قضايا اقليمية

إسرائيل بين محاسبة نفسها ومحاسبة شارون
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

مشروع خارطة الطريق الذي تقدم به الرئيس الأميركي بوش لم ينجح وشارون يتخبط في محاكمات تتهمه وأولاده بالفساد المالي والرشوة

 

منذ العام 1967 أدرك الإسرائيليون، إثر زوال فورة الإنتصار ونشوة الإحتلال والتوسع، أن الأراضي التي استولوا عليها في الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان، لن يكون بالإمكان ابتلاعها بأكملها وضمها الى إسرائيل الصغرى، وأنه لا بد في النهاية من التخلي عن قسم منها، وذلك لاعتبارات عديدة أبرزها الإعتبارات السياسية والديموغرافية. وهكذا تلاعب الإسرائيليون بالمصطلحات المستخدمة بشأن هذه الأراضي، فتحولت من أراض تديرها إسرائيل الى أراض متنازع عليها، وصدرت بشأنها مشاريع كثيرة لتسوية أوضاعها: من مشروع وزير الخارجية الأميركي وليام روجرز ومشروع الوزير الإسرائيلييغآل آلون عام 1969، وحتى مشروع خريطة الطريق الذي تقدم به الرئيس الأميركي الحالي جورجدبليبوش والتي عدلها رئيس الحكومة الإسرائيلية الراهنة آرييل شارون.

 

في العام 1977  حصل الإنقلاب اليميني الراديكالي بقيادة مناحيم بيغن الذي ما لبث أن أدرك بسرعة أيضاً أن ضم الأراضي العربية المحتلة سيكون صعباً للغاية إن لم يكن مستحيلاً، لأنه إما أن يوجد واقعاً من التمييز العنصري (ابارتهايد) بين مستويين منفصلين تماماً وغير متساويين على الإطلاق من المواطنة داخل الدولة، أو أن تتحول هذه الدولة الى دولة ثنائية القومية ذات مواطنة متساوية. وعلى الرغم من ذلك فإن هوس الأيديولوجيا والميتولوجيا اليهودية الصهيونية اليمينية يستمر في موازاة المتغيرات الإجتماعية، التي قال بشأنها عالم الإجتماع والمؤرخ العسكري الإسرائيلي اليارز يورام بيري ˜إن كل جيل يهودي يولد في إسرائيل الكبرى يصبح جيلاً جنوب أفريقي أكثر فأكثر، في مواقفه وتطلعاته الجيوسياسية. وأضاف بيري إن آراء العامة اليهود في ما يتعلق بالسكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة ˜ينبغي أن تزعج كل إنسان بقيت لديه أية مشاعر إنسانية. هذه الأمور جميعاً جعلت اليمين الشوفيني يتوهم أن بالإمكان استمرار السيطرة على ما يسميه أرض إسرائيل الكاملة في ظل تمويه مشروع منح شكل من أشكال الإدارة الذاتية للفلسطينيين من دون الحاجة الى الضم القانوني للأراضي، الأمر الذي يمكن تسميته بتعبير آخر تطبيع الإحتلال. إلا أن الانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة خصوصاً منذ العام 1987 وحتى اليوم، جعلت القيادات اليمينية تتخبط في داخل مشاريعها المتوهمة، الأمر الذي أدى الى تصاعد المواجهات وتفاقم العنف الدموي ميدانياً من ناحية ومن ناحية أخرى الى إحداث نوع من الفراغ السياسي اجتذب إليه خططاً على غرار ˜الخطة السعوديةŒ أو المبادرة العربية الواردة في بيان بيروت، ومشروع ˜الدولة الفلسطينية المؤقتةŒ وخارطة الطريق بالإضافة الى طروحات إجرائية أخرى مثل إقامة ˜الجدار الفاصلŒ وطرح احتمال تفكيك بعض المستوطنات وفرض حل على الأرض من جانب واحد من خلال تكتيك التسويف والمماطلة وكسب الوقت.

 

في هذا السياق صدرت أصوات ومشاريـع من قـبل أطراف من اليـمين الليـكودي تدعـو الى إعادة انتشار إنسحاب من طرف واحد وتفكيك بعض المستوطنات غير الأمنية. وجاء ذلك على لسان أمراء التطرّف من أمثال دان مريدور وأوني ميلو وإيهود أولمرت. كما وعرضت مشاريع مقابلـة أيـضاً من قبل المعارضة على أيدي الوزير اليساري السابـق يوسي بيلين صاحـب مشـروع وثيـقة جنـيف بالتعـاون مع الوزير الفلسطـيني السابق ياسر عبد ربه.

 

وفي الوقت الذي تعرض هؤلاء جميعاً لانتقادات لاذعة من قبل أقصى اليمين على لسان وزراء مثل ليبرمان وتساحي هانغفي وآفي ايتام، فإن الدعوات الى القيام بانسحابات سياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة لاقت استحساناً من قبل الأغلبية الساحقة من الجمهور الإسرائيلي الذي تبيّن أن 60% منه يؤيد خطة تفكيك مستوطنات من جانب واحد على ضوء إخفاق المفاوضات الثنائية مع الفلسطينيين المرة تلو الأخرى. وفي الوقت الذي اعتبر وزير الإستيعاب تسيبي ليفني المنتمي الى الليكود بخصوص رسم صورة إسرائيل المستقبلية المرغوب فيها، إن ˜مهمتنا هي أن تكون إسرائيل دولة يهودية ديموقراطية وآمنة، الأمر الذي سيرغمنا على التنازل عن جزء من أرض إسرائيل، فإن زعيم حزب العمل المؤقت شمعون بيريس استخلص من ذلك أن ˜الليكود توصل الى الإستنتاجات الصحيحة.

وكذلك علّق رئيس الوزراء السابق إيهود باراك على هذه المواقف ˜الإيجابية بالقول ˜إن الليكود يستحق يداً ممدودة. وصرح نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت صاحب خطة الإنسحاب من جانب واحد بأن الصراع حالياً يدور بين الذين يريدون الإحتفاظ بمعظم مدينة القدس وبين الذين يريدون التخلي عن كامل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية. وفي رأيه أن الإنسحاب الآنف الذكر من شأنه ˜أن يحافظ على الطابع اليهودي لدولة إسرائيل. وقال: ˜كثيرون هم الذين يفكرون مثلي في تكتل ليكود وأنا لسان حالهم. مع ذلك فإن شمعون بيريس اعتبر أن الحديث عن خطوات من جانب واحد إنما هو بمثابة ˜مضيعة للوقت، مضيفاً أن ˜وراء الحديث عن خطوات أحادية الجانب رغبة بضم أجزاء واسعة من المناطق الفلسطينية، وقال أيضاً: ˜ليس لدينا ما يكفي من الوقت، لقد أهدرنا 25 عاماً بسبب الحلم الكاذب المسمى أرض إسرائيل الكاملة. ويتوجب على من يهيم وراء هذا الحلم أن يأخذ في الاعتبار بأن تأجيل الحل السياسي سيشجع التنظيمات الإرهابية، ويمكنه أن يولّد لدى العرب الإعتقاد بأنه لا يمكن التوصل الى الحل القائم على دولتين لشعبين، لأنه ما تزال هناك أطماع إقليمية. وحذرت واشنطن رئيس الحكومة الإسرائيلية آرييل شارون من موضوع الخطوات الأحادية الجانب التي يخطط لتنفيذها. ويأتي هذا التحذير في أعقاب تحذير مقابل أوصى به طاقم من كبار قادة الجيش الإسرائيلي والمخابرات العامة (أمان) والموساد ويدعو الى إحداث انعطاف سريع في السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، يقوم على أساس إعادة التعامل مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.

 

 على الرغم من كل هذه المتغيرات الدراماتيكية من اليمين واليسار ومن قبل الطرف الأميركي الراعي أيضاً، فإن آرييل شارون الغارق حتى أذنيه في محاكمات تتهمه وأولاده بالفساد المالي والرشوة، ما يزال متمسكاً بإيمانه بأن ˜مليون يهوديŒ إضافياً سيهاجرون الى إسرائيل لرفع التهديد الديموغرافي عنها. وهو من أجل ذلك لا يفوّت أي لقاء مع أي زعيم يهودي قادم من الخارج إلا ويدعوه فيه للمساهمة في دفع يهود الشتات للهجرة الى البلد. وهو من أجل ذلك متفائل ويعتبر أن الوقت يعمل لصالحه وصالح صورة إسرائيل اليهودية القوية والواسعة على غرار طريقة شامير القائلة ˜إن العرب في نهاية المطاف سوف يتكيفون مع الوضع. ومعسكر شارون ­ شامير هذا يتهم اليسار والمعارضة بخيانة إسرائيل وتقويض قدرتها على الصمود والمساومة. في حين أن الجميع، داخل إسرائيل وخارجها، يعلمون بأن هذه العقلية هي التي أدت الى الانتفاضات المتتالية والى صعود وهبوط العديد من المبادرات والمؤتمرات التي وضعت إسرائيل في موقع الرافض الأبدي وأفقدتها الكثير من شعبيتها في أوروبا وأميركا والعالم. والمماطلة والتسويف الشاروني هي التي كانت وراء سقوط آلاف الإسرائيليين والفلسطينيين بين قتيل وجريح، والى هبوط عشرات بل مئات الألوف من الناس الى ما تحت خط الفقر بالإضافة الى هدر مليارات الدولارات عبثاً وتصعيد حدة الكراهية والحقد لدى الطرفين المتنازعين. وعلى الرغم من كل ذلك فإن شارون لم يحقق أي شيء مما وعد به لجهة الأمن والسلام، بل انتقل فقط منذ هرتسليا 2002وطرحه آنذاك مشروع ˜استبدال القيادة الفلسطينية، الى هرتسليا 2003 وطرحه مشروع الدولة الفلسطينية في المناطق أ وب من الضفة الغربية بموجب ما تبقى من أوسلو، مع وعد بالتفاوض بشأن الوضع النهائي، هذا في حين يواجه وضعاً شعبياً متدهوراً (33% من المؤيدين فقط) وتحذيراً من أن الجمهور الإسرائيلي لم يعد يتأثر بالكلام الضبابي عن ˜تنازلات مؤلمة ولا الإكتفاء فقط ببالونات الاختبار.