قضايا اقليمية

إسرائيل ومعضلاتها الامنية الراهنة
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

تبين في «استطلاع الوطنية الاسرائيلية» الذي أجريَ على عيّنة من الشبان الاسرائيليين أن الوهن واضح في عاملي التضحية والاصالة في الانتماء

إحدى المعضلات الأمنية على سلم الأولويات الملحّة في نظر الاسرائيليين هي إعادة تأهيل الكفاءات التنفيذية للقوات البرية

 

كشفت حرب لبنان الثانية، أو حرب تموز 2006، وبصورة قاسية، حقيقة إن اسرائيل لا تملك رداً ناجحاً إزاء تهديد الصواريخ على اختلاف انواعها وخصوصاً القريبة والمتوسطة المدى. وعلى الرغم من ان بطاريات صواريخ «حيتس» و«باتريوت» الموجودة في حوزتها قادرة على اعتراض الصواريخ البالستية، إلا أنها لا تلبي الغرض إذا ما اطلقت هذه الصواريخ في اتجاه العمق المدني والعسكري في الجبهة الخلفية برشقات مكثفة. وما من شك في ان المعضلة تزداد خطورة عندما تنطلق هذه الصواريخ وهي مزودة رؤوساً حربية غير تقليدية من كل من سوريا أو إيران.

هذا التهديد لا يعتبر جديداً، بل كان موجوداً منذ مطلع الستينيات من القرن الماضي، إلا أن العرب لم يمتلكوا في أي وقت مضى (على صعيدي الكمية والنوعية) من الصواريخ الحربية والرؤوس المتعددة الاهداف ما يتوافر لديهم حالياً، والذي تحوّل إلى تهديد جدي وجوهري بالنسبة إلى الإسرائيليين. ومثل هذا التهديد، قد ينقلب إلى تهديد وجودي لإسرائيل فيما لو حصلت تغييرات حادة في السلطة في بعض الانظمة العربية، بحيث يسيطر عليها اسلاميون راديكاليون. ومن هنا تبرز لدى المسؤولين الإسرائيليين مجموعة من المهام القومية ذات الاولوية، وتبدأ بإيجاد ردود مناسبة ومتعددة المستويات لمشكلة صواريخ أرض - أرض والقذائف الصاروخية على اختلاف أنواعها، بما فيها تلك البسيطة الأكثر بدائية منها، ومن بين هذه الردود توفير وسائل تدميرها في قواعد إطلاقها أو بالقرب منها، مروراً باعتراض الصواريخ على مسافات وارتفاعات مختلفة، وذلك بواسطة صواريخ ومنظومات تعمل بالليزر او موجهة بالرادار، ووصولاً إلى تقوية الجبهة الداخلية وتعزيز حمايتها. وما من شك في أن التوصل إلى هذه الاهداف سوف يؤدي إلى إعادة ترميم قدرات إسرائيل الردعية التي تفتقدها حالياً.

المعضلة الأمنية الثانية على سلم الاولويات الملحّة في نظر الاسرائيليين هي إعادة تأهيل الكفاءات التنفيذية للقوات البرية. ذلك أن فشل الحرب البرية في لبنان كشف العديد من أوجه الخلل والثغرات على مختلف الاصعدة: قيادة الاحتياط، المستلزمات اللوجستية، والتعاون والتنسيق بين مختلف الوحدات والاذرع القتالية... وثمة من يرجع هذا الفشل إلى سنوات القمع والقهر ضد المدنيين الفلسطينيين في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، بالاضافة إلى التقليصات الهامة التي اعتمدت في الموازنات الامنية في أعقاب انهيار العراق ومحاصرة سوريا، وانتهاء ما كان يسمى في الماضي باسم الجبهة الشرقية. كما واعترت المستويات القيادية في الجيش من قائد سرية وحتى قائد فرقة، حالة من الترهل والوهن وانحسار الحافزية، في أعقاب غرقهم جميعاً، في مهام مطاردات المدنيين في الشوارع والازقة الضيقة، لإلقاء القبض عليهم وزجهم في السجون أو لاغتيال بعض قياداتهم بأساليب أمنية مختلفة من الجو والبر، بحيث نسوا كيف «يصاغ أمر القتال الواضح والمفهوم من أجل تنفيذ هجوم أو احتلال هدف أو موقع محصن»، على حد قول الكاتب الاسرائيلي رون بن يشاي في صحيفة «يديعوت احرونوت» (3/10/2006). من هنا كان لا بد من الاهتمام مجدداً بالتدريبات القاسية والمناورات الهجومية والدفاعية لقوات المدرعات والمشاة والمدفعية والهندسة في القوى النظامية والاحتياطية على حد سواء. وهذه الأهداف تلقي على كاهل رئاسة الاركان الجديدة بقيادة الجنرال غابي اشكنازي أعباء كبيرة من أبرزها، تطوير أساليب قتال ووسائل حماية جديدة للقوات الهجومية وتطبيقها. الأمر الذي يشمل سلاح المدرعات وسلاح المشاة ومروحيات المساندة، ما يوفر للقوات البرية الانقضاضية قدرة أفضل على الصمود وتنفيذ المهام الملقاة على كاهلها في ميدان القتال الحديث المشبع بالصواريخ المضادة للدبابات والطائرات والألغام والعبوات الناسفة.

إزاء هذه المتطلبات، ترى إسرائيل نفسها بحاجة ماسة إلى مأسسة وتكريس آلية واضحة لاتخاذ القرارات وتحديد مجالات المسؤولية في أوقات الحرب، خصوصاً في ما يسمى «المنطقة الرمادية» أي منطقة تشابك الصلاحيات ما بين القيادات السياسية والقيادات العسكرية التي تسببت بحساسيات وإشكاليات كثيرة أدت الى بعض الاستقالات أو الاقالات.

ثمة معضلة أخرى تواجه الاسرائيليين، وقد برزت بوضوح في أعقاب حرب لبنان الأخيرة، وهي المتعلقة بالميثاق الاجتماعي غير المكتوب بين الجمهور والجيش. فالجيش لم يعد كما كان في السنوات الأولى لتأسيس الدولة، جيش الشعب، أي الجيش الذي لا يتوانى أحد من المواطنين عن خدمته أو الخدمة فيه، بينما تبين من نتائج «إستطلاع الوطنية الاسرائيلية» الذي يجري للمرة الأولى في تاريخ إسرائيل بطلب من مؤتمر هرتسليا السابع، أنه يوجد «نقص في الوطنية» مع مرور الاجيال. كما وتبين أنه في صفوف الشبان الاسرائيليين الذين تشكل وعيهم في الجيل الاخير، يوجد وهن واضح في عاملي التضحية والأصالة في الانتماء، وقد عبّر 44٪ من هؤلاء الشبان عن أنهم سوف يغادرون الدولة إذا كان مستوى معيشتهم سيتحسن بصورة ملموسة في الخارج. ولوحظ أيضاً وجود حالة اغتراب، أي إحساس بالغربة، في صفوف ذوي المداخيل المتدنية من الجمهور اليهودي، وهؤلاء كانوا الأكثر تردداً في التعبير عن استعدادهم للتضحية والقتال دفاعاً عن الدولة، علماً بأن الروزنامة الاقتصادية - الاجتماعية لحكومة أولمرت لا تتضمن أية رغبة في وقف التدهور المتسارع في أوضاع الشرائح الاجتماعية الفقيرة.

وفي هذا السياق شاع خلال السنوات الاخيرة عرف جديد في اسرائيل يقول: «إن حياة أبنائنا أي الابناء الذين يخدمون في الجبهة، هي أغلى من حياة سائر المواطنين المدنيين، الذين من المفترض بعناصر الجيش أن يقدموا الحماية لهم». وتبين أن جزءاً ملحوظاً من الاخفاقات العسكرية في الحرب الاخيرة، وخصوصاً الاخفاقات على مستوى متخذي القرارات في الحكومة والجيش، إنما كان سببه الخشية من تكبد خسائر في الارواح البشرية في القتال. وقد نجمت عن ذلك حالة من التخبط والبلبلة في اتخاذ القرار، تمثلت في إصدار ثم إلغاء العديد من الأوامر والمهام القتالية الموجهة إلى بعض القوات القتالية الميدانية مما تسبب في وقوع خسائر أكبر مما كان متوقعاً، فيما لو كانت الأوامر والمهام نفذت بالسرعة والحزم المناسبين.

ومن المعضلات الاخرى التي تخبّط بها الجيش الاسرائيلي بحيث تحولت إلى عرف مقدس، معضلة تدخل آباء وأمهات الجنود المقاتلين في سير عمل أبنائهم وأماكن وجودهم، بل وكان بينهم من يتصل بقائد الكتيبة لكي يملي عليه كيفية معالجة مخالفة انضباطية ارتكبها أحد الجنود، وصولاً إلى تهديده ضمناً بتقديم شكوى ضده إلى أحد أعضاء الكنيست من أقربائهم أو معارفهم. وكان بينهم أيضاً من استخدم وسائل الاعلام للطعن أو التشهير بسوء تصرف هذا الضابط أو ذاك، أو من أجل الضغط على بعض القادة لكي يعفوا جنوداً فروا من الخدمة أو أهملوا في واجباتهم، من العقوبة، هذا ناهيك عن إعتراض بعض الاهالي الذين فقدوا أبناءهم، على التحقيقات التي أجريت داخل الجيش حول كيفية حصول ذلك، مع التعبير عن عدم ثقتهم بمثل هكذا تحقيقات. كل ذلك أدى ببعض القادة إلى تملّق العائلات الثكلى ووسائل الاعلام، الأمر الذي يفقدهم حرية القرار والاختيار.

يضاف إلى ذلك أن الاهالي باتوا يشكّون في دخول سوسة السياسة إلى داخل الجيش، وباعتماد صلة القرابة أو المعرفة كعامل من عوامل التعيينات أو الاعفاءات من الخدمة.

باختصار يمكن القول إن هذه هي المرة الأولى التي يجري فيها تغلغل التباسات الحرب وتداعياتها السلبية، مادياً ومعنوياً إلى العمق الاسرائيلي المدني والعسكري؛ وهذه هي المرة الأولى ايضاً التي فقدت فيها اسرائيل كلياً القدرة على السيطرة على مجريات المعركة ونتائجها وخياراتها في كل ما يتعلق باختيار الزمان والمكان والاسلحة المستخدمة والأهداف، بحيث يمكننا القول إن اسرائيل وقعت في الفخ الاستراتيجي الذي نصبته للمقاومة، ما اضطرها إلى إحالة أمد المعركة وتكبّد المزيد من الخسائر، خصوصاً في مجال العلاقة الحساسة والمربكة ما بين الجيش من ناحية وبين الشعب والقيادة السياسية من ناحية ثانية. ومثل هذه السلبيات تجسدت بشكل جوهري في فقدانها القدرة على الحسم في أي من مواقع المواجهة حتى تلك القريبة جداً من الحدود الدولية مثل مارون الراس ووادي الحجير وبنت جبيل، بل وفي فقدانها أيضاً القدرة على الاحتفاظ بتفوقها وقدرة ردعها، على الرغم من كل الخسائرالبشرية والمادية التي تكبدتها.