراطية في وجهها الاجتماعي والاقتصادي ومن دون الاكتفاء بالوجه السياسي فقط.

ومع أن اتفاق الطائف لم يعطِ أصلًا لهذا المجلس سوى الحق في «تقديم المشورة والاقتراحات»، لكي لا يقيّد الحق الكامل للمجلس النيابي في التشريع، فإن هذا المجلس – كمشروع – لم يُعتمد في الدستور مع أنه تشكّل بالفعل بموجب القانون 389 الذي صدر في 12/1/1995 أي بعد مرور ست سنوات على اتفاق الطائف. ثم انتظر المرسوم التنظيمي المتعلّق به خمس سنوات أخرى (أي في العام 2000) على صدوره.

والواقع أن هذا المجلس الذي يمكن أن يشكّل إطارًا تحديثيًا بارزًا في أداء الحكومة الاجتماعي والاقتصادي، لم يقم لغاية الساعة بأي إنجاز يُذكر بسبب الإطار القانوني الضيّق الذي حدّد صلاحياته وبسبب إغراقه في المساومات السياسية التي قضت أصلًا على كلّ محاولة لتفعيله كما كان ذلك مفروضًا في إطار التشريع الاجتماعي – الاقتصادي والمنجزات الموعودة في أدائه.

ج- طالب اتفاق الطائف بـ «العمل على تحقيق عدالة إجتماعية شاملة من خلال الاصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي». ولكن هذا البند المتعلّق بعناوين الوحدة والتحديث معًا لم ينتقل إلى الدستور، على الرغم من أهميّته البالغة. فالعدالة الاجتماعية ضمان لدور الدولة الرعائي الذي يشمل المواطنين كلهم في المناطق كلها . وهي مفتاح للتنمية والتحديث. وهي منطلق للإصلاح على مستوياته كافّة. ومع أن الدستور تبّنى بند «الانماء المتوازن للمناطق ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا واعتبر ركنًا أساسيًا من أركان «وحدة الدولة واستقرار النظام»، فإن هذا الانماء المتوازن لا يختصر العدالة الاجتماعية المطلوبة، فيما تشمل هذه العدالة ضرورة الانماء المتوازن للمناطق. فمفهوم العدالة الاجتماعية يرّتب على الدولة مهام أوسع نطاقًا وأكثر رعاية وأعمق تركيزًا. العدالة الاجتماعية سمة مرافقة للدولة الراعية وملازمة لمهامها الاصلاحية على كل صعيد. ولهذا السبب، ربما، لم يشأ الدستور اللبناني الالتزام بهذا البند الهام خشية أن يتعارض مع «النظام الاقتصادي الحر» من جهة وأن يرّتب على الدولة مسؤولية «الاصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي». وفي الوقت الذي يمكن تحقيق «الانماء المتوازن للمناطق» من خلال الموازنة العامة ومخصّصاتها للمناطق يبقى النظام المالي والاقتصادي والاجتماعي الراهن قائمًا بكل مساوئه أو نواقصه المعروفة.

والواقع أن اتفاق الطائف أشار في بعض بنوده إلى «اعتماد خطّة إنمائية موحّدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصاديًا واجتماعيًا، وتعزيز موارد البلديات والبلديات الموحّدة والاتحادات البلدية بالإمكانيات المالية اللازمة». وهذا البند يمهّد لهدف العدالة الاجتماعية من جهة ويقدّم تفصيلًا لبند الإنماء المتوازن من جهة أخرى.

والواقع أيضًا أن ثمّة دولًا كثيرة في العالم تعتمد النظام الاقتصادي الحر ولكنها، في الوقت ذاته، لا تتخلّى عن رسالتها في تحقيق العدالة الاجتماعية لمواطنيها في الوسائل كافّة التي تضمن لهم تكافؤ الفرص والضمانات الاجتماعية المتعدّدة والتساوي المجزي في الحقوق والواجبات.

وفي الخلاصة لا بد من بعض الدروس – الاستنتاجات التي فرضتها أحداث ما بعد الطائف خلال سبعة عشر عامًا:

أ- إن العبرة التي انطلقت منذ ما يزيد على نصف قرن من تاريخ هذا البلد «قدر اللبنانيين أن يتّفقوا» يمكن أن تتواصل تاريخًا بدءًا بتكوين لبنان الديمغرافي منذ القرن السابع الميلادي؛ كما يمكن لها أن تمتدّ مستقبلًا إلى ما شاء الله من مصير هذا الوطن. وعلى هذا الأساس لا بد من التركيز على هذا الاتفاق ولا سيّما في مبادئه العامة وعناوينه الرئيسة. وإذا كان لأيّ حوار أن يُعقد وينجح فلا بد من أن يكون الطائف بكامله (أي ما لم يدخل في الدستور بعد) قاعدة أساسية لهذا الحوار ومنطلقًا محوريًا لمناحيه كافّة.

ب- إن الطائف كوثيقة قانونية يتوزّع على عدّة فصول وتشعّبات. وإذا كان ثمّة آراء أو اجتهادات تقترح بعض التعديلات في هذه الفصول فهي لا تمّس ولا يجب أن تمّس الأُطر – المبادئ التي تضمّنها ولا سيّما في مقدّمة الدستور اللبناني. وعلى هذا فإن المطلوب من أيّ حوار مستقبلي أن يلتزم هذا الفصل المنهجي بحيث يؤكّد في إجماعه على هذه المبادئ من دون أي تحفّظ ولا تردّد.

ج- إن سوء تطبيق الطائف أو تحريف بعض بنوده أو إساءة فهم البعض الآخر أو إغفال المفاصل الأساسية له... هذه المحاولات كلها التي حصلت في السابق لا تؤثّر على صدقيته كوثيقة قانونية متكاملة. وإذا كان بعض المعنيّين يتعمّد إغفال بعض بنود الطائف لسبب أو لآخر بحجّة تعديل بعضها الآخر؛ فهذا التصرّف لا يضير الطائف ذاته شرط أن يُقرأ متكاملًا من دون انتقائية ولا محاباة.

د- ليس الطائف منزّهًا عن خطأ ولا معصومًا عن نقص ولكنه في سياق الأسس الميثاقية ضروري كركن من بناء الوطن في مبادئه ومن بناء الدولة في بنوده الاصلاحية الأخرى. وحتى إذا تسنى للبنانيين أن يجتمعوا في طائف رقم (2) فلا بدّ من أن يحتلّ طاولة حوارهم طائف رقم (1). ويصبح مدار التفاوض عند ذاك متمحورًا حول بعض محاولات التحديث في النصّ من دون الانقلاب عليه.

أما مسألة التفاصيل الأخرى فلا بد من الاتفاق بشأنها ولا بدّ حيال ذلك من الإقرار أن هذه الوثيقة تضمّنت عناوين وليس تفاصيل التحديث المطلوب على أكثر من صعيد.

 

مراجع متصلة بتوثيق البحث

I. بالعربية

  1. اسماعيل، عادل، في الحوار والحياة المشتركة بين الطوائف والاديان، 1996
  2. البستاني، اميل، الميثاق الوطني ولبنان المستقبل، 1958
  3. الحاج، كمال، فلسفة الميثاق الوطني
  4. الخازن، فريد، تفكيك اوصال الدولة في لبنان، 2002
  5. الخوري، بشارة، حقائق لبنانية، ج، 1961
  6. الدستور اللبناني (مجلس النواب)
  7. ربّاط، ادمون، الوسيط في القانون الدستوري 1970
  8. زيادة، بيار، التاريخ الدبلوماسي لاستقلال لبنان، 1969
  9. سالم، يوسف، 50 سنة مع الناس، 1975
  10.  سعادة، جورج، قصتي مع الطائف، 1998
  11.  شمعون، كميل، مذكراتي، ج1، 1969
  12.  ضاهر، مسعود، لبنان: الميثاق، الاستقلال والصيغة 1977
  13.  (مركز الحريري الثقافي)، لبنان في تاريخه وتراثه، 1993
  14.  المصري، شفيق، انعكاسات الميثاق الوطني على الانماء السياسي في لبنان (دراسة غير منشورة)
  15.  ملحة، جان، مجموعة البيانات الوزارية اللبنانية، 1965
  16.  منسى، بشارة، بين الطائف والطوائف، 1994
  17.  منصور، البير، الانقلاب على الطائف، 1993
  18.  قربان، ملحم، تاريخ لبنان السياسي الحديث، ج1، 1978
  19.  قربان، ملحم، تاريخ لبنان السياسي الحديث، ج2، 1980
  20.  وثيقة الوفاق الوطني (مجلس النواب)، 1990

 

 بالانكليزية:

  1. The constitution of Lebanon after the amendment of 1990, (Beirut Review, N1, 1990)
  2. El Masri, Samar, Power Sharing & Social Transformation, 2004. (unpublished)
  3. Harris, William, Faces of Lebanon 1986
  4. Maila, Joseph, Prospects for Lebanon 1992
  5. Khazen, Farid, The communal pact of National Identities.1991
  6. Khazen, Farid, The Breakdown of the state in Lebanon, 2000
  7. Krayem, Hasan, Lebanese civil war and the Taif Agreement in "Conflict Resolution in the Arab World , 1998"
  8. Salibi, Kamal, Modern History of Lebanon 1977
  9. Salibi, Kamal, Cross Roads to civil War, Lebanon 1976
  10. Salam, Nawaf, Taif Revisited in "Lebanon in Limbo", 2003

The Taef Agreement: National Unity and Update Headlines

The Taef agreement is the first reference to nation stability, state construction, and strengthening citizens’ unity. In the first part of the study, the author underlines the international, regional and local legal value of the Taef agreement patronized by the tripartite Arab Committee, and approved by the UN Security Council, in addition to the support of the European Council. The Charter is based on past experiences proved to be efficient in maintaining stability within the country. The researcher recovers knowledge of the 1943 National Charter that was manifested in the first ministerial report issued on 11/8/1943, and presented to the National Council as an Independence document. Then, the 1989 Taef Agreement changed some of the clauses of the 1943 Charter, and the Agreement was included in the Constitution that determined the nation’s finality, sovereignty, and regional unity on one hand, and its Arab identity and belonging on the other hand.    

The researcher also stressed on the clauses set forth by the Agreement to reinforce national unity and rethink the historical demography structure.   

The Agreement dealt with the headlines that were not adopted by the Constitution when amended in 1990; thus the Agreement confirmed that the new election law should abide by the rules that insure common living among Lebanese people and eliminate the political confessionalism. The reform indicates that the administrative division in Lebanon ensures national cohesion, and unity of the land, the people and the institutions.

Les Accords de Taef: Les Titres de l’Unité Nationale et de la Réforme

Les accords de Taef représentent la première référence pour la stabilité de la nation, la construction de l’Etat et l’unité des citoyens. Le chercheur étudie dans la première partie, la valeur légale des accords de Taef, au niveau local, régional et international, accords cautionnés par le comité tripartite arabe, approuvés par le Conseil de Sécurité des Nations Unies et appuyés par le Conseil Européen. La Chartre elle-même se fonde sur des expériences qui ont prouvé, à travers l’histoire, leur efficacité dans le maintien de la stabilité de ce pays. L’auteur évoque la Chartre Nationale de 1943, révélée dans le premier communiqué ministériel publié le 8/11/1943, et présentée au Conseil National en tant que document pour l’Indépendance. Les accords de Taef de 1989 ont par la suite modifié certaines clauses de la Chartre de 1943, et les ont introduites dans la Constitution qui a déterminé d’une part la finalité, la souveraineté et l’unité régionale de la nation libanaise, et d’autre part son identité et appartenance arabes.     

Le chercheur a aussi souligné les clauses des accords de Taef qui visent à promouvoir l’unité nationale et à repenser la structure démographique historique.

Les accords ont mentionné les titres qui n’ont pas été adoptés au cours des amendements de la Constitution en 1990, et ont confirmé que la nouvelle loi électorale devrait respecter les règles qui préservent la coexistence entre libanais et éliminent le confessionnalisme politique. La réforme indique que la division administrative au Liban garantit la cohésion nationale et l’unité du sol, du peuple et des institutions.