معرض

إرادة الصمود تتجلى بصورٍ فريدة
إعداد: ريما سليم

لكل مكان حكاياته ومساحته في الوجدان، وما يقوله مكان لإنسانٍ قد يقول نقيضه لإنسانٍ آخر، لكن ثمة أمكنة تحاكي الوجدان العام وتولّد فيه من المشاعر ما يجمع اللحمة ويصوغها  ويجعل التاريخ حاضرًا عبر ذاكرة جماعية تُنسج فيها آفاق المستقبل. فكيف بنا إذا كنا في مساحة كتلك التي اختارتها بعنايةٍ قيادة الجيش لتحتضن المعرض الذي نظّمته مديرية التوجيه تحت عنوان "إرادة الصمود"؟ في المساحة والعنوان رسالة إلى اللبنانيين كان لا بد منها في هذا الزمن الصعب. رسالة قوامها أنّنا باقون هنا، متمسكون بجذورنا، ثابتون في التزامنا، ومع إشراقة كل شمس نستمد من إرثنا الغني عطاء وعزة وتجارب، قدرة على صنع الصمود كفعل إرادة نمارسه بكل اقتناع واندفاع.

 

أمام نصب "أمل السلام" الذي يرمز إلى دفن أدوات الحرب الأهلية، وبالقرب من تمثال الأمير فخر الدين، الرمز الوطني، وعلى مسافة غير بعيدة من نصب الخالدين، رمز الصمود وبذل الذات، مساحة تحولت إلى معرض للصور العسكرية يتعانق فيها إرث الماضي وواقع الحاضر ليجسدا معًا مسيرة يليق بها عنوان "إرادة الصمود".
يهدف المعرض الذي أُقيم بمناسبة العيد الثامن والسبعين للجيش إلى استعادة تاريخ الجيش اللبناني في لقطات تروي مسيرته وتعكس التحديات التي واجهها وما زال يواجهها، بعزيمةٍ وإرادة وشجاعة منتصرًا على الأزمات، حافظًا وحدة الشعب وأمن الوطن.
وقد افتتح قائد الجيش العماد جوزاف عون هذا المعرض في حضور دولة رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، ووزير الداخلية والبلديات في الحكومة بسام المولوي، ورئيس لجنة الدفاع النيابية النائب جهاد الصمد والمنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان السيدة Joanna Wronecka، وقائد قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان - اليونيفيل اللواء Aroldo Lázaro وقادة الأجهزة الأمنية وشخصيات رسمية وممثلين عن منظمات دولية وملحقين عسكريين، إضافة إلى كبار ضباط الجيش واليونيفيل.
 

المكان والتاريخ والوطن
استهلّ الحفل بالنشيد الوطني اللبناني، تلته كلمة ترحيبية لمدير التوجيه العميد حسين غدار كلمة مقتضبة أشار فيها إلى رمزية المكان الذي يقام فيه المعرض، إن لجهة نصب السلام الذي يرمز إلى دفن وسائل الحرب الأهلية، أو نصب الخالدين الذي يدل على التضحيات الخالدة للجنود الشهداء على مدى تاريخ الجيش دفاعًا عن الوطن وأبنائه. وأوضح أنّ الصور المتاحة أمام الحضور تستعرض لمحات من حياة العسكريين خلال أداء الواجب، إضافة إلى مظاهر متنوعة من مهمات المؤسسة العسكرية ونشاطاتها الهادفة إلى حفظ أمن الوطن واستقراره.

 

الميزة الأقدس
أما قائد الجيش الذي رأى أنّ "إرادة الصمود" عنوان يختصر سنوات من التحديات واجهها الجيش بعزيمةٍ وإصرار، وإيمان وثبات، فقد شدد على أنّ "الإرادة هي أسمى ميزة لعناصرنا"، و"إرادة الصمود هي الميزة الأقدس لهؤلاء الأبطال، الذين تكسّرت أمامهم رياح الأزمات وتشعّب المهمات وحملات التجنّي والافتراءات. فقد واجه الجيش على مر السنين حروبًا عدة، وتعرّض للانقسام والتشرذم وسقط له الشهداء والجرحى، لكنّه عاد متماسكًا، مدافعًا عن لبنان وأهله، حافظًا للكيان والهوية".
 

لن أسمح...
ما قاله العماد عون يدركه القاصي والداني، لكنّه أراد في هذه المناسبة بالذات أن يرفع الصوت مجددًا مطالبًا بقراراتٍ وإجراءات استثنائية، تفرضها المرحلة ويقتضيها الحفاظ على صمود المؤسسة التي جعلت المستحيل ممكنًا لتحافظ على الوطن.
توقف في كلمته عند الأزمات المتلاحقة التي يشهدها وطننا، السياسية، المالية، الاجتماعية والأمنية والتي أدّت إلى تدهور معظم القطاعات وانحلال غالبية المؤسسات، معتبرًا أنّ "الأخطر هو هجرة خيرة شبابنا بسبب فقدان الثقة والأمل بوطنٍ طالما تغنّوا به أنّه الأنموذج ومنارة الشرق". وإذ أشار إلى أنّ هذه الأزمات طالت المؤسسات الأمنية أيضًا ومنها الجيش، مؤكدًا أنّ ما يواجه الجيش حاليًا هو أصعب من أي معركة عسكرية قد يخوضها. فتدهور الوضع الاقتصادي أدى إلى تدنّي قيمة الرواتب وفقدان قيمة العملة الوطنية، ما انعكس سلبًا على الوضع المعيشي لعسكريينا، في وقت يتطلّب الوضع الاستثنائي الحالي جهودًا مضاعفة للحفاظ على الأمن والاستقرار.
في المقابل، شدد العماد عون على أنّ معنويات عسكريينا كانت وما زالت الأساس، وصمودهم كان ما زال الأولوية، معلنًا أمام الملأ: "لم أسمح يومًا بالمسّ بمعنوياتهم ولا بمعيشتهم، ولن أسمح. كل الجهود تهون لأجلهم. هم الثابتون عند الحدود الجنوبية في مواجهة العدو الإسرائيلي وبالتعاون مع اليونيفيل. هم الرابضون عند أعالي التلال عند الحدود الشرقية والشمالية. هم المدافعون عن حدودنا البحرية والجوية. هم في كل مدينة وبلدة وشارع وجبل وسهل. هم في كل مكان، وعلى كل حبة تراب من أرضنا الغالية التي ارتوت بدماء رفاق لنا سبقونا على درب الشهادة".
وأكد أنّ العسكريين هم رجال الشرف والتضحية والوفاء "من دون حدود"، وحدودنا تقف عند الاستقرار لأنّه أولويتنا المطلقة. وقال: "يشهد وطننا بين الحين والآخر إشكالات ذات أوجه أمنية أو اجتماعية أو فردية، وتأخذ أحيانًا أبعادًا طائفية ومذهبية. قرارنا واضح وحاسم بمنع المس بالاستقرار والسلم الأهلي، مهما كانت التضحيات أو العواقب. نريد لشعبنا الذي يعاني أن ينعم أقلّه بالأمن والأمان وأن نرد عنه خطر الإرهاب والمخدرات. نريد للمغتربين والسيّاح أن يكونوا مطمئنين، لأنّ الجيش ساهر على الأمن".

 

سر ثباتنا
ما تعرّض له الجيش في السنوات الماضية وتحديدًا الأربع الأخيرة، يُعدّ الأصعب والأخطر، فما هو سر ثبات العسكريين وصمودهم؟ هذا السؤال الذي يُطرح يوميًا أجاب عنه العماد عون قائلًا: "لولا إرادة الصمود التي يتحلّى بها عناصرنا وإيمانهم بوطنهم وقدسية مهمتهم، لكان الجيش في وضع مختلف والوطن في المجهول.
يدرك أبطالنا الصامدون أنّ خلفهم شعبًا يثق بهم، أحاطهم بمحبته وتقديره وسلّمهم أمنه. يعلمون أنّ قيادتهم لا تتركهم عرضة للعوز والإحباط، لا بل تقف إلى جانبهم، وتطلق النداء للمحبّين في الداخل والخارج والدول الصديقة، وهم يلبّون النداء بصدقٍ واندفاع، لأنّهم مقتنعون بأن دعم الجيش وتحصينه يعني بقاء لبنان".
وبنبرةٍ قوية حاسمة، أكد: "الجيش ماضٍ بمهمته، لن يحيد عن قسمه، ولن تنال من عزيمته الحملات المشبوهة التي تستهدفه لأسبابٍ تنضوي في طيّاتها حسابات سياسية ضيقة وافتراءات يتذرع أصحابها بالقوانين".
 

على أمل...
وتوجّه إلى الرئيس ميقاتي قائلًا: "لا شك في أنّ هذه الظروف الاستثنائية التي نمر بها، تتطلّب قرارات وإجراءات استثنائية، ودولتكم أدرى بذلك. وفي معرض حديثنا، شكرًا لك دولة الرئيس ميقاتي، والشكر أيضًا لدولة الرئيس بري على كل الدعم الذي تقدّمونه للمؤسسة العسكرية لمعرفتكم أنها الضامن للاستقرار والسلم الأهلي، على أمل أن تُستكمل مساعيكم لملء الشغور في بعض المراكز في المؤسسة حفاظًا على انتظام عملها، بعيدًا عن حسابات البعض الضيقة التي تستهدف المؤسسة بفتاوى غير قانونية".
وعشية الذكرى الثالثة لانفجار مرفأ بيروت، استذكر قائد الجيش الشهداء والجرحى الذين أُصيبوا، ومن بينهم شهداء وجرحى عسكريون، آملًا أن يلملم الشعب اللبناني جراحه من كل الأزمات التي تحاصره وتلاحقه، ويستعيد ثقته بوطنه بعد انتظام الوضع السياسي، فيخرج الوطن من أزمته عند توافر النوايا الوطنية الصادقة.
ختامًا، جدد العماد عون عهد المؤسسة للبنانيين جميعًا، "مهما اشتدت الصعوبات والتحديات، لن نتوانى إطلاقًا عن القيام بواجبنا حتى التضحية".
"إرادة الصمود" لأنّها قناعتنا".
"الجيش باقٍ. الجيش صامد. الجيش بأمان..."

 

من البدايات إلى زمن الأزمات
في الهواء الطلق وعلى مساحة شبه دائرية، توزعت بشكلٍ ممنهج ومنظم حوالى 140 صورة، استذكرت مسيرة الجيش ومهمات نفَّذها عبر مراحل تاريخية مختلفة، بدءًا من العام 1945 الذي شهد انتقال الوحدات التي شكلت نواته التأسيسية إلى عهدة الدولة اللبنانية المستقلة وانتهاء عهد الانتداب. صور تحمل عبق الماضي بدفء الأبيض والأسود، وأخرى لماضٍ أقرب وللحاضر، في لقطات بالألوان وتزخر بالحياة المستمدة من نشاطات العسكريين في غير مجال، وصمودهم في وجه الصعوبات مهما اختلف مصدرها وحجمها.
من سجل العام 1945، يتوقف الزوار أمام صورة للرئيس بشارة الخوري في افتتاح "بيت الجندي" في أحد المقرات. أحدهم عبّر عن حنينه لتلك المرحلة التي شهدت بدايات تأسيس الدولة وإقامة ركائزها، فيتساءل: هل يُتاح لنا أن نشهد عودة العز إلى هذا البلد؟ فيرد عليه أحد الصحافيين وهو يشير بإصبعه إلى صورة لعسكريين في معركة "فجر الجرود": "الأمل معقود على هذا الجيش الذي لن يسمح بانهيار وطنه أمام أزمة اقتصادية أو غيرها من الأزمات..."
العرض العسكري بمناسبة عيد الاستقلال في العام 1946، يستثير تعليقات كثيرة تراوح بين اكتشاف ما كان عليه الجيش هندامًا وتسليحًا، وما تميّزت به الصورة من جمالية. تسليم طائرة سافوي الإيطالية في مطار رياق في العام 1966، ورماية مصفحة في الطيبة - بعلبك في العام 1972، ثم تخريج أغرار في أواخر القرن العشرين، صور تستعيد محطات في تاريخ الجيش، وتستدعي أسئلة من البعض وشروحات من آخرين.
 

معًا في الخدمة
لأنّ الصورة هي خير شاهد على الحدث، فقد استُعرضت في لقطات معبرة مهمات الجيش والأوجه المختلفة لصموده. الحفاظ على الاستقرار من خلال عمليات حفظ الأمن والدوريات الراجلة والمؤللة، التدريب، ومن بعض أوجهه التمويه والرمايات. وقد كان للعنصر النسائي حصة كبيرة منها انسجامًا مع واقع إفساح مجال انخراط الإناث في مختلف ميادين الحياة العسكرية ومهماتها، ليكون الرجال والنساء معًا في خدمة الوطن.
دعم المواطنين ومدّ يد العون لهم كان له حيّز مهم، وقد جسدته صور عبّرت عن روحية العطاء والاستعداد الدائم للخدمة لدى عسكريين يبدون وكأنهم أبعد من أن يدركهم تعب. تتأمل إحدى السيدات لقطة لعسكريين يقومون بإطفاء حريق وسط رياح هوجاء، تبتسم قائلة: "تذكرني هذه الصورة بيوم احتجزت أنا وزوجي في سيارتنا في بشري بسبب عاصفة ثلجية. أتى عناصر من الجيش اللبناني، كانوا ينفّذون عملية إخلاء ومساعفة في المنطقة وأنقذونا، في الحريق والغريق والثلج وكل الظروف الصعبة نجدهم إلى جانبنا".
 

"السلاح السري"
من أوجه الصمود في وجه الأزمة الاقتصادية سعي المؤسسة العسكرية لتحقيق حد أدنى من الاكتفاء الذاتي، وهذا ما أظهرته مجموعة صور من بينها واحدة لعسكريين ينتجون مواد للتنظيف، وأخرى لجنودٍ يقومون بإصلاح آليات عسكرية كان من المفترض أن تُنفّى لولا إصرارهم وكفاءتهم، وغيرهم ممن يصنعون أدوات مكتبية من الخشب... وقد أثارت هذه الصور دهشة الزوار الذين كانوا يجهلون وجود هذا "السلاح السري" الذي يواجه به الجيش الأزمة الاقتصادية، مستخدمًا الكفاءات الفردية في إنجازات تعمّ فائدتها المؤسسة والوطن.
لعل من أجمل ما كُشف عنه النقاب في المعرض هو الجانب الإنساني في الحياة العسكرية التي تسودها روحية التآزر والتضامن أفقيًا وعموديًا. فالرفاق يتآزرون ويتضامنون ليس في تنفيذ المهمات فقط وإنما في مختلف مواقف الحياة، والرؤساء يساندون مرؤوسيهم ويتابعون شؤونهم، هكذا لا يُمكن أن يعيق أي ظرف قائد الجيش عن تفقّد العسكريين في الميدان، والجرحى في المستشفيات، وأهالي الشهداء في بيوتهم.

 

جولة في المتحف
هنأ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الجيش في عيده، مشيدًا بولائه الوطني الذي هو الأساس لدى جميع العسكريين، والذي يشكل ضمانة بأنّ الوطن سيبقى بخيرٍ مهما واجه من صعوبات. وأضاف: "إنّ الحكومة تقوم بالتعاون مع قيادة الجيش في اتخاذ كل الخطوات الممكنة لمساعدة الجيش على تجاوز هذه المرحلة الصعبة، وهذه ثابتة أساسية لحماية لبنان وشعبه وصون وطننا من المخاطر".
ثم توجّه الرئيس ميقاتي وقائد الجيش إلى المتحف العسكري حيث تابعا الجولة في ذاكرة الوطن والجيش. وكانت المحطة الأولى في الجولة أمام البزة العسكرية الأصلية للواء فؤاد شهاب أول قائد للجيش، وعلى الرتبة الفضية القديمة، وإلى جانبها سلاحه الشخصي وهو بندقية فرنسية من طراز MAS 1936 عيار 7,5ملم وسيفه، لتستمر بعدها الجولة إذ قدّم النقيب عماد عامر من مديرية التوجيه شرحًا مقتضبًا حول المعروضات لجهة تاريخ صنع الأسلحة وتطورها واشتغالها والحقبة الزمنية لاستعمالها، وكذلك الطرق الكلاسيكية للقتال في العصور الوسطى.
أعطى النقيب عامر لمحة عن البنادق التي تعمل بواسطة الفتيل والحجر الصواني والتي يعود تاريخ صنعها إلى القرن الرابع عشر ميلادي، وتلك التي تعمل على الكبسول وأحادية الطلقة، وصولًا إلى بنادق ورشاشات استُعملت خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها بقليل، وعن السيوف والخناجر والدروع والخوذات الأثرية المصنوعة في القرنَين السابع عشر والثامن عشر، بالإضافة إلى بعض البيارق والأعلام الأصلية القديمة. أما صورة الشيخ طالب حبيش فكانت موضع استفسار من الرئيس ميقاتي، فأتاه الجواب بأنّه أول ضابط لبناني في عهد السلطنة العثمانية، وهو جد اللواء شهاب لأمه.
وفي ختام الجولة قدّم الملازم سامر فرحات من مديرية التوجيه شرحًا عن مسدسات قديمة حظيت بشهرةٍ واسعة.
"إرادة الصمود" الذي حجز مساحته متخطيًا ما تولّده الأزمات من إحباط ويأس، كان بمثابة رسالة أمل للمواطنين يدعوهم فيها الجيش إلى التفاؤل رغم كل الظروف، ويحثهم على مشاركته الصمود والعزيمة، مؤكدًا لهم أنّ المؤسسة التي نجحت عبر التاريخ في مواجهة التحديات والتغلب عليها، ستنجح هذه المرة أيضًا ولن يعيقها أي تحدٍ من العمل الدؤوب حفاظًا على وحدة لبنان وأمنه واستقراره .

 

صور

صور تحمل عبق الماضي بدفء الأبيض والأسود، وأخرى لماضٍ أقرب وللحاضر، في لقطات بالألوان تزخر بالحياة المستمدة من نشاطات العسكريين.
كان للعنصر النسائي حصة كبيرة من الصور انسجاماً مع واقع إفساح مجال انخراط الإناث في مختلف ميادين الحياة العسكرية ومهماتها، ليكون الرجال والنساء معًا في خدمة الوطن.
لأن الصورة هي خير شاهد على الحدث، فقد استعرضت في لقطات معبرة مهمات الجيش والأوجه المختلفة لصموده.