قضايا إقليمية

إسرائيل والإحتلال والطريق المسدود
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

تعيش إسرائيل اليوم وضعاً فريداً من نوعه من الارتباك والعجز
مردُّه الى الدمج التعسفي لسياسة الأمن العسكري في الخطاب الديني القومي

بعض المحللين الإسرائيليين يقول إن الخلاص لا يمكن أن يأتي إلا عن طريق «حدث تاريخي دراماتيكي يزعزع الأسس الإجتماعية ويزلزل الأرض تحت أقدام الإسرائيليين»


لا يوجد هناك أي خلاف بين الباحثين والمراقبين المعنيين بالشأن الإسرائيلي حول أن إسرائيل ما قبل العام 1967، أي عام الاحتلالات الكبرى للأراضي العربية وخاصة الفلسطينية هي مختلفة تماماً عمّا بعدها. وثمة إجماع على أن النظام السياسي الإسرائيلي لم يستطع الاحتفاط بالصفات التي ميّزته في الفترة التأسيسية الأولى، وخصوصاً القدرة العالية على قيادة المجتمع واتخاذ القرارات الحاسمة وضمان الاستقرار الداخلي، فبعد العام 1967 عجز النظام السياسي الإسرائيلي عن المحافظة على قوته وقدرته وتجلّى ذلك في تزمّت القيادة السياسية وامتناعها عن إحداث تحوّلات مؤسسية موازية للتحوّلات التي شهدها المجتمع، مما أوصل النظام الحاكم الى طريق مسدود وعدم قدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة والمصيرية بشأن طبيعة إسرائيل المستقبلية الجيوسياسية والثقافية على حد سواء.
لقد أحدثت حرب العام 1967، التي كانت بمنزلة عملية جراحية سريعة وناجحة، تحوّلات جذرية في المجتمع الإسرائيلي، من حيث أنها أثارت من جديد النقاش الطاحن حول الغايات العليا للحركة الصهيونية وأساليب تحقيقها. وأصبح هذا النقاش، مع الوقت، دليلاً واضحاً على غياب الإجماع «الوطني» حول القضايا المصيرية، الأمر الذي أضعف قدرة القيادات المختلفة، من اليمين واليسار والوسط، على حسم مصير الأراضي المحتلة. وقد عبّر النائب في الكنيست الإسرائيلي، يوسي ساريد، عن هذه الحالة بالقول: «لقد اعتقدنا بأننا احتلينا المناطق، لكننا اكتشفنا في ما بعد أن المناطق (المحتلة) هي التي احتلتنا وليس العكس». ويضيف ساريد أنه لولا الاحتلال لكانت إسرائيل اليوم أفضل بدرجات كبيرة مما هي عليه الآن. فالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بعد العام 1967 لم تعد تتعاطى مع المشاكل الحقيقية التي تواجهها كدولة، إنما تعاطت فحسب مع المناطق الفلسطينية المحتلة والقضية الفلسطينية ومنظمة التحرير والأراضي المحتلة والحدود العتيدة المفضلة، وما الى ذلك من شجون وقضايا. وهذا كله بالطبع، جاء على حساب دعم التربية والتعليم والثقافة والرفاه، وما الى ذلك من شؤون تنموية تهتم بها أية دولة عادية أخرى.
لم تكن حرب العام 1967، كما أرادها الكثير من الإسرائيليين، حدثاً منفرداً ومنقطعاً عن سياقه التاريخي المتصور، فحرب العام 1973 وما تلاها في ما بعد من ظهور أشكال جديدة وجدية من المقاومة منذ اجتياح لبنان العام 1982 ومن ثم الانتفاضات الفلسطينية العام 1987 والعام 2000، قد أحدثت الخلل الدائم في أهم القواعد المتفق عليها في السياسة الإسرائيلية، والكامن في الفصل التام ما بين السياسة الخارجية والشؤون الداخلية، وهذا الأمر تجلّى بشكل واضح في ما بعد في كون جميع المواجهات العسكرية والأمنية التي خاضتها إسرائيل في كل من فلسطين ولبنان، قد باتت مثار خلاف حاد بين مختلف النخب الإسرائيلية السياسية والعسكرية والأمنية. وقد أدى غياب الإجماع الداخلي في اسرائيل حول كيفية صياغة السياستين الخارجية والداخلية، الى تحطيم ثقة الإسرائيليين بالقيادات السياسية عموماً، الأمر الذي تجلّى في بروز أزمة قيادة، والى حصول إختلاط موضوعي بين القضايا «الوطنية» المتنازع بشأنها، وعدم إمكان البت أو الفصل ما بينها. وهكذا غرقت إسرائيل في أتُّون أزمة أيديولوجية تتفاعل فيها فكرة التحرر القومي - العلماني مع فكرة الخلاص الديني. والعجز عن إيجاد مخرج سياسي من هذه الأزمة، أدى الى إضعاف العنصر العلماني في الصهيونية بصورة تدريجية وصعود نجم الحركات الدينية (مثل غوش ايمونيم) ذات الطروحات الخلاصية الشاملة التي بادرت الى التغلغل أكثر فأكثر في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية وصولاً الى جهاز القضاء، وهذا ما انعكس بشكل واضح في نشوء مأزق الخيار ما بين دولة يهودية ودولة ديموقراطية، مع ما يعني ذلك من حيرة وارتباك بشأن تقرير مصير المناطق الفلسطينية المحتلة وسكانها. وعلى هذا الأساس اعتبر اريك كوهين، عالِم الاجتماع الإسرائيلي، أن «الصهيونية تحولت من طوباوية ورؤية وخطة عمل مستقبلية لمجتمع مثالي، الى مجرد ايديولوجيا أي مجرد وسيلة للدفاع عن مصالح النخب السياسية المنتفعة واستمرار الوضع القائم»، أي استمرار الجمود السياسي مع محاولات متناثرة لتحريك زوايا معينة وضيقة في المشهد السياسي العام مثل اللجوء الى الحلول الأحادية الجانب وإقامة الجدران الفاصلة والتلويح بمفاوضات رمزية وشكلية هنا وهناك. وفي ظل هذا الجمود والطريق المسدود حصل تحوّل كبير في القيم الإجتماعية - السياسية وفي معايير السلوك الشخصي التي أخذت منحى النزعات الفردية على حساب الجماعة القومية، ومنحى تبلور تيار قومي ديني «أصولي» في قيمه ومعاييره ومواقفه، ومنحى تطوير مؤسسات مدنية لا تخضع لإرادة السلطة السياسية، بحيث بدأت عملية «أمركة» المجتمع تترسخ في كل شيء ولا سيما اتساع الفجوة الفاصلة بين الأغنياء والفقراء. وفي هذا السياق برزت أصوات تنادي بإجراء إصلاحات في النظام السياسي الفاسد وفسح المجال أكثر فأكثر أمام زيادة تأثير المجتمع المدني في صنع القرار السياسي وخصوصاً الفئات المثقفة العلمانية التي تطالب بوضع دستور وبفصل الدين عن الدولة، على خلفية ضعف الثقة بالقيادات السياسية والهبوط الكبير لقوة الأحزاب ونفوذها والتراجع في سياسة الرفاه مقابل تصاعد الخصخصة والعولمة.
بصورة إجمالية تعيش إسرائيل اليوم وضعاً فريداً من نوعه من الارتباك والعجز مردُّه الى الدمج التعسفي لسياسة الأمن العسكري في الخطاب الديني القومي، مما أنتج موقفاً ايديولوجياً ملتبساً بشأن الأراضي المحتلة في فلسطين وسوريا، والى حد ما لبنان، وبشأن ما إذا كانت هذه الرقعة من الأرض تشكّل جزءاً لا يتجزأ من «دولة اليهود التاريخية» أم لا. وإسرائيل اليوم تجد نفسها مقيدة بالشعارات المشحونة بالعواطف والديماغوجيا التي أنتجتها الزعامات المتنافسة بوحشية على السلطة (شارون، نتنياهو، باراك، موفاز، أولمرت، ليفني...) بحيث أصبح من المتعذر جداً إحداث تغييرات في السياسة الخارجية والأمنية من دون مسّ الإحاسيس المرهفة لدى الجمهور وفقدان تأييده، ما جعل رجال السياسة يخافون بعضهم من بعض ويفضلون ركوب الموجة الشعبوية المهيمنة وفقاً لأسس «الشرعية» الجديدة.
إن إسرائيل اليوم تعيش حالة من الانقسام العميق والتقاطب السياسي الى حد وضع نفسها ومعها المنطقة برمتها في طريق مسدود لا يسمح بالوصول الى اتخاذ قرارات حاسمة، بل الى مجرد مسكّنات سياسية هشّة لا يلبث مفعولها أن يزول بسرعة، لتعود المشكلة الأساسية، وهي الاحتلال والتوسع، من جديد، الى رأس جدول الاهتمامات، الأمر الذي جعل بعض المحللين الإسرائيليين يقول إن الخلاص لا يمكن أن يأتي إلا عن طريق «حدث تاريخي دراماتيكي يزعزع الأسس الإجتماعية ويزلزل الأرض تحت أقدام الإسرائيليين».