قضايا إقليمية

إسرائيل في مهمة إعادة التموضع
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية

دخلت إسرائيل منذ بضع سنوات في مرحلة إعادة تموضع إقليمي ودولي على ضوء المتغيرات الدراماتيكية المتعددة الحاصلة في هذين المجالين، ومن أبرزها المتغيرات في تناسب القوة بين القوة الأعظم وهي الولايات المتحدة وباقي القوى العظمى الصاعدة: الصين، روسيا، الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الهند.
وثمة من يسمي المنظومة العالمية المتشكلة بـ«متعددة الأقطاب» (Multi-Polar) فيما يزعم آخرون بأنها «عديمة الأقطاب» (Non-Polar).
وهناك من يواصل الزعم بأن الجبروت الحاسم للولايات المتحدة سيحافظ على فجوة لا يمكن التجسير فوقها مع منافسيها، بالضبط كما حدث منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في اواخر الثمانينيات.

 

تعزيز مكانة روسيا في مواجهة الهيمنة الأميركية
ترى روسيا بوتين نفسها في هذا السياق قوة عظمى تواصل دور الاتحاد السوفياتي سابقًا. وعلى الرغم من التحديات الهامة التي تجابهها داخليًا، فإنها تعمل من أجل تعزيز مكانتها في مواجهة الهيمنة الأميركية. وفي هذا السياق فإن أحداثًا ووقائع مثل أزمة نشر منظومات الدفاع الجوي (الدرع الصاروخي) الأميركي في بولندا وتشيكيا، ونمط إدارة الحرب الروسية في جورجيا، والنتائج السلبية التي خلفتها سياسات ادارة بوش، تضع روسيا في موقع مريح نسبيًا في مواجهة إدارة أوباما التي هي بحاجة، ازاء الحراك الاقليمي الخطير في الشرق الأوسط، إلى قرار بشأن استراتيجيتها الشاملة على محور المواجهة أو التسوية. وتجد السياسة الخارجية الإسرائيلية، إزاء هذا الواقع المتجدد، نفسها مضطرة إلى تموضع جديد لحماية مصالحها عبر مواصلة الحوار الاستراتيجي مع روسيا وأميركا على حد سواء، خصوصًا على ضوء بيع الأسلحة الروسية المتطورة لكل من ايران وسوريا، بحيث بات العثور على المعادلة المناسبة، التي يجب أن تتصرف وفقها السياسة الخارجية الإسرائيلية في العلاقات مع القوى العظمى، أحد التحديات المركزية لهذه السياسة في السنوات المقبلة.

 

صلابة أم نعومة أم حكمة؟
لقد كان معهودًا إلى وقت غير بعيد تقدير عظمة قوة الدول ومكانتها عمومًا وفق معايير القوة العسكرية، أي ما يُسمّى بـ«القوة الصلبة». ولكن في السنوات الأخيرة، وكدرس من ميادين المعارك التي خاضها الناتو في كل من أفغانستان والعراق، ونتيجة الصعود المثير والمدهش للصين والهند، تعزز المفهوم البديل بأن تقدير القوة يستلزم إدراج معايير أخرى، يطلق عليها عمومًا اسم «القوة الناعمة»، والمقصود بها القوة الاقتصادية، والتكنولوجية، والدبلوماسية بل والثقافية، التي يتزايد وزنها النسبي في تموضع الدول على الخريطة الاستراتيجية والمعنوية للعالم. وكذلك شاع أخيرًا على هذا الصعيد، استخدام تعبير آخر هو «القوة الحكيمة»، التي يفترض بها أن تمزج بشكل مثالي بين القوة الصلبة والقوة الناعمة.
ومعلوم أن التفكير الإسرائيلي التقليدي غالبًا ما جعل «القوة الصلبة» المتوحشة في مقدمة الاعتبارات والحسابات الاستراتيجية، وهو مال إلى التبخيس من قدر مقومات «القوة الناعمة» وأهميتها على أساس القاعدة الثابتة ان العربي الجيد هو العربي الميت. وهذا ما كان فعليًا سواء في تقديرات الاستخبارات، التي هي تميل بطبيعتها للتوجهات العسكرية - الأمنية، أو بشأن سيرورات بلورة السياستين الخارجية والداخلية الاسرائيليتين اللتين تقادان بدرجة كبيرة، كما هو معلوم، بأيدي قادة الأذرع الأمنية.

 

قوة إسرائيل العسكريةوالتكنولوجية!
على ضوء ما تقدم يرى رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية عاموس يادلين، أن قوة إسرائيل العسكرية والتكنولوجية، قد ازدادت خلال الأعوام الماضية، غير أن ذلك تزامن مع حدوث تغيير سلبي متواصل بالنسبة لمكانتها وتموضعها في المنطقة. فلقد أصبحت إسرائيل أكثر قوة عسكريًا وتكنولوجيًا، وربما اقتصاديًا، ولكن قوة خصومها العسكرية والسياسية تعاظمت وتزايدت التهديدات التي تواجهها في الداخل والخارج، كما تقلصت فرصها السياسية خصوصًا على المسارين السوري والفلسطيني، وشكلت الخضات العربية سببًا جديدًا لتدهور أوضاعها الاستراتيجية الإقليمية. فالإنذار مع مصر لم يكن إنذارًا عملياتيًا مبكرًا، وإنما كان إنذارًا استراتيجيًا مبكرًا، يقاس بالأعوام، وهو أمر قد تغير جذريًا وينبغي إعادة النظر فيه، من هنا تمّ اتخاذ القرار ببناء 45 كلم من الجدار الفاصل العام الماضي، بانتظار بناء 100 كلم أخرى قبل أن ينصرم هذا العام على الحدود مع مصر.
لهذا لا بد، في نظر الاسرائيليين، من مراقبة ما يحصل في مصر عن كثب، وخصوصًا تداعيات الوضع الداخلي فيها على سياسة اسرائيل الخارجية، وعلى عقيدتها العسكرية، لأن الأوضاع فيها لم تصل إلى درجة الحسم، وبالتالي فحسابات التموضع النهائية على جبهتها لم تكتمل بعد. والمكان الثاني الذي لابد من مراقبته عن كثب لوضع تقديرات صائبة لناحية إعادة التموضع الاقليمي، هو الأردن حيث لا شئ يمكن أن يغير حاجات إسرائيل الأمنية، أكثر من التوتر على هذه الجبهة المترامية الاطراف، وتحول الأردن إلى بلد معاد.

 

الخطر الإيراني بأبعاده الأربعة
من ناحية اخرى يشكل الخطر الإيراني بأبعاده الأربعة (المشروع النووي، ودعم المقاومة والممانعة، ومحاولات المناورة مع الأنظمة العربية، والخطر الأيديولوجي - الثيولوجي)، عاملًا جوهريًا في حسابات إعادة التموضع الاسرائيلي. وتدير وزارة الخارجية الاسرائيلية في السنوات الأخيرة، كما هو معلوم، معركة دبلوماسية واسعة لإحباط المشروع النووي الإيراني برمته بكل السبل المتاحة. وهذه المعركة موجهة لاشاعة أجواء من التوجس والخوف المصطنع من هذا المشروع بمعانيه الاستراتيجية البعيدة المدى، و لإثبات وتثبيت الحاجة الماسة لفرض عقوبات جوهرية ضد إيران كشرط لنجاعة الجهد الدبلوماسي في هذا المجال. والبعد الأيديولوجي - الثيولوجي للخطر الإيراني على اسرائيل هو الأشد تعقيدًا لناحية حساب عناصر الرد الاسرائيلي المحتمل. فنزع الشرعية بصورة مطلقة عن وجود إسرائيل، الذي هو في صلب السياسة الخارجية الإيرانية، يستند إلى أسس أيديولوجية وتاريخية ووجدانية عميقة ويحظى بشعبية متزايدة، ليس فقط في صفوف الجمهور الشيعي، وإنما الجمهور السني أيضًا.

 

اسرائيل مركز التحريض والتخريب والتآمر
في هذه الثقافة نجد أنه إلى جانب الولايات المتحدة «الشيطان الأكبر» تشكل إسرائيل «الشيطان الأصغر» مركزًا أساسيًا للتحريض والتخريب والتآمر على العالمين العربي والإسلامي بطرق متنوعة. وعمليًا تستغل إيران بشكل فعال «القوة الناعمة السلبية» القائمة على الأيديولوجيا الراديكالية المعادية لاسرائيل ثم تترجمها إلى «قوة صلبة»، تتجلى في عمليات المقاومة التي تنفذها المنظمات المدعومة إيرانيًا. وعلى الرغم من أن رئيس الأركان الاسرائيلي الجنرال بيني غانتس قد أكد أنه لا توجد حاليًا أي دولة في المنطقة تمثل تهديدًا جوهريًا لإسرائيل، فقد أشار معهد ستراتفور الاستخباراتي الاميركي على لسان رئيسه التنفيذي جورج فريدمان، الذي شبه حكومة إسرائيل بـالسائق السكران الذي فقد الاتصال مع الواقع، الى أن الكيان الصهيوني يعيش حالة من الخوف والتوتر منذ عقد الاتفاق النووي بين إيران وأميركا، وأنه يشعر بالقلق وعدم التوازن حيال فقد مكانته الاستراتيجية في السياسة الأميركية.

 

المواجهة مستمرة
في ما يتعلق بالمكانة الدولية لإسرائيل في ظل النزاع القائم، يقول فريدمان إن الاحتلال المتواصل للأراضي الفلسطينية يضع إسرائيل في موضع اختلاف، بل حتى في مواجهة مستمرة مع أجزاء كبيرة من المجتمع الدولي، خصوصًا أنه لا توجد دولة واحدة من دول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، تعترف بسيطرة إسرائيل على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، أو تعترف بضم القدس الشرقية أو المستوطنات الإسرائيلية، ولا بخطوط جدار الفصل العنصري الذي تبنيه، بالإضافة إلى التقارير الدولية التي تدين إسرائيل مثل قرار المحكمة الدولية في لاهاي، والذي أكّد عدم قانونية جدار العزل العنصري، ومثل تقرير القاضي ريتشارد غولدستون بشان الارتكابات الاجرامية الاسرائيلية بحق المدنيين في قطاع غزة (2009) ضمن الحملة المسماة «الرصاص المسكوب».

 لقد أصبحت إسرائيل أكثر قوة عسكريًا وتكنولوجيًا، وربما اقتصاديًا، ولكن قوة خصومها العسكرية والسياسية تعاظمت وتزايدت التهديدات التي تواجهها في الداخل والخارج

يشكل الخطر الإيراني بأبعاده الأربعة (المشروع النووي، ودعم المقاومة والممانعة، ومحاولات المناورة مع الأنظمة العربية، والخطر الأيديولوجي - الثيولوجي)، عاملًا جوهريًا في حسابات إعادة التموضع الاسرائيلي