دراسات وأبحاث

إستراتيجيا الأمن الجماعي
إعداد: د. أحمد علو عميد متقاعد

عالم القطب الواحد (الجزء الثالث والأخير)

«كان الرئيس شارل ديغول يعتقد أن هدف الولايات المتحدة الاميركية منذ العام 5491، هو السيطرة على مجمل العالم القديم (اوراسيا)، وأنها تقدمت لتحقيق هذا الهدف بالفعل من خلال كسر اوروبا من الأطلسي حتى الأورال». فهل هذا هو الواقع؟

 

الامبراطورية الجديدة

استفادت الولايات المتحدة الاميركية من الحرب العالمية الثانية بمعايير مختلفة وكبيرة، فقد دَمّرت الحرب أوروبا والإتحاد السوفياتي واليابان؛ وهذه الدول العظمى والامبريالية في الوقت نفسه، أسقطتها نزاعاتها المستمرة، ما دفع الولايات المتحدة لالتقاط اللحظة التاريخية في سعيها نحو الامبريالية والسيطرة الكونية، فهي تنتج نصف الانتاج الصناعي العالمي وتحتكر التكنولوجيا الحديثة التي ستحدد مسار التطور في النصف الثاني من القرن العشرين، يضاف الى ذلك احتكارها للسلاح النووي في ذلك الوقت، والذي حسم الحرب وأرعب دول العالم كلها.

 

مشروع الهيمنة

يعتبر البعض، أن الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة بدأت مشروعها في الهيمنة العالمية من خلال مؤتمر «بوتسدام» في المانيا (تموز - آب 1945)، ويعطي هذا المشروع دوراً هاماً للبعد العسكري، أساسه احتكار السلاح النووي، وقد وضعت استراتيجيا عسكرية شاملة لتطبيقه بسرعة فائقة. وهذه الاستراتيجيا قائمة على تقسيم العالم الى مناطق عسكرية أوكلت قيادتها الى قيادات عسكرية أميركية، ولم يكن الهدف حصار الصين والاتحاد السوفياتي فحسب، بل السعي لامتلاك الوسائل التي تجعل من الولايات المتحدة السيد المطلق في أنحاء الأرض كافة (وحتى الفضاء بعد ذلك)، ونشر «مبدأ مونرو» الذي منحها «الحق الحصري» في إدارة العالم الجديد، وذلك وفق مصالحها الوطنية، ووضع هذه المصالح فوق كل مبدأ آخر، وتنمية الحذر المنهجي إزاء كل ما يتعلق بالقانون الدولي والأمم المتحدة التي لم تحظَ، يوماً، بقناعات الطبقة المسيطرة في الولايات المتحدة، والتي لم تقبل أن يكون القانون الدولي فوق ما تعتبره ضرورات الدفاع عن مصالحها الوطنية.
وعلى الرغم من اللحاق المزدوج، اقتصادياً، من قبل أوروبا واليابان، وعسكرياً، من قبل الاتحاد السوفياتي السابق، فإن التراجع الأميركي في المشروع، وإن كان قد سمح ببروز هيمنات مستقبلية بديلة (أوروبا، اليابان، الصين...) إلاّ أنه عاد للظهور بقوة بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وبقاء الولايات المتحدة لاعباً وحيداً وقادراً على الساحة العالمية.

 

كيف تعاملت الولايات المتحدة مع منظمة الأمم المتحدة؟

* خلال الحرب الباردة:
سيطرت قواعد الحرب الباردة على منطق القوتين العظميين في سلوكهما تجاه الأمم المتحدة والأمن الجماعي، ومواقفهما من الصراعات الدولية، وقد تعاملت الولايات المتحدة في رؤيتها لدور الأمم المتحدة وتأثيرها كما يأتي:
1- عدم السماح بتدخل الأمم المتحدة في الصراعات التي كانت تدور بين الكتلتين المتصارعتين، أو تضم حلفاء لهما.
2- استبعاد دور المنظمة الدولية في الصراعات بين دول اعضاء الكتلة نفسها وحلّها من قبل المنظمات الاقليمية لهذه الدول.
3- استبعاد دور الأمم المتحدة في حلّ النزاعات بين الدول المنحازة.
4- إعطاء دور جزئي للمنظمة في حال النزاعات بين الدول المنحازة والدول غير المنحازة، في حال كان المعتدي دولة غير منحازة.
5- إعطاء دور للأمم المتحدة، وتأييد قراراتها في حال النزاعات بين دولة منحازة ودول غير منحازة، في حال كان المعتدي دولة منحازة، كأزمة السويس العام 1956، والكونغو  العام 1960، وأزمة قبرص 1963-1964، وذلك حفاظاً على التوازن الدولي.
يمكن إيجاز رؤية الولايات المتحدة للأمم المتحدة خلال فترة الحرب الباردة، على أنها وسيلة غير مستحبة دائماً للسياسة الخارجية الاميركية اقتصادياً واجتماعياً، او لحفظ السلم والأمن الجماعي الدولي، ولذلك استمرّ الاعتماد الأميركي على المنظمة الدولية في الانخفاض التدريجي وخصوصاً في القضايا التي ليس لها مصلحة فيها؛ أما في القضايا التي تمسّ مصالحها، فكانت الولايات المتحدة تبذل جهدها وقواها لتنال تفويض الأمم المتحدة للعمل بنفسها، وبقواتها وتحت قيادتها نفسها، أو من خلال قوات حلف الأطلسي (حرب كوريا العام 1950، حرب الخليج الثانية 1990-1991، حرب البقان العام 1992...).
في الإجمال، إن سلوك الولايات المتحدة تجاه المنظمة الدولية خلال فترة الحرب الباردة (1945-1991) كان محكوماً بقواعد الحرب الباردة والتوازن الدولي وقواعد الصراع وبالحد من تدخّل الأمم المتحدة، وخصوصاً الجمعية العامة في القضايا الاقتصادية الدولية، والإكتفاء بتشجيع التعاون الدولي من خلال الوكالات المتخصصة التابعة لهذه المنظمة.


* بعد الحرب الباردة:
مع انهيار النظام الدولي القائم على الثنائية القطبية، وانحسار التنافس الدولي، وقبيل إندلاع حرب الخليج الثانية العام 1991، كان من المنطقي أن تضطلع الأمم المتحدة بدور اكثر فاعلية، وحسماً، في ترتيب العلاقات الدولية وتسوية النزاعات والأزمات الطارئة بين الدول، خصوصاً أن التوازنات الحساسة التي فرضتها الحرب الباردة على أداء الأمم المتحدة في المرحلة السابقة، همّشتها، وشلّت من فاعليتها، في حلّ النزاعات بين الدول. إلاّ أنّ الولايات المتحدة الاميركية، وكالعادة، سارعت الى اقتناص الفرصة، واغتنام هذه اللحظة التاريخية، وقد أصبحت الدولة الأعظم والأقوى بدون منازع. ولكي تعلن قيام «نظام عالمي جديد»، ومن أجل إضفاء شرعية قانونية على هيمنتها على توجهات المنظمة الدولية، طالبت بتطوير ميثاق المنظمة الدولية القائم ليتلاءم مع حلم التفرد الأميركي بإدارة شؤون العالم وفق رؤيتها. وأول معايير التجديد كان «تقليص حدود السيادة الوطنية للدولة المنفردة في مواجهة الارادة الدولية»، وإيجاد آليات «إنسانية» لإضفاء الشرعية على التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، (مثلاً الصومال، البوسنة والهرسك، السودان، العراق، إيران، كوبا، فينزويلا، والصين الى حدّ ما).
ومنحت الولايات المتحدة رغبتها بالتدخل في شؤون الدول تسميات حضارية مثل، حقوق الانسان، ونشر الديمقراطية وإسقاط الأنظمة الإستبدادية التي تقمع شعوبها، أو حماية الأقليات، واحتواء التطرف الديني، والقضاء على الإرهاب، واستئصال شأفة المخدرات، ومحاربة التطهير العرقي، وإنقاذ الجياع والعطشى، وحماية البيئة، وأخيراً الحدّ من إنتشار أسلحة الدمار الشامل، الخ...

 

المجتمعات البشرية حاولت عبر التاريخ ايجاد نظام أمن جماعي يخفف من آلام الشعوب ويحد من العدوان بين الدول ويؤسس لنظام دولي قائم على السلام والعدل والمساواة

المحافظون الجدد ومشروع هيمنة القطب الواحد

أدى وصول اليمين المتطرف (المحافظون الجدد) بقيادة الرئيس جورج بوش الإبن الى السلطة، واستغلالهم لأحداث 11 أيلول 2001، الى فرض مشروع الولايات المتحدة الاميركية في التصرف بحريّة في العالم، فقامت بغزو افغانستان بحجة محاربة الإرهاب المسبب لأحداث 11 أيلول، وأسست لفرض نظام حكم جديد موالٍ لها، ثم بعد ذلك قامت باحتلال العراق في آذار ونيسان من العام 2003، من دون موافقة مجلس الأمن الدولي، وبحجة حيازته أسلحة دمار شامل تهدد أمنها كما تدعي.
ولكن ثبت بعد ذلك، عدم وجود مثل هذا السلاح لدى العراقيين، ثم عمدت الى فرض سلطة مدنية اميركية ساهمت في خلق انتخابات أنتجت سلطة لا تزال تتخبط في تأمين سيطرتها على الأراضي العراقية، وتترنح في فرض سيطرتها على أقاليم العراق المختلفة، بعد أن أوجدت الأرضية الخصبة لقيام كيانات طائفية او إتنية تهدد وحدة العراق أرضاً وشعباً، وربما يندرج كل ذلك ضمن مخططها لإعادة تركيب «الشرق الأوسط الكبير» كما تريد، باستخدام الاصطلاح الذي أطلقته: «الفوضى الخلاقة»، وهو ما يخدم مصالحها واستمرار هيمنتها في العالم من خلال تأمين «أمن الطاقة» المتوافرة في هذه المنطقة، علماً أنها لا تستطيع استكمال هيمنتها العالمية، من اليابان والصين وروسيا وحتى اوروبا، من دون السيطرة على هذه المنطقة التي تشكل عصب قوتها، ومصدر الطاقة الضرورية لتسيير عربة امبراطوريتها عبر العالم.

 

خلاصة عامة

حاولت المجتمعات البشرية عبر التاريخ إيجاد نظام أمن جماعي يخفف من آلام الشعوب ويحد من العدوان بين الدول، ويؤسس لبناء نظام دولي قائم على السلام والعدل والمساواة. وشكلت المعاهدات الدولية المختلفة عبر العصور، الأساس النظري لهذا التنظيم الذي بدأ بالتبلور مع معاهدة «وستفاليا» العام  1648 ومعاهدة «فينيا» العام 1815، و«الحلف المقدس» العام 1818، غير أن نمو الحركات القومية، والثورة الصناعية، والاستعمار، شجع الكثير من الدول الاوروبية على احتلال دول بعيدة في العالم واستغلال شعوب كثيرة طمعاً في نهب ثرواتها لزيادة قوتها وغناها. وكان التنافس على اقتسام العالم بين الدول الكبرى سبباً رئيساً في اندلاع الحرب العالمية الاولى، التي انتهت بإيجاد أول منظمة دولية تعتني بالسلام في العالم والأمن الجماعي، هي عصبة الأمم العام 1919، ولكن هذه المنظمة لم تستطع منع الحرب والصراع بين الدول، فاندلعت الحرب العالمية الثانية العام 1939، والتي انتهت بنتائج كارثية على الصعد كافة، البشرية والمادية، وهذا ما شجّع على إعادة بناء منظمة جديدة وميثاق جديد لبناء استراتيجيا أمن جماعي، وحلّ النزاعات بالطرق السلمية، ومنع العدوان، وتنمية الشعوب الفقيرة. والحقيقة ان هذه المنظمة قد نجحت في حلّ الكثير من النزاعات بالطرق السلمية، وقامت بإنجازات مهمة في مختلف الميادين، غير أن سياسة الأحلاف، وانقسام العالم الى كتلتين كبيرتين، وتركيبة مجلس الأمن، وحق النقض لدى الدول الخمس الكبرى، وتحكّمها في سياسة الأمم المتحدة، أدت جميعها الى شلّ دورها في حلّ الكثير من النزاعات.
سقوط الاتحاد السوفياتي، وتفرّد الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي، أوقعا هذه المنظمة في عدم التوازن وأبعداها عن أي دور لا تريده أميركا، لا بل، بدأت هذه الأخيرة تستخدمها لتحقيق سياساتها المرسومة سلفاً لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، ورغبتها الكامنة للسيطرة على العالم، فأخضعتها لهيمنتها وشلت دورها، ما أفقدها هيبتها، وذلك لغياب القوة او القوى التي تعيد التوازن الى النظام الدولي والشرعية لها.
واذا كان الحل، كما يرى البعض، بتعديل ميثاق المنظمة الدولية، فهل ستوافق الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن؟ وهل تتنازل عن الامتيازات التي منحها إياها الميثاق؟ وهل تقبل هذا التعديل الذي يتطلب موافقتها مجتمعة، وفقاً للمادتين 108 و109 من الميثاق؟
إن الأمر يحتاج الى حسابات دقيقة من قبل هذه الدول. ولا أعتقد أن الذئب يقبل أن ينزع أنيابه لأنها تخيف الحمل...