قضايا اقليمية

إسرائيل بعد ستين عاماً
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

إشكاليات الحدود والهـوية

ستون عاماً مضت على قيام دولة الاغتصاب الصهيوني، إسرائيل، وهي ما تزال دولة بلا هوية ثقافية أو سياسية محددة ولا دستور ولا حدود جغرافية مستقرة ولا خريطة سكانية ثابتة ولا تعريف واضح لمتطلبات أمنها القومي. ستون عاماً مضت وما زال الكيان يعيش التقلبات والتخبطات التي تحتمها توترات وتغيرات القيادات السياسية العليا بمختلف تياراتها وانتماءاتها الايديولوجية والسياسية والأمنية. ستون عاماً مضت وما زال الإسرائيليون يرددون مقولة الزعيم الصهيوني ناحوم غولدمان بأن «عدم اليقين» إنما يشكل حالة إسرائيلية دائمة. وكان يضيف: «إن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تستمد وجودها من الحقيقة بل من الفكرة... ولا كذلك من الوضع الواقعي وإنما من أمل اليهود وإيمانهم!!!». وهذه الأطروحة ما تزال الى اليوم تنتج المفارقة المحيرة ما بين الجغرافيا ككينونة واقعية سياسية للدولة وبين الأيديولوجيات الصهيونية. فلقد أدت حرب الرابع من حزيران 1967 الى توسيع الحدود الإسرائيلية بشكل كبير جداً بحيث شملت سيناء والضفة الغربية والجولان. وتمّ تكريس الحدود عبر تشريعات قانونية مثل ضم القدس وضم الجولان ثم ما لبثت اتفاقات التسويات السلمية مع كل من مصر والأردن العامين 1979 و1994 أن أدت الى نوع من الإنكماش القسري في حدود التوسع الإسرائيلي، وكذلك حصل في اتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين العام 1993. إلا أن قضية الحدود والخريطة السياسية النهائية لدولة إسرائيل ما تزالان قيد البحث في ميدان القتال وعلى موائد المفاوضات.

 

ثلاث مراحل في الفكر القومي الصهيوني
لقد أدت العوامل السياسية والأيديولوجية في الفكر الصهيوني دوراً بارزاً في التأثير على إشكاليات الحدود والهوية الإسرائيلية. وحاولت الحركة الصهيونية منذ البداية في القرن الماضي، إسقاط المفهوم الأيديولوجي «لأرض إسرائيل» على عملية ترسيم الحدود وفصل فلسطين وسواها من الأراضي العربية المجاورة عن محيطها الأم. وهي نجحت جزئياً في ذلك، لكن عوامل المقاومة الوطنية العربية وتضارب المصالح الاستعمارية كانت في بعض الأحيان أقوى من طموحات الحركة الصهيونية على الرغم من نفوذها الفعال على المستويين الإقليمي والعالمي. وبالتالي مرت إسرائيل خلال العقود التسعة الأخيرة منذ نهاية الحرب العالية الأولى وحتى الآن بثلاث مراحل في فكرها القومي - الصهيوني في ما يخص ترسيم حدود التوسع أو الإنكماش. الأولى كانت المرحلة الأيديولوجية مع محاولة ترسيم حدود فلسطين الانتدابية بما يتطابق مع مفهوم أرض إسرائيل الكبرى التوراتي والتاريخي في التراث اليهودي، ثم جاءت مرحلة ترسيم الحدود لاعتبارات سياسية فرضتها الدول الكبرى والأمم المتحدة ثم الحروب والانتفاضات، وهي تقوم على التعامل السياسي مع المعطيات الموضوعية على أرض الواقع، فجاءت اتفاقية الهدنة والواقع الذي نتج عن حرب حزيران 1967 وما تبعها من تطورات. وأخيراً المرحلة الحالية الراهنة والتي يمكن تسميتها بالمرحلة الاثنية التي تقوم في الأساس على إعطاء الأولوية للعامل الديموغرافي كعامل مركزي وأساسي في رسم حدود التوسع الصهيوني.
من هنا إن مسألة إقامة «دولة اليهود» بمفهومها الإثني إنما تمثل الشكل الأخير للتقلبات والتحولات التي طرأت على صورة هذا الكيان وتكوينه خصوصاً على امتداد الستين عاماً الأخيرة لقيام الدولة. حيث نجد أن تعريف إسرائيل كدولة للشعب اليهودي إنما يأتي من خلال قانون العودة الذي يعطي «الحق» لكل يهودي في العالم بالهجرة الى إسرائيل وحصوله على المواطنة الإسرائيلية، بينما يُمنع اللاجئون الفلسطينيون من ذلك.

 

متلازمتا التوطين وعدم التنازل عن فكرة الوطن اليهودي
لقد تلازمت الرغبة الصهيونية بتوطين اليهود في الأراضي العربية المحتلة مع رغبة موازية تقول بعدم التنازل عن الفكرة اللامتناهية للوطن اليهودي. ولهذا السبب طالب التيار التنقيحي اليميني منذ جابوتنسكي وبيغن بإقامة دولة يهودية على أرض إسرائيل الكبرى بحيث تشكل إمارة شرق الأردن التي أصبحت تسمى في ما بعد بالمملكة الأردنية الهاشمية. أما التيار العمالي فكان يخضع مسألة الحدود للمعطيات الموضوعية والتطورات السياسية على أرض الواقع، فالأول كان أيديولوجياً والثاني براغماتياً.
ومع بروز المقاومة والانتفاضات المتوالية وتزايد الخسائر الإسرائيلية بشرياً ومادياً وبروز العامل الديموغرافي بشكل واضح لغير صالح الإسرائيليين، لجأت القيادات الصهيونية الى جدران الفصل العنصري والحلول الأحادية الجانب كفك الارتباط عن قطاع غزة وشمالي الضفة الغربية والانسحاب من أغلب الأراضي اللبنانية ما بين العامين 2000 و2005. ومما يقوله آرييل شارون في هذا الصدد: «إن خطة الانفصال عن الفلسطينيين سيتم تنفيذها، وهي خطة هامة لأمن إسرائيل، إذ إنها ستمكن الحكومة الإسرائيلية من العمل ضد الإرهاب (المقاومة) من دون قيود». وأضاف: «إن الإنسحاب من قطاع غزة، سوف يعزز مقدرات الأمن في مواجهة الإرهاب ويقلل مستوى الخسائر بسبب تقليص حجم انتشار القوات».
وعلى الرغم من الذرائعية الخبيثة التي تقوم عليها مبررات شارون للتراجع، فإن الإنسحاب من غزة قد أحدث صدمة عنيفة لمعسكر المتدينين في إسرائيل ناهيك عن الشوفينيين المتطرفين مثل ليبرمان ونتنياهو. وفي هذا السياق أرسل حاخامان أحدهما من نيويورك والآخر من إسرائيل، رسالة الى المستشار القضائي للحكومة طالباه فيها بإحالة شارون الى المحاكمة «في إطار القانون الداعي الى معاقبة النازيين ومساعديهم». واتهم الحاخامان شارون بمساعدة العدو ساعة الحرب، مما دفع بالشرطة وأجهزة الأمن الإسرائيلية الى تشديد الحراسة عليه مخافة أن يحصل له ما حصل لرابين العام 1995 للأسباب نفسها. وقد تزايد الوضع سوءاً عندما انتقلت عدوى الرفض والتمرد ضد قرار الانسحاب الى أوساط العسكريين، حيث وقّع آلاف الجنود من معتمري القبعات الدينية على عرائض تدعو الى رفض تنفيذ أوامر الإخلاء، ما جعل قادة كباراً مثل وزير الدفاع الأسبق شاوول موفاز ورئيس أركان حربه موشيه يعالون، يحذرون من تفكك المجتمع الإسرائيلي ودخوله في حرب أهلية لا سيما على ضوء صدور فتاوى دينية تدعو الى التمرد ضد أوامر الحكومة.
وفي المحصلة انهار ائتلاف شارون الحكومي إثر انسحاب حزبي «الاتحاد القومي» و«إسرائيل» بيتنا» منه، فعمد شارون الى الانسحاب من حزب الليكود وتأسيس حزب كديما (الى الأمام) الذي تولاه بعد شارون نائبه ايهود أولمرت، وما لبث الأخير أن حاول نقل التوتر الداخلي الشديد الى الخارج فخاض حرب تموز الفاشلة ضد لبنان والمقاومة الوطنية العام 2006 ثم حرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وذلك في ظل شعارات المتدينين ببشرى عودة المسيح. وهذا الأمر دفع بالعديد من الكتاب والصحافيين الإسرائيليين الى التحذير من قيام إسرائيل اليهودية «المتشحة بالسواد التي تبشر بالموت المأسوي لليهودية المحبة للخير والإنسانية، ومن قيام بن لادن يهودي يقود دولة نووية نحو «الخلاص» بالحسم العسكري.

 

إشكالية قدرة إسرائيل العنصرية على البقاء
طرح الكاتب اليهودي جيفري غولدبرغ في مجلة «اتلانتيك» اليهودية إشكالية قدرة إسرائيل العنصرية على البقاء، وذكر أنه سأل رئيس الحكومة أولمرت: «لماذا باتت إسرائيل أقل أمناً لليهود مما هم عليه في أميركا؟ ألا تعتقد أن نجاح الجالية اليهودية في أميركا يقلص الحاجة الى وجود دولة إسرائيل؟»، فضرب أولمرت على الطاولة قائلاً: «أبداً لا. اليهود ليسوا آمنين في إسرائيل أكثر مما هم عليه في أماكن أخرى في العالم. فالخطر يتهددهم في كل مكان ولكن إسرائيل هي المكان الوحيد الذي يستطيعون فيه الدفاع عن أنفسهم بوصفهم يهوداً». وعلق غولدبرغ أن رد أولمرت هو «رد صهيوني تقليدي»، من دون أن ينتابه شك في أن أولمرت لا يعتبر واحداً من كبار المفكرين في الدولة اليهودية. وهو بالتالي يرى أن الصعوبة التي تنتاب الإسرائيليين في الوقت الراهن إنما تكمن في عدم العثور على قيادة جديرة ومؤهلة ومنزهة عن السقطات والفساد، مما أعطى انطباعاً مبرّراً عن أن إسرائيل قد دخلت في عامها الستين سن الشيخوخة. فهي لم تخجل من عقد صفقات وراء الكواليس في أوسلو العام 1993 للتخلص من انتفاضة الحجارة التي انطلقت منذ العام 1987 من دون كلل أو ملل، والتخلص من المقاومة الوطنية اللبنانية إثر فشل عملية «تصفية الحساب» (1993)، ثم عملية «عناقيد الغضب» (1996) الأمر الذي أفضى في النهاية الى الإنسحاب المدوي من لبنان العام 2000 بصورة هستيرية مخزية، ومن ثم تبادل مئات المعتقلين والأسرى في مقابل أشخاص معدودين ورفات قتلى من الجنود المعتدين. وباتت كلمات قائد المقاومة الإسلامية سماحة السيد حسن نصرالله العام 2000 في بنت جبيل: «إن إسرائيل التي تمتلك السلاح النووي وأقوى سلاح جوي في المنطقة هي أضعف من بيت العنكبوت،» ذات صدقية عالية ليس لدى اللبنانيين والعرب فحسب بل لدى الإسرائيليين أنفسهم ايضاً.  وهكذا وعلى ضوء الجرائم والمجازر الإسرائيلية المتكررة في لبنان وفلسطين، حلت الكراهية الممتزجة بعدم الاحترام والتي تصل الى الاحتقار للإسرائيليين لدى العرب محل خوفهم وأوهامهم السالفة من إسرائيل، الأمر الذي يمهد لتحسين المعادلة العربية وفتح فرص أفضل لتسويات أكثر عدالة.
لقد لاحظ الإسرائيليون أن الجيش الإسرائيلي قد عجز في حرب لبنان الثانية العام 2006 عن إلحاق الهزيمة ببضعة آلاف من مقاتلي حزب الله في الجنوب اللبناني، كما لاحظوا أن هذا الجيش قد عجز في الضفة الغربية عن قمع المقاومة الفلسطينية وعن منع إطلاق صواريخ القسّام من قطاع غزة. وقد أدرك الكثير من هؤلاء أن إسرائيل فقدت قدرتها الردعية وخسرت فكرة كونها الملاذ الآمن الوحيد لليهود، كما وأدركوا أن اسرائيل، خلافاً لدول العالم أجمع، تعاني مشكلة وجودية، ليس كدولة أو كنظام سياسي، بل كمجتمع سياسي ايضاً. والسبب أن المجتمع الإسرائيلي قد قام من الأساس على أسنّة الحراب، وهو باق بقدر ما تبقى هذه الأسنّة قوية وصالحة، إلا أن أحداث السنوات الأخيرة منذ العام2000 وحتى الآن قد جعلت الكثير من اليهود وسائر الناس يشكّون في هذه القوة وتلك الصلاحية، بحيث عاد السؤال الكبير الى الظهور بشكل درامي وهو: «هل من الأفضل للإسرائيلي أن يحمل جنسية دولة أخرى لحماية نفسه من عثرات الزمن؟ أوليس من الأجدى والأفضل لليهودي العيش مثلاً في أميركا أو روسيا بدلاً من إسرائيل؟». وهذا يعني بتعبير آخر أن الصراع قد عاد ليكون صراع وجود لا صراع حدود ومنافع متفرقة فقط.