قضايا إقليمية

إسرائيل
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

حكومـة يمينية ومجتمع متطرّف
يتّفق نتنياهو مع باراك في المرحلة الحالية على وجوب إنتظار بروز قيادة فلسـطـينيـــة تقبل بما رفضه الرئيس الراحـل ياسر عرفـات
في ظل السياسة الأميركية الجديدة التي تنحو منحى الحوار والحلول الدبلوماسية، تسعى إسرائيل الى فرض العقوبات القاسية وصولاً الى الحلول العسكرية

 

لا شك في أن الحكومة اليمينية المتطرفة التي شُكّلت مؤخراً في كيان العدو برئاسة نتنياهو وعضوية كل من رجلي الحرب وسفك الدماء ليبرمان وباراك، إنما تعبّر عن واقع المجتمع الإسرائيلي الحالي في انزياحه أكثر فأكثر نحو المزيد من التطرّف والعدوانية ورفض السلام. وفي هذا السياق يشير علماء الإجتماع السياسي الإسرائيلي الى العديد من العوامل والأسباب التي تفسّر هذا الإنزياح، ومن أبرزها تبني أغلبية الإسرائيليين عقيدة «أبدية الصراع» وحتميته، بالإضافة الى عقيدة «إنعدام الشريك» في الجانب العربي وخصوصاً الفلسطيني. ويرى الكاتب دانيال درور المحاضر في جامعة بن غوريون، أن نقطة التحوّل التي قادت الى ريادة هذه النظرية تكمن في فشل مؤتمر «كمب ديڤيد» في أواخر العام 1999 الذي جمع كلاً من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل الأسبق الجنرال إيهود باراك، ومن ثَمَّ إندلاع إنتفاضة الأقصى إثر الزيارة الإستفزازية التي قام بها رئيس الحكومة الأسبق آرييل شارون الى باحة المسجد الأقصى في القدس، وذلك بعدما أعلن أنه عرض على الفلسطينيين أقصى ما يمكن لزعيم إسرائيلي عرضه لحلّ الصراع ولكنهم رفضوا، وبالتالي لم يعد لإسرائيل شريك للتسوية.
هذه الذريعة المفتعلة والملفّقة تبنّتها نخب سياسية وثقافية مختلفة، بما فيها النخب ذات التوجهات اليسارية، مثل يولي تامير التي كانت تتولى منصب المدير العام لحركة «السلام الآن»، ويارون لندن الذي كان أحد منظّري اليسار الصهيوني لكنه ما لبث أن تحوّل الى أحد كبار المتطرفين في أثناء حرب غزة. وقد سار المجتمع الإسرائيلي في أعقاب هذه النخب وسواها من نخب اليمين الشوفيني والديني، من دون أن يلتفت الى عذابات الطرف الآخر وما يعانيه من ظلم وحيف واضطهاد وسلب للحقوق المادية والمعنوية، مثل الحصار الظالم وبناء جدران الفصل العنصري ومصادرة الأراضي وهدم البيوت وإتلاف المحاصيل والأرزاق والقتل لمجرد القتل.
وإذا تأملنا، على ضوء ما تقدّم في تفاصيل الإتفاقات الإئتلافية التي أبرمها رئيس الحكومة الجديدة بنيامين نتنياهو (بيبي)، والتي تشكّل عملياً برنامج الحكومة المستقبلي، نجد أنفسنا أمام مخطط لتعطيل العملية التفاوضية والتحضير لأعمال عدوانية وسنّ المزيد من القوانين العنصرية. فالإتفاق بين الليكود وحزب «إسرائيل بيتنا» بزعامة العنصري المتطرّف أفيغدور ليبرمان وحزب شاس الديني الأصولي لليهود الشرقيين، يخلو من أي حديث عن مفاوضات سلام بل عن القضاء المبرم على حركة حماس في غزة وعن القضاء على ما يسميه «الإرهاب» والدعوة للتحكم بأموال السلطة الفلسطينية. أما الإتفاق مع حزب العمل فدعا بشكل ضبابي غامض الى «سعي إسرائيل لسلام إقليمي مع جميع الدول المجاورة» من دون الإتيان على ذكر الجانب الفلسطيني. والإتفاق مع حزب «إسرائيل بيتنا» يقضي بأن تكثّف الحكومة الإستيطان بين مدينة القدس ومستعمرة معاليه أدوميم، الأمر الذي يقضي قضاءً مبرماً على أي احتمال لقيام دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً ويعزل القدس بأكملها عن سائر الأراضي الفلسطينية. علماً بأن رئيس هذا الحزب ليبرمان قال تكراراً إنه لن يقبل الإنسحاب من هضبة الجولان ورفض مبادئ أنابوليس ودعا الى الإستعداد للحرب معتبراً أن التنازلات لن تجلب السلام. وأضاف أن إسرائيل منذ العام 1967 تنازلت عن أراضٍ تزيد عن ثلاثة أضعاف مساحتها، فهي تنازلت عن سيناء وأرض الضفة والقطاع ووقّعت إتفاق أوسلو ولكن كل ذلك لم يحقق السلام.
مثل هذه المواقف أوجدت أجواء من الترقب والحذر في الساحتين العربية والدولية. وفي الداخل الإسرائيلي وصفت زعيمة المعارضة تسيبي ليفني، رئيسة حزب كاديما، حكومة نتنياهو بأنها حكومة «شراء الذمم» وقالت عن حزب العمل بأنه حزب يفتقد الى الجوهر والقيم ولا يبحث إلا عن الكراسي. ووصفت الجمهور الإسرائيلي بـ«الرجل الضعيف» الذي ألقى نتنياهو على رأسه هذه الحكومة المضخمة، التي تضم وزراء لشؤون لا شيء ونواباً ووزراء من دون مهام وكثير من الألقاب المثيرة للسخرية. وانتقدت ليفني ليبرمان وحزبه الذي تسلّم كل المؤسسات القانونية علماً بأن رئيسه يخضع لتحقيقات جنائية وفقاً للائحة إتهام طويلة.
من ناحية أخرى يتفق نتنياهو مع باراك في المرحلة الحالية على وجوب إنتظار بروز قيادة فلسطينية تقبل بما رفضه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وتكون في الوقت نفسه قادرة على فرض هذا الخيار. كما ويتفق الرجلان على أن مهمة الحكومة الجديدة يجب أن تتمحور حول مواجهة إيران ومشروعها النووي، لا سيما في ظـل السياسة الأميركية الجديدة التي تنحو منحى الحوار والحلول الدبلوماسية، فيما تريد إسرائيل حلول العقوبات الإقتصادية القاسية أولاً وصولاً الى الحلول العسكرية. وفي هذا السياق تتم قراءة ما قامت به إسرائيل من ضرب قوافل تموين في السودان بأنها رسالة ودلالة على يد إسرائيل الطويلة. وإزاء هذه العربدة السياسية والعسكرية تبدو المنطقة في المستقبل غير البعيد أكثر توتراً وغلياناًَ، الأمر الذي يضع قيادات العالم العربي ولا سيما القيادات الفلسطينية أمام مسؤوليات مصيرية كبرى. وإذا كان العالم وبعض الدول العربية قد قاطع حكومة حماس الفائزة ديموقراطياً في قطاع غزة لرفضها الإعتراف بإسرائيل وأنزلت بها الكارثة الكبرى إثر ما سمي بعملية «الرصاص المصهور»، فكيف سيواجه هذا العالم اليوم وخصوصاً أميركا وأوروبا، المواقف الإسرائيلية الجديدة الرافضة لمبادئ السلام التي وضعتها الأسرة الدولية نفسها؟ وكيف سيكون موقف الرئيس الأميركي الجديد أوباما عند لقائه نتنياهو في البيت الأبيض لبحث معضلات السلام في المنطقة؟ وماذا سيفعل المبعوث ميتشل أمام قضم الأراضي وتوسيع المستوطنات وهدم البيوت العربية في القدس وسائر أنحاء الضفة الغربية؟ وماذا سيفعل ميتشل بخصوص الأراضي السورية واللبنانية المحتلة في الجولان ومزارع شبعا؟ وماذا سيفعل بقضية اللاجئين وحق العودة وما الى ذلك، قبل التفكير في أمور غير ملحة تحاول إسرائيل إعطاءها الأولوية لصرف الأنظار عن جرائمها المستمرة في القتل والهدم والإحتلال.
العام 1996 قدّم أقطاب من تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة من بينهم دوغلاس فيث وريتشارد بيرل وبول وولفوفيتز تقدير موقف إستراتيجي الى نتنياهو عشية ترؤسه الحكومة في ولايته الأولى تلك، ونصحوه في حينه، بالإبتعاد عن عملية السلام لأنها بحسب رأيهم «تضعف إسرائيل» ودعوه الى تبني المفهوم القائم على موازين القوى. واليوم مع حكومة نتنياهو الثانية تبدو الأمور على حالها ويبدو التوجّه الإستراتيجي الجديد نحو دفن خيار السلام بكل صوره «العادلة والشاملة» التي ينادي بها العرب صبحاً ومساءً ولكن من دون جدوى. كما ويبدو أنه لن يكون هناك فرق بين أن تضع حكومة نتنياهو العراقيل أمام إستئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية والحكومة السورية، أو أن تقبل العودة اليها لأن الأمرين سيان. فمبدأ الدولتين مرفوض ومبدأ الإنسحاب من الجولان مرفوض أيضاً ذلك لأن «هضبة الجولان ستبقى الحزام الأمني الشرقي لدولة إسرائيل»!! فإلى متى تستمر الخلافات والمشاحنات العربية على سلخ جلد الدب قبل إصطياده؟!