قضايا إقليمية

إسرائيل والمقاومة
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

الحرب الخفية

 

الى جانب الحرب العلنية المشكوفة التي تدور رحاها منذ العام 1982 وحتى اليوم بين المقاومة الوطنية اللبنانية المتمثلة بحزب الله وقوات الاحتلال الإسرائيلية، تدور أيضاً رحى حرب خفية، هي حرب أشباح وأدمغة وأجهزة مخابرات متعددة الجنسية، لا تقل شراسة ودموية عن الأولى. وعملية اغتيال القائد العملاني الفريد من نوعه عماد مغنية المكنّى باسم «الحاج رضوان»، كانت بمنزلة السطر الأخير الذي كتب في سيرة الصراع الطويلة والمريرة هذه.
بطبيعة الحال لم يكن قرار تنفيذ الاغتيال بالأمر البسيط أو السهل، بل كان في منتهى الصعوبة والتعقيد، وهو جاء في أعقاب تخبطات ومحاولات سابقة على مدى نحو ثلاثة عقود من الزمن ولكن من دون جدوى، إذ جاء إدراج اسم الشهيد في قائمة المطلوبين الأساسيين من قبل مخابرات عشرات الدول وفي مقدمها الولايات المتحدة وإسرائيل، بعد أن حاز منها لقب «الثعلب»، وذلك بسبب ما اكتسبه من تقدير وإعجاب بفكره الاستثنائي في اجتراح أساليب التنكر والمباغتة، وهو ليس أكثر من شاب جنوبي من قرية طير دبا لعائلة مزارعة بسيطة، فرض عليها الاحتلال الصهيوني أكثر من مرة النزوح والتهجير الى أحياء ما يسمى حزام البؤس في الضاحية الجنوبية لبيروت.
إنه لمن البدهي أن تثير عملية الاغتيال سيلاً من التساؤلات والتخمينات والاجتهادات. وقد حسمت قيادة حزب الله مسألة تحديد الجهة المنفذة وهي إسرائيل، التي على الرغم من نفيها ضلوعها في العملية، إلا أن التهمة تتلبسها تماماً من خلال الأسلوب والمؤشرات والأهداف وتعليقات الصحف الإسرائيلية نفسها. فقد شبهت صحيفة «هآرتس» سلوك القادة الإسرائيليين المعنيين بعملية القتل بلص الدجاج الذي ينفي عن نفسه دخول القن لكن ريش الدجاج يعتلي رأسه. كما وأن الفرح المبالغ فيه الذي أبداه هؤلاء القادة بسبب النجاح الذي أحرزوه، دفعهم على الفور ومن دون أي تأخير الى تمديد فترة ولاية رئيس الموساد مئير داغان، الذي تسلّم الموساد في مرحلة إخفاق وتقهقر منذ العام 2002، وإذا به الآن يحرز إنجازاً ثميناً في وقت عزّ على إسرائيل تحقيق أي إنجاز عسكري ملموس بالسهولة والثمن البخس اللذين كانت تحقق بهما إنجازاتها السابقة منذ هزيمة العام 1967 المدوية.
لا شك بأن عملية الاغتيال قد أتت في سياق التخبط الإسرائيلي مع نتائج لجنة التحقيق الإسرائيلية برئاسة القاضي فينوغراد في الاخفاقات العسكرية والسياسية واللوجستية والأمنية إثر عدوان تموز 2006. وهي تأتي كمحاولة من طرف المؤسستين العسكرية والأمنية لاستعادة الاعتبار المفقود شعبياً وإقليمياً ودولياً، عبر توجيه رسائل فجة الى كل من سوريا وإيران اللتين تدعمان حزب الله، عبر عملية القتل الهادف والدقيق. والعملية تنطوي ايضاً على مغازٍ يمكن قراءتها وتحليلها على خلفية المأزق الداخلي اللبناني والتجاذبات الحادة بين مجموعة كبيرة من الأطراف العربية والغربية والإسلامية في منطقة الشرق الأوسط. وهذا ما يفسر الاحتياطات الواسعة لدى مختلف الأطراف في هذه الحرب المزدوجة المعلنة والخفية، حيث لكل طرف أسلحته وتحالفاته وحساباته الخاصة وبنوك الأهداف الممتلئة، مع ما يصاحب ذلك من حالات رعب من الآتي المجهول. لكن الجدير بالذكر أنه تروج في أوساط الرأي العام الإسرائيلي حالياً حالة من التململ والانتقاد لقرار الاغتيال المذكور، الذي يعني أن إسرائيل أقحمت نفسها في حرب مفتوحة خطيرة قبل أن تنهض أو تتعافى من نتائج وجراحات حرب تموز وتداعياتها. والكلام يدور هناك حول أن القرار القاتل إنما جاء لتحقيق مكاسب شخصية تتعلق بالحكم والاستمرار فيه، وهذا لا يعتبر انتصاراً بقدر ما هو تعميق للهزيمة والتهور.
في مطلق الأحوال هناك أيضاً أهداف ذات أبعاد أكثر خطورة وأهمية مثل تعويض العجز الإستراتيجي الذي أصاب مراكز التخطيط والتقرير في كيان العدو، الأمر الذي تجلى بوضوح في فقرات تقرير فينوغراد النهائي الذي طالب باستعادة عنصر الردع الذي من دونه لا وجود ولا استمرار لإسرائيل في شرق أوسط ملتهب وممانع. وفي هذا السياق تخضع القوى العسكرية والأمنية الإسرائيلية لدورات إعادة تأهيل وتسليح مكثفة يشارك فيها طواقم من الخبراء الأميركيين المتخصصين، ومن ضمنهم خبراء نفسيون بهدف رفع معنويات الجندي الإسرائيلي المنهارة وإعادة ثقته بنفسه وبقياداته السياسية والعسكرية.
وما من شك في أن ما تقوم به إسرائيل من اعتداءات وانتهاكات منذ توقف الأعمال الحربية في شهر آب 2006 ومن ضمنها الضربة الجوية قرب دير الزور السورية واغتيال القائد مغنية، إنما تأتي ضمن مسلسل طويل يهدف الى إعادة موضعة إسرائيل في المركز الأول الذي فقدته كقوة ردع إقليمية مرهوبة الجانب، وهذا الأمر يجعلنا نتوقع المزيد من الاعتداءات والاغتيالات الصهيونية التي ربما تمهد لأعمال حربية أوسع في المستقبل. فإسرائيل منذ تأسيسها لم تقم لكي تعيش كبلد طبيعي سوي الى جانب سائر بلدان المنطقة وشعوبها، بل إنما أسسست ككيان إستعماري عنصري توسعي لتكريس الضعف والتمزق والتبعية في هذه البلدان والشعوب. وفي ضوء هذه الحقائق لا تعود هناك قيمة أو أهمية لسقوط رئيس الحكومة إيهود أولمرت أو عدم سقوطه، فالفارق بين القيادات والبرامج والأيديولوجيات الإسرائيلية بات فارقاً ضئيلاً جداً ولا يكاد يذكر. والجميع متفق هناك على الفرار من لحظة الحق والحقيقة التي لا تعني سوى أمر واحد فقط، وهو إنهاء الاحتلالات وإنصاف الشعوب العربية التي لن تنفك تقاوم وتقاوم الى حين الوصول الى إقرار العدالة القانونية والإنسانية، التي من أبرز تجلياتها إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة وإنهاء قضية اللاجئين وإعادة الحقوق المغتصبة من أرض ومياه وسيادة الى أصحابها الشرعيين، خصوصاً في الدول المحيطة بهذا الكيان السرطاني.
إن إسرائيل الظالمة والإرهابية والمجرمة لن تنفعها أجهزة الرصد والتحليل العاملة على مدار الساعة، فهي تدرك حجم انتهاكاتها وارتكاباتها، وهي الآن في مرحلة انتظار وترقب لما ستفرزه تحضيرات المقاومة وإجراءاتها لا سيما على ضوء تشبثها بجديتها وصدقيتها وتحمّلها المسؤولية مهما كانت ثقيلة وقاسية.
إن الجهات الإسرائيلية المسؤولة عن عدوان تموز لم تشأ حتى الآن التوصل الى وقف رسمي ونهائي لإطـلاق النـار مع المقاومـة اللبنانية، وبالتالي فهي تعتبر أن تلك الحرب العدوانية ما تزال مستمرة وإن بأشكـال مختلفـة، وذلك من أجل فـرض وإدارة تطـورات خطيرة قد تمس رسم الخرائط الجيـوسياسيـة في المنطقة، وقد تمـتد لتطـال التحالفات والمحاور والمعادلات القائمة، وما يجري في الضفة الغربية من بناء جدران وتوسيع مستوطنات ما هو إلا نموذج لفرض الأمر الواقع الاستعماري الظالم.
باختصار إن عملية اغتيال الشهيد مغنية، إنما تمثل معلماً مميزاً على طريق الآلام الطويل المفروض غصباً وإكراهاً على المنطقة، وهي تأتي لمنع اللبنانيين والفلسطينيين وسواهم من أصحاب الحقوق، مـن أن يعيشوا حريتهم وسيادتهم واستقلالهم بالشكل الذي تقتضيه شرعة حقـوق الإنسان والشرعيـة الدوليـة الحقيقيـة غير القائمة على تزوير التاريخ وفرض شريعة الغاب.

 

تخضع القوى العسكرية والأمنية الإسرائيلية لدورات إعادة تأهيل وتسليح مكثفة، يشارك فيها طواقم من الخبراء الأميركيين المتخصصين، من أجل رفع معنويات الجندي الإسرائيلي المنهارة وإعادة ثقته بنفسه وبقياداته السياسية والعسكرية