قضايا إقليمية

إسرائيل لا تملك سياسة سلام
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية

منذ الخطوات الأولى للحركة الصهيونية، كان دافيد بن غوريون، أول رئيس حكومة لكيان العدو، والقيادي الأبرز في أربعينيات القرن الماضي، قد أشار في تقرير رفعه الى المجلس العالمي لعمال صهيون العام 1937، الى الأهداف الإستراتيجية الصهيونية البعيدة المدى في المنطقة العربية حيث قال: «إن الدولة اليهودية المعروضة علينا بالحدود الحالية (من قبل اللجنة الملكية البريطانية آنذاك) لا يمكنها أبداً أن تشكّل الحل المنشود لمسألة اليهود، ولا هدف الصهيونية التي سعت اليه طويلاً، حتى لو أجريت على هذه الحدود بعض التعديلات الممكنة واللازمة لصالحنا. إلا أنه يمكن قبولها بوصفها المرحلة الأولى والأساسية التي تنطلق منها تتمة مراحل تحقيق الوطن الصهيوني الأكبر، وذلك من طريق بناء قوة يهودية جبارة فيها، وبأقصر وقت ممكن، ثم احتلال باقي مناطق مطامحنا التاريخية كلها». وبالفعل ما لبث قادة إسرائيل، وفي مقدمتهم بن غوريون، أن ربطوا منذ بداية خمسينيات القرن الماضي، خيار الردع النووي الأحادي الجانب بالأمن الإسرائيلي الشامل وباستراتيجية السيطرة على الشرق الأوسط بأكمله وتفكيك ملفات التحرر والتقدم والتوحد العربية كافة.
وكان البروفسور الإسرائيلي المناهض للصهيونية يسرائيل شاحاك أفضل من شرح وبيّن حيثيات وملابسات الإستراتيجية الصهيونية تجاه المنطقة في كتابه: «إسرائيل - إستراتيجية توسعية مغلفة بالسلام»، حيث قال: «إن الهدف الرئيس للسياسة الإسرائيلية هو السيطرة الإقليمية على الشرق الأوسط بأكمله... والمخطط الإسرائيلي على هذا الصعيد يقوم على تحييد الفلسطينيين وشلّهم والسيطرة الكاملة عليهم، حتى تتفرّغ إسرائيل الى إنجاز أهدافها الحقيقية. والسيطرة على الشرق الأوسط الأكثر أهمية في التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي». ويضيف: إن النفوذ الإسرائيلي على السياسات الأميركية هو أهم وسائل إسرائيل في تنفيذ مخططاتها. ثم يتحدث شاحاك عن الأسلحة الإستراتيجية الإسرائيلية ويقول: «إن إسرائيل لا يمكن أن تسمح لأي دولة في الشرق الأوسط بتطوير إمكانات نووية، وهي تعطي لنفسها الحق الحصري في استخدام ما تراه مناسباً من وسائل لمنع نشوء مثل هذا الإحتمال حتى تظل في وضع إحتكار للسلاح النووي وامتلاك الرادع النووي من دون أي منازع». وقد أكد وزير حرب العدو  الحالي الجنرال إيهود باراك في حينه بأن «إستراتيجية إسرائيل للعام 2020 ترفض الإندماج بالمحيط وتعتمد التفوق التكنولوجي». وفي هذا السياق وعلى طريق تحقيق الأجندة الإستراتيجية الإسرائيلية للسيطرة على المنطقة بأكملها، قسمت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية هذه المنطقة الى ما تسميه «دوائر التهديد الإستراتيجي لإسرائيل» لتسهيل مهمة تفكيكها والإستفراد بعناصرها وهي كما يلي:
- الدائرة الفلسطينية الأقرب التي تعمل إسرائيل عبر حكوماتها المختلفة، على تفكيكها وتصفية عناصر الإزعاج فيها وخصوصاً المقاومة العملانية وروح المقاومة وثقافتها (نظرية كي الوعي).
- الدائرة العربية المحيطة بالكيان في تجلياتها الرسمية والشعبية (الجيوش النظامية والمقاومات الشعبية).
- دائرة الدول الأبعد مثل إيران والعراق وليبيا وباكستان... الخ.
- الدائرة الدولية بتجلياتها وامتداداتها وتأثيراتها على معادلات وموازين القوى، في المنطقة عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً.
وفي إطار التعاطي الإسرائيلي مع هذه الدوائر راحت المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية تعمل منذ العام 1956 ومروراً بالعام 1967 ووصولاً الى حروب السبعينيات (مساهمة إسرائيل في الحرب الأهلية اللبنانية ثم عملية الليطاني العام 1978) ثم الثمانينيات (حرب لبنان الأولى العام 1982) ثم التسعينيات والسنوات الأولى من القرن الحالي (1993، 1996، 2006، 2008 و2009 في لبنان وفلسطين)، على تفكيك الملفات العربية الكبرى (الوحدة العربية والمقاومة العربية) وتحييد معظم التهديدات التكتيكية الفلسطينية والعربية القائمة أو المحتمل قيامها في الدائرتين الأولى والثانية. وخلال الفترة الأخيرة وجدت إسرائيل نفسها وجهاً لوجه أمام تهديدات الدائرة الثالثة المنحصرة حالياً في إيران كدولة صناعية صاعدة أمسكت بقوة بالتكنولوجيا النووية وتكنولوجيا الصناعات الثقيلة بما فيها الصناعات الحربية المتنوعة في البر والبحر والجو. وفي هذا المجال أعلن رئيس حكومة العدو الحالي بنيامين نتنياهو أمام مؤتمر سابان العام الماضي: «إن السلام لن يحل قبل مواجهة ثلاثة تهديدات لإسرائيل وهي: سعي إيران للحصول على سلاح نووي، والتصدي لصواريخ حزب الله في لبنان وحماس في غزة التي تهدد إسرائيل، وأخيراً تعزيز تحصين الأمن الإسرائيلي». وفي رأي نتنياهو أنه لا بد من بلوغ هذه الأهداف مهما كان الثمن، وساعده في ذلك ايضاً وزير حربه باراك الذي قال إنه لا بد للولايات المتحدة من أن «تتجهّز لعملية عسكرية ضد إيران». وأضفى الوزير يوسي بيليد بعداً تاريخياً على تصوراته فقال: «إن إسرائيل عليها مسؤولية وجودها الفيزيائي أولاً، وطبقاً لهذا المبدأ علينا أن نتخذ القرارات... إن التاريخ منحنا هدية وحيدة ولمرة واحدة وهي (دولة) إسرائيل، وواجبنا الأعلى هو حمايتها والدفاع عنها... وإذا نحن ضيّعنا هذه الهوية فلن نحصل على فرص أخرى... والمشروع النووي الإيراني يجب أن يزعجنا ويقلقنا في مستوى النظرة الوجودية». وكان الرئيس الأميركي السابق جورج بوش قد تبنى الأجندة الأمنية والسياسية الإسرائيلية بحذافيرها على مدى سني ولايته بدعم تام من قبل المحافظين الجدد الذين يسمون تكتلهم السياسي بإسم «ليكود الولايات المتحدة». وحالياً تطلق إدارة أوباما التهديدات والتحذيرات على مدار الساعة وتقوم بنشر الدروع الصاروخية حماية لإسرائيل، من دون أن تتوافر لها حتى إمكانية الإعتراض على تسارع الإستيطان وتدمير بيوت الفلسطينيين في القدس وسائر أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة.
وهكذا يتبين أنه على مدى أكثر من ستين عاماً، لم تتبنَ إسرائيل سوى سياسة العدوان والحرب وهي رفضت وترفض كل المبادرات الدولية والعربية، بما فيها مبادرة إعلان بيروت القائمة على القرارات الدولية والنظام الدولي وشرعة حقوق الإنسان العام 2002، وهي تصر على أن ما احتلته العام 1967 من أراضٍ فلسطينية وسورية ولبنانية، أغلى من أي سلام عربي لا يساوي قصاصة الورق التي كُتب أو سيُكتب عليها، بما في ذلك رفضها محادثات التسوية مع سوريا عبر الوسيط التركي. وهذا يعني أن الإسرائيليين يريدون فرض سياسة القوة والأمر الواقع وإختلال الموازين والمعايير القانونية والأخلاقية وفقاً لأهوائهم ومن طرف واحد كمعيار وحيد ومحدد للتفاوض مع العرب بدلاً من التزام القرارات الدولية. ولا شك أن تزايد قوة اللوبي الصهيوني ونجاحه في خلق مراكز نفوذ بارزة داخل مؤسسات الدولة الأساسية ووسائل الإعلام في أميركا، قد جعل من إسرائيل الصبي الشقي المدلل الذي لا يُرفض له طلب والحليف الإستراتيجي المغفورة له كل خطاياه، وفي هذا المجال يقول عضو الكونغرس السابق بول فندلي: «لقد أصبحت كل الأعمال التي تقوم بها إسرائيل يُنظر اليها كتصرفات تصب في مصلحة أميركا»، الأمر الذي جعل المجتمع المدني الأميركي يظن بأن كل ما تقوم به إسرائيل من جرائم وحروب إبادة جماعية كما حصل في قطاع غزة وجنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية إنما يصب في المصلحة الإستراتيجية الأميركية. ولا شك أن الكل يعلم بأن الدعم الأميركي لإسرائيل قد فاق أي تصور، ولم يحدث في التاريخ أن قدّم بلد ما الى بلد آخر هذا المستوى من الدعم المادي والدبلوماسي لهذه المدة الطويلة من الزمن، في ظل ذرائع من المستحيل أن تقنع أي عاقل شريف في هذا العالم.