دراسات وابحاث

إستراتيجية بناء الأمبراطورية الأميركية
إعداد: الدكتور احمد علّو
عميد متقاعد

القواعد العسكرية في خدمة القواعد السياسية

«عندما تتخلى أُمةٌ عن طِيبتها، فهي تتخلى عن عظمتها».


يرى بعض الباحثين الأميركيين أن مخطط السياسة الخارجية الأميركية قد وُضع العام 1992 بواسطة وزير الدفاع آنذاك ديك تشيني (نائب الرئيس الحالي)، وأن هذا المخطط وضع عقيدة جديدة تدعو إلى جعل قوة الولايات المتحدة خلال القرن العشرين، أكثر هجومية وآحادية وتفرداً على أعتاب القرن الجديد، مما يؤدي إلى تأمين الهيمنة على العالم، واستعمال القوة إذا لزم الأمر. وقد كُشف النقاب عن هذه الاستراتجية مباشرة بعد تسلّم الرئيس جورج بوش الإبن الحكم، كما أن المخططات الاستراتيجية لهذه السياسة وضعت في عهد ادارة الرئيس بيل كلينتون، وبتمويل من مجموعات الصناعات العسكرية، وشركات الطاقة والمؤسسات اليمينية. ومع الوقت تطورت هذه المجموعات التي تعمل على هذه المخططات الى ما عرف باسم " PNAC"،  (project of the new american century)،  والذي أسس العام 1997 مع ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وبول وولفوويتز، كرؤساء وموجهين لهذا المشروع.
وفي أيلول العام 2000 وضعت هذه المجموعة تقريراً بعنوان «إعادة بناء الدفاع الاميركي» ويتضمن: «الاستراتيجيات، القوى، وموارد القرن الجديد، ودعت الى رفع الانفاق العسكري، وإقامة القواعد العسكرية في آسيا الوسطى والشرق الأوسط، وقلب الأنظمة السياسية غير المذعنة، وإبطال المعاهدات الدولية، والسيطرة على مصادر الطاقة في العالم، وتسليح الفضاء الخارجي، ومراقبة فضاء الاتصالات وإحكام السيطرة عليه، اضافة الى قابلية استخدام الأسلحة النووية لتحقيق الغايات والأهداف «الاميركية» إذا لزم الأمر.

 

القواعد العسكرية الأميركية في خدمة قواعد السياسة

يقول الكاتب الاميركي كالمرز جونسون (Chalmers Johnson) «إن معظم الاميركيين لا يعترفون، أو، لا يريدون التسليم بأن الولايات المتحدة تسيطر على العالم من خلال قوتها العسكرية». وبفضل تكتم الحكومة الأميركية، فإن المواطن الأميركي هو غالباً جاهل لواقع أن مواقعها العسكرية وحامياتها تطوّق الكرة الأرضية، وهذه الشبكة الواسعة من القواعد الأميركية تنتشر فوق كل القارات، ما عدا القطب الجنوبي، وتؤلف هذه القواعد حالياً شكلاً من أشكال الامبراطورية، التي تمتلك جغرافيتها الخاصة، و«التي من غير المحتمل أن تدرّس في حصة الجغرافيا، في أحد الصفوف الثانوية»، «ومع ادراك الأبعاد الحقيقية لهذا الطوق العالمي من القواعد، فإن المواطن بدأ يفهم حجم هذه الروح الامبريالية وطبيعتها، أو الدرجة التي ينحدر اليها نظامه الدستوري بفضل هذه النزعة العسكريتارية الجديدة».

 

حجم الانتشار العسكري الاميركي في العالم

يقدّر الكاتب ان حجم القوات الاميركية المنشورة في العالم هو اكثر من نصف مليون جندي، وجاسوس، وفني ومعلم، وتابع، ومتعاقد مدني في بلد آخر. وفي سبيل السيطرة على محيطات العالم وبحاره، فقد تم إنشاء ثلاثة عشر أسطولاً وقوة مهمات خاصة (Task Forces) تحيط بعدد مماثل من حاملات الطائرات التي تحمل أسماءً من التراث العسكري الاميركي: «كيتي هوك» - «كونستاليشن» - «أنتربرايز» - «جون ف. كينيدي» - «نيميتز» - «دوايت أيزنهاور» - «كارل فنسن» - «تيودور روزفلت» - «إبراهام لنكولن» - «جورج واشنطن» - «جون س. ستانيس» - «هاري س. ترومان» - و«رونالد ريغان».
كذلك تم تشغيل عدد غير معروف من القواعد السرية خارج حدود الولايات المتحدة لمراقبة شعوب العالم بمن فيهم شعب الولايات المتحدة: ماذا يقولون عبر الهواتف الخلوية والثابتة، ورسائلهم عبر الفاكس، والبريد الالكتروني...
كما يرى الباحث أن الإنشاءات الأميركية في الخارج تعود بالنفع على الصناعات المدنية، التي تصمم وتصنع الأسلحة للقوات المسلحة كشركة «كيلوغ»، و«براون وروث» وهي متفرعة وتابعة لشركة «هاليبورتن» هيوستن؛ وهذه الشركات باشرت تنفيذ عقود بناء وصيانة القواعد المنتشرة بعيداً حول العالم (ديك تشيني نائب الرئيس الحالي كان مدير الشركة). إن إحدى مهمات هذه الشركات المتعاقدة هو تأمين راحة أفراد هذه المواقع الامبراطورية، بالغذاء المناسب ووسائل التسلية، والمرافق الضرورية والتسهيلات اللازمة كافة للاستمتاع بإقامتهم في هذه القواعد والانتقال منها واليها. ان هذه القطاعات من الاقتصاد الأميركي تعتمد على القطاع العسكري في مبيعاتها، فمثلاً عشية الحرب على العراق وبينما طلبت وزارة الدفاع دفعة إضافية من صواريخ «كروز» وقذائف الدبابات من اليورانيوم المنضب (المستنفد) من احدى الشركات العسكرية، فقد طلبت أيضاً 273.000 عبوة من الزيت الواقي من الشمس من شركة تابعة للأولى في «فلوريدا».

 

القواعد العسكرية الخارجية

«الرجال، وليس الأحجار من يشكل سور المدينة» (أفلاطون)
قد لا يكون من السهل إحصاء الحجم، أو القيمة الحقيقية لهذه القواعد في الخارج، فاستناداً الى التقرير السنوي لوزارة الدفاع، وتحت عنوان «تقرير بناء القواعد» للسنة المالية 2003 والذي يفصّل العقارات الاميركية المملوكة في الداخل والخارج، يكشف «البنتاغون» أنه يملك أو يستأجر حوالى 702 قاعدة في الولايات المتحدة نفسها وضمن حدودها الواسعة.
وقد قدّر موظفو البنتاغون أن بناء وإعادة تأهيل القواعد الخارجية يحتاج الى 113.2 بليون دولار فقط، ويحتاج إلى 591.5 بليون دولار لإنجازها كلها.
وقد نشرت القيادة العسكرية العليا في قواعدها الخارجية حوالى 253.288 عسكرياً، يضاف إليهم عدد مساوٍ من الملحقين، والموظفين المدنيين التابعين لوزارة الدفاع، كما تستخدم حوالى 44.446 من المستخدمين المحليين، كما يدعي البنتاغون أن هذه القواعد تضم 44.870 مبنى (ثكنة، مستودع، مستشفى... وغيرها من المباني).
إن هذه الأعداد وإن بدت كبيرة، فإنها لا تغطي القواعد كافة التي تملكها الولايات المتحدة في العالم، فتقرير العام 2003 حول «القواعد» لم يذكر القواعد في كوسوفو، المانيا، أفغانستان العراق، إسرائيل، الكويت، قرغيزيا، قطر، وأوزبكستان. كذلك فقد أقامت القوات المسلحة الأميركية بنية تحتية هائلة، وواسعة في المنطقة التي تدعوها «قوس الأزمات»، بعد أحداث 11 أيلول 2001.

كذلك تعمّد البنتاغون إغفال ذكر ميزانية 5 بليون دولار لمنشآت التجسس المقامة على الأرض البريطانية، والتي ينظر اليها وكأنها قواعد لسلاح الجو الملكي البريطاني.
من هذا العرض، يتبين أن العدد الأقرب للحقيقة للقواعد العسكرية الاميركية حول العالم قد يتجاوز الألف قاعدة على أراضي الشعوب الاخرى، وان العدد الحقيقي للقواعد، ربما لا يعرفه البنتاغون نفسه، والذي يتصاعد باستمرار، خصوصاً خلال السنوات القليلة الماضية.

 

آثار أقدام أم.. مواطئ أقدام؟!

في القديم، كان يمكن ترسيم إنتشار الامبراطوريات بإحصاء مستعمراتها، واليوم يمكن ترسيم الامبراطورية الأميركية بالنسخة الاميركية الجديدة للمستعمرات، أي «القواعد العسكرية»، المنتشرة حول العالم، وكما يحلو للقادة العسكريين الاميركيين الكبار ومخططي سياساتها أن يدعوها ب«آثار الأقدام» وهو توصيفهم لِ«غرز الأوتاد العسكرية» لبناء الامبراطورية الاميركية وتوسيعها، أو كما يحلو للبعض الآخر ان يدعوها: «إعادة تموضع» للقوى والقواعد العسكرية خارج الولايات المتحدة.
عشية احتلال العراق، قام الفريق الاستراتيجي المساعد لوزير الدفاع الاميركي برسم مخطط لتطبيق سياسة الرئيس بوش للحرب الاستباقية ضد «الدول المارقة» (Rogue States) و«الرجال الأشرار» (Bad guys) ومحور الشر (Evil doors) كما حدد هذا الفريق شيئاً ما، دعاه: «قوس الأزمات» (Arc of instability).

ويمتد هذا القوس من كولومبيا في اميركا الجنوبية، عبر دول شمال وغرب افريقيا، وحتى الشرق الأوسط وانتهاءً بالفليبين وأندونيسيا، وهذه المنطقة هي ما تعرف عادة بالعالم الثالث، وقد تكون هذه البلدان وكما يعتقد البعض أنها تملك مفتاح احتياط النفط في العالم. ولهذا فقد وضعت استراتيجيا ايجاد مواطئ أقدام أميركية فيها.
يقول الجنرال البحري الاميركي ماستن روبيسون قائد اللواء المتمركز في قاعدة الفرقة الأجنبية الفرنسية في دجيبوتي على مدخل البحر الأحمر، إنه في حال تم تطبيق الحرب الوقائية، فإن على القوات الأميركية أن يكون لها «حضور عالمي»، من خلاله تصل الى أي مكان تريد، وتسيطر على أي بقعة ليست في قبضتها. أو كما يرى بعض أجنحة اليمين الأميركي، أن تنشئ نوعاً من «سلاح الخيالة العالمية» (Global cavalry) التي تنطلق من قلاعها وحصونها لتنقض على «الأشرار» (Bad guys)، تماماً كما كانوا يفعلون ضد الهنود الحمر، بمجرد حصولهم على معلومات عنهم.

 

ورقات النيلوفر* أو زنبق الماء

اقترح البنتاغون وضع القوات الأميركية قريبة من النقاط الساخنة، أو المناطق الخطرة في هذا «القوس المتقلقل» الذي تم اكتشافه، ودعا هذه العملية ب«إعادة التموضع» (Repositionning) والتي تعني إقامة «قواعد جديدة»، في: العراق، رومانيا، بولندا، بلغاريا، باكستان، الهند، اوستراليا سنغافورة، ماليزيا، الفليبين، فييتنام، وفي شمال افريقيا: المغرب، تونس، الجزائر، وفي غرب افريقيا: السنغال، غانا، مالي، سيراليون. ونماذج هذه الانشاءات الجديدة، استناداً الى مصادر البنتاغون، هي ذلك «السلك» من القواعد التي تم بناؤها حول الخليج العربي خلال العقدين الماضيين في الكويت والبحرين ودولة الامارات العربية وقطر وعمان. ويعتبر هذا المشروع أهم تغيير أساسي في استراتيجيا إقامة القواعد الاميركية حول العالم منذ الحرب العالمية الثانية، والتي تطمح الولايات المتحدة في سياساتها، بأن وجود أو إنشاء هذه القواعد سيساعد في نشر الديمقراطية في هذه البلدان!.
غير أن هذه القواعد، وكما يحلو للعسكريين تشبيهها، إستعارةً، كوريقات «زنبق الماء» (ّLily pads)، حيث يتوجب على القوات الأميركية أن تقفز اليها، وبينها، كالضفادع، المسلحة، من مقراتها على الأرض الاميركية، ومنها تنقضّ على أهدافها المرسومة داخل الدول التي تعارض سياسات الولايات المتحدة، أو تملك أحد توصيفات «العدو» وفق القاموس السياسي الأميركي، واصطلاحاته المتنوعة، وخاصة «الإرهاب».
في 16 أكتوبر 2003 صرح وزير الدفاع الاميركي دونالد رمسفيلد بعد حربه على العراق قائلاً: «نحتاج اليوم الى أجهزة قياس مترية لمعرفة ما إذا كنا قد ربحنا الحرب على الارهاب، أو خسرناها» ولكن «الحرب على الارهاب»، حتى بالنسبة الى الاميركيين لا تشكل الاّ جزءاً صغيراً من السبب الذي وضعته الاستراتيجيا العسكرية الاميركية. وبالنسبة الى الكثيرين، فإن السبب الحقيقي لبناء هذا الطوق الجديد من القواعد الاميركية حول خط الاستواء هو لتوسيع الامبراطورية الاميركية وتعزيز سيطرتها العسكرية على العالم.

* النيلوفر، أو زنبق الماء، زهرة جميلة تنبت في الماء (Lily pads) ولها وريقات كبيرة تطفو على الماء، تستخدمها الضفادع، للوقوف فوقها، وتقفز من ورقة الى أخرى، للوصول الى أي مكان.

 

المراجع:

1-www.commondreams.com

America's empire of bases by Charls Johnson

2- www.cryptome.org

project for the new century PNAC by:Mary Louise

3- Base Politics.by Alexander Cooley Foreign Affairs /November-December 2005.