بلى فلسفة

إسكربينة مصطفى فروخ
إعداد: العقيد اسعد مخول

لا يخلو الحذاء ­ خشباً أو جلداً أو قماشاً ­ من الأهمية في تصنيعه أو انتعاله, أو في توخي السلامة بواسطته مسدّداً للخطى, مشاركاً للعقل في اختيار دروب الحياة. فإن كان هذا الأخير هو الذي يخطط ويرسم ويقرر, فإن الحذاء هو الذي ينفّذ مرنّماً موقّعاً متهادياً في الذهاب وفي الإياب, إن ارتحل كان الوداع, وإن حلّ هلّلت الأعتاب وشرعت الأبواب.
وقد كُتب على هذا الجنس من الأشيـاء أن يحمل الإنسان على الدوّام, وسيء الحـظ منه هو ما يفرض عليـه أن ينـوء تحت الأحمال الثقيلـة, بينمـا السعيـد هو ما يقتنيه اللصوص, إذ أنّهم يخبئونه تحت الإبـط, خصوصاً في اللّحظـات الصعبـة الحرجة الحاسمة. أما الفقـراء فهـم الأكثر عطـفاً وإحساسـاً على هذا الصّعيد, إذ أنهم يلقـون أجسادهـم على الأرض مباشرة, لا يفصلهم عنها فاصل أو يحجبـهم حاجب, حفاةً, خفيفي الوطء, بالغي النعومة والتواضع والرّحمة. وكم من مرة التقينـا بائسـاً مشرّداً “يستثمر” حصته في ملكية الطريـق العـام, فينـام متوسداً حذاءه, ملتحـفاً نعمـة السماء.
وأنا أعرف سائق سيارة أجرة يترك حذاءه في منزله حرصاً وتوفيراً وتقتيراً, ويسوق سيارته بقدمين حافيتين.
وأعرف امرأة وَرِعةً تقيّة ذات حجىً ربطت حذاءها بأحد الغصون ردءاً للعواذل والحسّاد. وامرأة اخرى قَلبَتْه على عجل, رفضاً لصوت بومة نَعبت فوق سطح بيتها.
كما أنني أعرف امرأة انهار أحد كعبي حذائها, وكانت تشمخ بهما وتتطاوس, فراحت تقفز كالديك حين تصاب إحدى قائمتيه.
وأعرف امرأة أخرى اقتنت حذاء بكعبين دقيقين فلم يزدها ذلك رقة أو نعومة. وامرأة تحمل حذاء بكعبين جاوزت سماكة الواحد منهما سماكة رُكبتها, لكن ذلك لم يؤثر في دلالها وخفة حركاتها.
وأعرف مدرّساً محاضراً متنوّراً منوّراً “لبط” بحذائه الكرسي المخصص له في مدرسته لعدم رضاه عنها, ولزرع الهيبة والرّعب في نفوس تلامذته.
وأذكر حاكماً رفع حذاءه في إحدى المؤسسات الدّولية المسؤولة تحدياً وتهديداً ووعيداً و”العياذ بالّله”.

كما أنني أذكر حاكماً آخر عرض أمام الناس حذاءً تسلّمه هدية من أحد مؤيّديه, وحاكمة حوكمت, بعد زوال حكمها, لفرط ما اقتنته من أحذية ثمينة من مال الشعب ومن مالها.
وأذكر مشهوراً اشتهر لشهرته ماسحٌ مسح حذاءه عند أحد الأرصفة تحت “متابعة” عدسات المصوّرين. وأذكر الفنان كامل الخلعي* الذي امتهن مسح الأحذية حين تضافرت عليه عوامل البؤس. وقد دخل مرة مع “وسيلة عمله” الى أحد المقاهي في القاهرة, وتقدم من أحد روّاده وراح يدق على صندوقه معلناً وجوده, فأشار عليه الجالس بأن يمسح حذاءه فبدأ بمسحه. وكان صاحب الحذاء خلال ذلك مستغرقاً في تفكيره, والخلعي منهمكاً في المسح. ولما صحا “المفكر” من شروده, انتبه الى الرجل القابع أمامه فصعق كل من الاثنين, إذ لم يكن صاحب الحذاء إلا الفنان محمد العقاد عازف القانون المعروف, الذي تربطه بكامل الخلعي صداقة وزمالة لا حد لهما, فأنهضه وعانقه وهو يبكي وأجلسه قربه. وبعد حديث بينهما أحب أن يقدم إليه معونة مالية, لكنّه أبى أن يأخذ أكثر من نصف قرش, وهو أجر مسح الحذاء في ذلك الزمان.
لكن ذلك كلّه يتأرجح في كفة من ميزان الكلام, وما رأيته مؤخراً يرجح في الكفة الأخرى: تنادى أهل الثقافة في بيروت لحضور معرض استعادي لأعمال الفنان مصطفى فرّوخ** عرضت فيه لوحات عديدة صاغتها ريشته بالزيت والماء والفحم. كانت بين الحاضرين بالتأكيد نسوة صاغت كل منهنّ نفسها لوحة متنقّلة, زيّنها ذهب ساطع, وغطاها زيت لامع. وما يعنينا هو أن اثنتين من أولئك وقفتا وقفة فنية تستدعي حضور من يوازي الرسام الكبير الراحل ليستوفي منها الكثير خدمة لفنّه وعطائه.
انتصبت اللوحتان البشريتان الواحدة قبالة الأخرى, وقد أدارت كل منهما ظهراً شبه مغطى الى اللوحات التراثية الساكنة. قالت اللوحة الأولى لأختها اللوحة الثانية بأنوثة و”دلع”:
­ ياي, إسكربينتك جميلة حقاً, من أي معرض فني حصلت عليها؟
أُخذت اللوحة الثانية بهذا الاعتراف, لأنه من النادر أن تعترف إحدى بنات حواء لأخرى بجمال ما في جسدها أو في ما يغطيه, وقالت مبادلة اللطافة باللطافة:
­ إسكربينتك أحلى يا حياتي. كنت أريد أن أعلن لك ذلك منذ أن التقينا في مطعم “السمكة الطائرة” منذ يومين.
... واستمر الحديث في ظل حرية التعبير صريحاً صادقاً, صارخاً بقلة الذوق, رغم انخفاض الصوت ادعاءً للنعومة والرقة والإحساس.

* * *
قال صاحبٌ رافقني الى ذلك المعرض: لو امتد عصر إبن فروخ الى أيامنا, لرسم لوحات إضافية عن الجلد الإيطالي وقد غطّى جلود حوريّات هذه البلاد, ليس من البرد أو الهجير أو شوك الحقول, إنّما توخياً للإغراء في طلّة بلهاء!
* كامل الخلعي (1876­- 1938): ملـحن وخـطّاط ورسّام وشـاعر يحسـن لغـات عديدة, جمع الى الاعتزاز بالكرامة التواضع واللطافة الى حد الانطواء على النـفس, كما كـان شديد العطـف على الإنسان والحيـوان. من أول من أبـدعوا في وضع الأوبرا العربـية في مصـر من خلال شخصية المطربة منيرة المهدية. من أساتذته الملحن أبو خليل القباني, ومن تلامذته: درويش الحريري, عباس البليدي, عبد الحليم نويرة... لا يزال بعض الموشحات التي لحنها معروفاً حتى اليوم. غنّت أم كلثوم من نظمه أكثر من أغنية. من كتبه: الموسيقي الشرقي ونيل الأماني في ضروب الأغاني.
** مصطفى فروخ (1901­- 1957): رسام لبناني أبدع في تصوير جمال الطبيعة اللبنانية في عصره. من أساتذته حبيب سرور, وممّن عاصروه: عمر الأنسي وقيصر الجميّل...