قضايا إقليمية

إسرائيل والحرب الناعمة
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية


انتشر مفهوم الحرب الناعمة - بمعنى النفوذ والتأثير المعنوي - بعد نهاية الحرب الباردة، بعدما تبيّن أن السياسة الدولية لا يمكن أن تعتمد على القوة العسكرية فقط. ومع سيطرة العولمة ومجتمع المعرفة ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، اكتسبت القوة الناعمة دفعًا وتأثيرًا جديدين. بتعبير آخر، إنّ حربًا من نوع جديد قد اكتسحت العالم، وهي لا تعتمد على الدبابات والطائرات والصواريخ وسائر وسائل الحرب التقليدية بشكل خاص، بل على أفكار وتقارير وأبحاث ومعلومات وإعلام. والهدف من هذه الحرب، هو تحقيق الضالعين فيها أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية والاقتصادية والثقافية والجيوستراتيجية. إنها باختصار «حرب الأفكار والمعلومات» التي تتنافس فيها الدول القوية على مركز الريادة، لتفرض رؤيتها ومصالحها الخاصة على العالم من موقع القوي المنتصر.

 

تغييرات في النسيج الاجتماعي العربي
حتى وقت قريب، كانت الأقطار العربية على وجه العموم تتميّز بالقيم الثقافية الإيجابية، بما فيها التسامح وعمق مشاعر الخير والسلام وكراهية العنف والترابط الأسري والتديّن السامي والتكافل والتلاحم الاجتماعي، بيد إنّ هذه القيم تعرّضت في الربع الأخير من القرن العشرين لنوع من الخلخلة العنيفة التي أثّرت سلبًا على تلاحم النسيج الاجتماعي وتماسكه. فقد انتشرت مظاهر الفتنة الطائفية والتعصّب والجمود والتطرف الديني، مما أسهم في إضعاف المناعة الذاتية الوطنية والاستقرار الاجتماعي، كما أدّى إلى تشويه السمعة والمكانة في الخارج وبالطبع إضعاف الإرادة على تحقيق التقدم. يضاف إلى ذلك جمود التطور السياسي وتسلّط النظم الحاكمة، وعدم اعتراف بعض النخب بأنّ العلم والتكنولوجيا عنصران أساسيان من عناصر الثقافة. فالواقع الثقافي العربي الراهن يعيش حالة من الثنائية بين التقليدي والعصري، إذ يجري تقليد الحداثة الغربية بشكل استهلاكي ظاهري، وفي الوقت نفسه توجد مرجعية دينية تنتمي إلى القرون الوسطى، وتحكم رؤية بعض العرب للعالم. وفي هذا السياق نجد الاجتهادات والفتاوى التكفيرية والتضليلية والابتعاد الكلّي عن عالم المعرفة والعلم، وصولًا إلى اعتبار أنّ الأرض لا تدور حول نفسها وأنّ الانسان يستحيل أن يصل إلى القمر، إلى ما هنالك من ترّهات وأباطيل.

 

الحرب الدائمة
على ضوء هذه التحولات وهذا الواقع الرديء الذي تعيشه الأقطار العربية، وما تتعرّض له من حرب ناعمة شرسة تخلّف مفاعيل سلبية وتخريبية، لا بدّ لنا من أن ناخذ بعين الاعتبار بعض الحقائق والملاحظات:
1- علينا أن نعرف أنّنا مع أعدائنا وخصومنا في حالة حرب دائمة وعلى مدار الساعة، الأمر الذي يحتّم علينا العمل الدؤوب والمتواصل لمواجهتها لحظة بلحظة، لا أن نتوقف في مرحلة معيّنة ونواجه في مرحلة أخرى على قاعدة الفعل وردة الفعل.
 2- الحرب العسكرية تحصل عند اليأس من الحرب الناعمة أو الرغبة باستعجال النتائج، ولذلك كلما كانت لدى خصومنا آمال بالحرب الناعمة، فإنّهم يؤخّرون حربهم العسكرية بشكل تكتيكي واستنسابي. وقد تكون الحرب الناعمة في بعض الأحيان بديلًا من الحسم العسكري، وذلك بسبب استنفاد فائض القوة المادية والعجز عن الاستمرار بها، مع الإبقاء دائمًا على الحرب العسكرية كخيار بديل ومحتمل، والشواهد على ذلك كثيرة في الحالات التي شهدناها بشكل خاص خلال العقدين الأخيرين في كل من لبنان وقطاع غزة.
3- يتركّز التأثير في المواجهة الناعمة مع أعدائنا على البعد التربوي الثقافي القيمي من ناحية، وعلى التأثير السياسي والدبلوماسي من ناحية أخرى، الأمر الذي قد يحدث تغييرات دراماتيكية ويؤدي إلى قلب الواقع رأسًا على عقب لمصلحة الأعداء.
4- لا بدّ لنا على الصعيدين المحلي والقومي، من حشد قوانا جميعًا في مختلف المجالات والاستفادة من كل الطاقات، إذ لا يمكن أن تكون المواجهة مقتصرة على فريق من دون آخر، ولا على جماعة من دون أخرى، فكلّنا بحاجة إلى بعضنا البعض في مواجهة هذا النوع الجديد والخطير من الحرب، وإلا ستصيبنا حالة من الانهيار والتداعي على طريقة الدومينو، ونؤكل جميعًا الواحد بعد الآخر، وهذا يتطلّب أن تتكاتف جهودنا، في كل المراحل، لمواجهة التحديات على مختلف الأصعدة والاتجاهات.
5- الحرب الناعمة مفتوحة على كل الأفكار والوسائل والمواقف السياسية والمعنوية التي تصب في خانة التأثير على قوة الوطن والمواطنين، وهي من أجل ذلك تستخدم كل أساليب الفتنة المذهبية وضخ الأكاذيب وشيطنة القوى الإيجابية وبث الشائعات المغرضة التي تنطلي على البعض.

 

الخطر يتّسع
من هنا نستنتج أنّ خطر إسرائيل الوجودي على أوطاننا وأمتنا، قد تخطّى مسألة زرعها وتجذّرها كمخفر متقدم لخدمة هيمنة بعض الدول الكبرى، لتتحول إلى دولة رائدة في زرع الفتن وتقويض المجتمعات. فالعقل العسكري الإسرائيلي التزم مفهومًا جديدًا للأمن القومي الإسرائيلي لا يكتفي بالتفوّق العسكري على دول الجوار القريب والبعيد فحسب، بل إنّه يعمل للهيمنة عليه عبر السيطرة السياسية والدبلوماسية والإعلامية والاستخباراتية. وبحسب هذا المفهوم، لا تكتفي إسرائيل بأن تكون الأقوى عسكريًا بين جيرانها، بل لا بدّ لها أيضًا من إضعافهم وشرذمتهم وإشغالهم ببعضهم البعض لتحقيق السيطرة الاستراتيجية الدائمة عليهم. وقد حققت إسرائيل، جزئيًا، غايتها هذه وهي تسعى إلى استكمالها بجملة آليات ووسائل، ابرزها، الحرب الناعمة والفتن الطائفية وتخريب العلاقات السياسية والدبلوماسية بين العرب والدول الغربية المؤثّرة، والإيقاع بين العرب أنفسهم، والاحتلال العسكري المباشر لبعض أراضيهم، ونشر شبكات التجسس والتخريب، وعقد معاهدات الصلح المنفرد، وإقامة أنظمة موالية لها ودعمها. وأخيرًا وليس آخرًا، الحؤول دون انطلاق تنمية عربية مادية وبشرية لتحقيق النهوض والاقتدار الوطني المستقل. وللتدليل على مدى اتساع مفاعيل التفوق والهيمنة، نشير إلى نجاح إسرائيل بسلاحيها الجوي والبحري وأذرعتها الاستخباراتية، في تجاوز جوارها القريب إلى الضرب في العمق البعيد: عملية تحرير أسراها في عينتيبي (اوغندا)، اغتيال ابو جهاد خليل الوزير (تونس)، اغتيال فتحي الشقاقي (مالطا)، تدمير مفاعل تموز النووي (العراق)، ملاحقة واغتيال العلماء النوويين العرب (فرنسا)، عمليات التخريب واغتيال العلماء النوويين (إيران)، تدمير مصانع السلاح والذخيرة (السودان)، نشر غواصات بصواريخ ذات رؤوس نووية في البحر الأحمر وبحر العرب، وصولًا إلى سواحل إيران الجنوبية الغربية.

 

ملامح حرب مضادة
في مقابل ما تقدم من أنشطة إسرائيلية تخريبية، بدأت تظهر منذ مدة ملامح حرب ناعمة مضادة لإسرائيل تجسدت في ثلاثة مسارات هي: تكريس عدم شرعية إسرائيل، وعدم إنسانية الشعب اليهودي، وعنصرية الفكر الصهيوني. وقد حملت هذه الحرب عنوان نزع الشرعية الدولية عن إسرائيل وتجلّت في المنتديات الدولية التي يشكّل العرب والمسلمون فيها غالبية تمكّنهم من طرح مبادرات معادية في منتديات دولية مختلفة، لفرض مقاطعة اقتصادية على إسرائيل في أوروبا، ومقاطعة الخبراء والأكاديميين الإسرائيليين في الجامعات والمؤتمرات الأكاديمية الدولية، واتخاذ خطوات قانونية وقضائية لتقديم كبار السياسيين والعسكريين الإسرائيليين المشهورين بإجرامهم أمام المحاكم الأوروبية. ولا يمكن لهذه الإجراءات أن تتمّ لولا توافر البيئة لذلك في أوروبا، مع دعاية مناسبة. واستعداد الدول الغربية للتسليم بمثل هذه التوجّهات ينبع من علاقاتها الاقتصادية الواسعة مع الدول العربية والإسلامية، ومن اعتبارات داخلية إزاء المسلمين المقيمين لديها، والذين يشكلون نسبًا كبيرة في بريطانيا وهولندا وألمانيا وبلجيكا وفرنسا.