قضايا إقليمية

إسرائيل ومشاكل استخدام القوة المفرطة
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

على الرغم من انهماك إسرائيل المتواصل وهوسها الجنوني، منذ نشأتها، بتعزيز امتلاكها عناصر القوة العسكرية الأكثر فتكًا وتفوقًا وتطورًا في العالم، فإنها في العقد الأخير باتت تعاني مشاكل جدية في إثبات هذه القوة والقدرة على استخدامها، ليس فقط أمام الخصوم، وإنما أمام نفسها.


تجلّى هذا الأمر بشكل خاص في نتائج لجنة التحقيق «فينوغراد»، التي تشكّلت عقب عدوان تموز على لبنان في العام 2006 أو ما سمي باسم «حرب لبنان الثانية». فقد انكشفت المفارقة الفاضحة بين واقع امتلاك القوة، وعدم القدرة على الاستفادة منها وتفعيلها سياسيًا، ما أدى إلى انتصار المقاومة وسقوط العديد من الرؤوس الكبرى كرئيس حكومة العدو أولمرت ورئيس أركان الجيش دان حالوتس وسواهما. ومن هنا سقطت أيضًا شعارات صارخة في المجتمعين الإسرائيلي المدني والعسكري كشعار «دعوا الجيش ينتصر» وشعار «ما لا يتحقق بهذا القدر من القوة يمكن أن يتحقق بقدر أكبر منه» والمقصود منهما تأمين الغطاء السياسي للإفراط في استخدام القوة العسكرية الكاسحة وصولًا إلى تحقيق النصر الساحق بصورة واضحة ونهائية كما يتمنى الإسرائيليّون وحلفاؤهم.
راقب العالم بفزع، ولعدة أسابيع، المشهد الدرامي في قطاع غزة، بعد إطلاق القوات الإسرائيلية العنان لقوتها المفرطة والمميتة ضد المحتجين الفلسطينيين المدنيين في مناسبة يوم الأرض ويوم النكبة، ومن بينهم أطفال ونساء، ممن خرجوا ليطالبوا فقط بحقهم في العيش بكرامة وإنهاء ما يقارب 11 عامًا من الحصار القاسي والجائر. ومعلوم أنً السلطة الفلسطينية كانت قد طالبت مرارًا الأمم المتحدة باتّخاذ الإجراءات القانونية الآيلة إلى توفير الحماية الدولية لهؤلاء الفلسطينيين، لكن من دون جدوى.
واجهت السلطات الإسرائيلية موجة من الاحتجاجات والانتقادات لإرغامها على التراجع عن سياساتها الهوجاء وغير الإنسانية في استخدام القوة المفرطة على وجه السرعة، وعلى التقيّد بالتزاماتها القانونية الدولية والتحقيق في استخدامها المروع للذخيرة الحيّة ضد محتجين مدنيين عُزّل، وما نجم عن ذلك من عمليات قتل متعمد وغير مشروع. وطالب المحتجون السلطات الإسرائيلية باحترام حق الفلسطينيين في الاحتجاج السلمي، معبّرين أنّه في حال وقوع أعمال عنف، فعليها ألّا تستخدم سوى القوة الضرورية فقط للتصدي لهذه الأعمال. وإسرائيل لم تنسَ بعد تقرير القاضي الدولي غولدستون (2009) الذي اتّهمها بانتهاك القانون الدولي العرفي وممارسة التمييز العنصري وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ذلك أنه بموجب القانون الدولي «لا يمكن استخدام القوة المميتة إلّا عندما لا يمكن تجنبها لتوفير الحماية من التهديدات الوشيكة للحياة». وقد قال نتنياهـو يومها: «إنّ يد إسرائيل في حروب المستقبل لن تكون طليقة تمامًا».
وبينما أشار الجيش الإسرائيلي إلى أنه سيحقق في سلوك قواته خلال الاحتجاجات الأخيرة في غزة، فإن التحقيقات التي أجراها كما سابقاتها لا تصل إلى مستوى المعايير الدولية، وقلّما تؤدي إلى مقاضاة جنائية بحق الجناة. ونتيجة لذلك، فإن الجرائم الخطيرة ضد الفلسطينيين تمر عادةً من دون عقاب وبشكل معتاد.

 

السيناريو المرعب
اعتبر الكاتب في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية ألوف بن أن «السيناريو الإسرائيلي المرعب» الذي تخشاه إسرائيل منذ وجودها قد تحقق، ومفاده أن يتحرك اللاجئون الفلسطينيون من المخيمات باتجاه الحدود، ويحاولوا تحقيق حق العودة سيرًا على الأقدام. وأضاف أن إسرائيل استعدّت لإحياء ذكرى النكبة في الضفة الغربية والقدس والجليل والمثلث، إلا أن الفلسطينين تجمعوا بعشرات الألوف على السياجات الحدودية.
ويشير الكاتب في هذه السياق إلى أن ما حصل هو أكثر من تقصير استخباري، وإنما هو تأكيد على محدودية القوة، حيث لا يمكن السيطرة على كل ساحة، ونشر القوات في كل مكان، وبالتالي ستظل هناك ثغرات يستغلها العدو.
في المقابل، كتب أهارون برنياع في صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن اللاجئين الفلسطينيين تحركوا باتجاه الحدود حاملين أعلام فلسطين، مطالبين بالعودة إلى بلداتهم التي هُجِّر منها آباؤهم في العام 1948. وأضاف: لقد خرجوا واثقين من انهيار المشروع الصهيوني، وأن دفعة صغيرة ستجعل من إسرائيل كلها فلسطين. كما كتب إيتان هابر في «يديعوت أحرونوت» أن يوم النكبة، في 15 أيار الماضي، هو بداية عصر جديد في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. وأضاف أن الصور من ميدان التحرير في القاهرة وليبيا وسورية قد شجعت الفلسطينيين على تفعيل سلاح «الكم» إلى جانب النشاط السياسي والإعلامي المكثف في أنحاء العالم جميعها. ويخلص إلى القول: يبدو أن استخدام الفلسطينيين والدول العربية لـ«سلاح الكمّ» الجماهيري يتحول إلى «سلاح نوعي»، وهو ما لم يكن قائمًا في السابق. وهذا السلاح، الجديد نسبيًا، يضع الجيش الإسرائيلي والشرطة أمام معضلات جديدة، بشأن كيفية التصرف مع عشرات بل مئات الآلاف من المتظاهرين، وذلك ليس لعدم وجود حل، وإنما لكون كل حل يتطلب استخدام القوة الفتّاكة القاتلة، التي تكون نتيجتها دفع إسرائيل ثمنًا دوليًا باهظًا.

 

اليوم ليس الأمس
في الخلاصة، إنّ واقع المواجهة مع العدو اليوم ليس كما كان بالأمس، ففضلًا عن تطور المقاومة العربية، انحدر مستوى إسرائيل سياسيًا واجتماعيًا وعسكريًا وأدبيًا، بحيث لم تستطع على مدى السنوات الثلاثين المنصرمة، خلق قيادة سياسية نزيهة وفاعلة وتحظى بقبول واسع على الساحتين الداخلية والخارجية. فمن الناحية العسكرية، لم يعد الجندي الإسرائيلي كما كان في مرحلة بناء الدولة، وهو الآن مترهّل وخائف وأناني، ومعنوياته مصابة بخلل كبير أمام غزو حياة الرفاه والتقنيات الحديثة. وبالتالي لم تعد إسرائيل قادرة على شنّ حروب استنسابية أو كيفية وارتكاب حمامات دم كما كانت تفعل في الماضي لأنها تدرك الآن أن حروبها لم تعد نزهة، إذ إنها ستمتد إلى الأراضي التي اغتصبتها. والحرب الوقائية لم تعد فعّالة أيضًا، لأن تنظيمات المقاومة القائمة حاليًا على جهوزية عالية، والكثير من الأسرار العسكرية لهذه التنظيمات لا يمكن الوصول إليه. وتعي إسرائيل جيدًا أن قوة الردع لديها قد انخفضت بعد أن طوّر أعداؤها قدرة عسكرية يمكن أن تكون رادعة، وخصوصًا إذا طاولت الصواريخ المدنيين الإسرائيليين، وهذا ما يدفعها إلى الانشغال المستمر بهمومها العسكرية وبتطوير تكتيكات وتقنيات حديثة لعلّ وعسى أن تعيد لجيشها هيبته المفقودة.