قضايا اقليمية

إسرائيل تواجه لحظة حقيقية تاريخية
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية

ثمـة وهمـان أساسيان يمكن أن يراودا أفكـار بعض المنتمـين الى فريق المتفائلين الدائمين من دعاة شعار: أعطوا رئيس الحكومة الإسرائيلية فرصة، على غرار ما حصل مع نتنياهو سابقاً ومع شارون حالياً. وهذان الوهمان هما: وهم إعادة إحياء خارطة الطريق التي وأدها شارون في مهدها، ووهم إمكانية قطرها أو ربطها بخطة الفصل التي يدحرجها شارون لوحده بصرف النظر عن أي اعتبار سياسي أو أخلاقي، ما خلا اعتبار الزعم القائل إنه لا يوجد شريك فلسطيني يمكن التفاوض معه. في حين أن الموضوع الوحيد المطروح على بساط التنفيذ، وليس على بساط المناقشة، هو مخطط شارون الإستراتيجي القائم على فكرة الحل الانتقالي الطويل الأمد والمتعدد المراحل، والذي يهدف في خلاصة الأمر الى نسف أية إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة وعاصمتها القدس، وتوطين اللاجئين الفلسطينيين حيث هم في الشتات ومنع عودتهم نهائياً الى الأراضي التي أجلوا عنها عنوة عام 1948. وهذا ما أكده بالفعل وبصورة واضحة ومباشرة دوف فايسغلاس كبير مستشاري شارون حالياً، ومدير مكتبه سابقاً، عندما قال إن خطة الفصل التي يتبناها شارون حالياً بمباركة الإدارة الأميركية، «قد استطاعت منع قيام دولة فلسطينية الى أجل غير مسمى، كما وأتاحت المجال أمام تعزيز الاستيطان وتجميد المفاوضات مع الفلسطينيين لأمد غير محدد».
وفي لعـبة علاقات عامة هدفها التمويه والتضليل، وفي حين يقوم شارون بتوبيخ وزرائه لمجـرد استـخدامهم مصطلح «خارطة الطريق» في بعض تصريحاتهم، تعلن الإدارة الأميركية على لسان الناطقين باسمها عن اطمئنانها الى إلتزام شارون المزعوم بهذه الخارطة! وتأتي هذه المغالطة في وقت يدرك القاصي والداني بأن شروط شارون التعجيزية في وجه خارطة الطريق وفي وجه جميع المحاورين الفلسطينيين وغير الفلسطينيين، إنما تمثل السبب الحقيقي والجوهري في تعطيل أي احتمال، مهما كان ضئيلاً، للذهاب في طريق التسويات السياسية في فلسطين والمنطقة بدلاً من الاستمرار في طريق حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الجيش الإسرائيلي ضد المجتمع المدني الفلسطيني من دون هوادة، وبدلاً من الذهاب بعيداً في تحدي الشرعية الدولية وحاجة شعوب المنطقة والمجتمع الدولي الى الإستقرار والسلام الحقيقيين.
والجـدير بالذكر أن «خطة الفصل» التي يفرضها شارون على اعتبارها اللعبة الوحيدة في المدينة، لم يتم تبنيها من قبله، إلا بعد صعوبات كبيرة، وبعدما تبين له بصورة لا تقبل الشك، بأن المراوحة في المكان مستحيلة، وإلا فإن إسرائيل كانت ستدخل في دوامة التعرض لوابل من المبادرات السياسية الضاغطة من الداخل والخارج، والتي تحمل في طياتها بالتأكيد شروطاً أقل جودة بكثير من الشروط التي تتحرك في ظلها «خطة الفصل»، وخصوصاً إزاء مواضيع أساسية مثل القدس واللاجئين والمستوطنات.
وهـكذا وبذريعة التحرك بموجب هذه الخطة، يتم ترسيخ الاستيطان العنصري ويتم تصعيد الاعتداءات العسكرية والتصفيات والاغتيالات وتهويد القدس وضم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية من خلال استكمال بناء الجدار الفاصل، تحت خدعة الدفاع عن النفس وفي حماية مظلة الفيتو الأميركي في مجلس الأمن.
إن الشيء الوحيد الذي يبدي شارون وحكومته اليمينية المتطرفة استعدادهما للتنازل عنه للفلسطينيين، من منطلق العجز وليس من منطلق كرم النفس، إنما هو قطاع غزة المدمر بصورة شبه كلية على رؤوس ساكنيه، وتحويله من ثم الى سجـن كبـير لمن تبـقى منهـم، في مقابل الاستـفراد بالضفـة الغربية استيطاناً وتهجيراً وتنكيلاً وتنغيصاً للعيش.
المشكلة الوحيدة التي تقف في وجه شارون ومخططاته هي مشكلة اعتراض احزاب المستوطنين المتدينين التي تهدد عقد حكومته بالإنفراط، وتضطره الى التفكير باعادة إحياء أو استنساخ حكومة الوحدة الوطنية بالإئتلاف مع حزب العمل في حال خروج أو إخراج حزبي المفدال والإتحاد الوطني كلياً من الحكومة.
وفي هذا السياق يرى شمعون بيريس، زعيم حزب العمل المؤقت، أنه «لا حاجة لحكومة وحدة وطنية من دون توجه سياسي». وبمزيد من الثقة بالنفس أضاف: «نحن لسنا في جيب شارون... لا توجد لدينا نية في الإئتلاف الحكومي فبرنامجنا يختلف تماماً عن توجه شارون وبرنامجه»، ثم أكد «أن اقتراح الإنسحاب من غزة من دون إشراك الفلسطينيين في التعاون يعني البقاء في غزة».
شـارون من ناحيته يؤمن بصداقـة بيريس وبأهمية التعاون مع حزبه لمصلحة إسرائيل، إلا أن لمثل هذه الصداقة والتعاون ثمناً لا بد أن يتجسد في متغيرات التعبير السياسي والتمثيل الحكومي، مما يهدد مواقع بعض الوزراء الأساسـيين الحاليـين كوزيري الخارجية والدفاع سلفان شالوم وشاؤول موفاز وربما أيضاً وزير المالية بنيامين نتنياهو.
على خلـفية هذه الاحتـمالات تتحرك حسابات كل من حزبي المفدال والاتحاد الوطـني، كما تتـحرك أيضاً حسابات الزعامـات والقـيادات داخـل حزب العمل، حيث يجري الحديث الآن عن عودة محتملة لزعيم الحزب السابق إيهود باراك لاستئناف نشاطه السياسي، بعد فترة من «الاستراحة الإيجابية» على حد قوله، التي جاء في أعقابها ليشن حملة شعواء ضد كل الذين قادوا الحزب من بعده ولا سيما ابراهام بورغ وعمرام متسناع وبنيامـين بن إليعيزر، في حين أن عضـو الكنيـست حاييم رامون اعتـبر تصريحـات باراك هذه أنها مجرد تفاهات. وخـلف المتـراس المقابل داخـل حزب العـمل تحصل مشادات من نـوع آخـر ما بين رئيس الهستدروت عمير بيرتس، الذي ينوي العـودة الى الحزب وبين منافسيه الألداء افرايم سنيه وبنيامين بن أليعيزر ومتان فيلداني، الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب أفضلية في التـنافس على زعامـة الحـزب في المستقبل، ويعلـنون عن تخوفـهم من احتـمال قيـام صفـقة تآمرية ضدهـم ما بين كل من بيريس وبيريتس.
مهما يكن من أمر، فالمراقبون الإسرائيليون يعتبرون حزب العمل اليوم حزباً برؤوس كثيرة ومن دون أجندة سياسية مع أزمة مالية خانقة وقيادة راهنة هي «مجرد عجوز سياسي يلهث للانضمام الى حكومة صديق قديم جديد»، تحت شعار «الحرص على تأمين الانسحاب من غزة وتغيير سلم الأولويات المالية».
وإذا كانـت هذه هي الحـالة المزرية في حزب العمـل فإن أحوال اللـيكود ليست بأفضل منه، فهـذا الحزب بحسب إجماع المراقبين الإسرائيليين قد تحطم أيديولوجياً وتمزّق الكثير من راياته وشعاراته، والتقدير السائد الآن هو أن شـارون الـيوم ليس شارون الأمس، وأنه في مخطط الفصل الذي يرعاه ويدفـع به للتنفيذ إنما يهيئ لنشوب حرب أهلية يهودية بشـكل أو بآخر، بدأت ملامحها بالظهور من خلال اتهامه بالخيانة وتهديده بالقتل، ومن خلال صدور فتاوى تدعو الى عصيان الأوامر العسكرية داخـل الجيش ورفـض المساهـمة في تفكـيك أية مستوطنـة في المستقـبل سـواء في غـزة أو في الضـفة.
إن فترة تقل عن خمسة أشهر فقط تفصل إسرائيل عن لحظة الحقيقة هذه، وفترة زمنية ربما أقصر منها قد تحسم خاتمة شارون السياسية، في وقت يعيش هذا الأخير حالة إنعاش مصطنعة عبر التوهم بإمكانية التضحية بقطاع غزة في مقابل ابتلاع نحو نصف الضفة الغربية، هذا في حين يحذره الكثيرون، من اليمين واليسار، بأن إسرائيل في مقابل ذلك، ربما ستفقد أغلى ما عندها: ديموقراطيتها ووحدتها الوطنية في الداخل وقدراً ملحوظاً من مكانتها الدولية في الخارج.