اقتصاد ومال

إصلاح النظام المالي في لبنان عبر تطبيق عمليات التوريق أو التسنيد
إعداد: تيريز منصور

د. جشي: “التوريق هو التحديات والفرص للمؤسسات المالية العربية”

يكثر الكلام في هذه الأيام عن موضوع التوريق والتسنيد, وهما مصطلحان للمعنى ذاته الذي هو عبارة عن تحويل موجودات غير سائلة الى أوراق مالية.
في السنوات الأخيرة, قام لبنان بتحديث الهيكلية التشريعية والتنظيمية التي ترتكز عليها عمليات قطاعه المصرفي والمالي؛ فقد تمّ, منذ العام
1994, إقتراح وإصدار عدة قوانين هامة تنظّم عمل النشاط المالي والمصرفي بمجمله, وكذلك تنظيم وسائل وأنظمة الدفع في لبنان وتطوير ووضع قوانين للأدوات المالية وتداولها وتنظيم الوساطة المالية.
وبالرغم من هذه التطورات التشريعية التي عزّزت القدرة المؤسساتية, فهناك ثلاثة مشاريع قوانين هامة تنتظر موافقة السلطة التشريعية, وهي:
- مشروع القانون المعني بتنظيم أسواق رأس المال, الذي رفع الى مجلس الوزراء في شباط 1999, ومن شأنه أن ينشئ أسواق مال (بورصة) تدار من قبل القطاع الخاص تحت إشراف مؤسسة مستقلة, أي هيئة رقابة الأسواق.
- مشروع القانون المعني بتنظيم هيئات الإستثمار الجماعية.
- مشروع القانون المعني بالتسنيد.


والمشروعان الأخيران هما حالياً قيد الدرس لدى اللجان المختصة في مجلس النواب.
ونظراً لما تواجهه الدول النامية ولا سيما لبنان, من تحديات كبيرة قد تؤثر على النمو الإقتصادي فيها, ليس أقلها كلفة رأس المال والمديونية العامة المتزايدة وافتقارها الى أسواق مالية فاعلة؛ كان لا بد من تسليط الضوء على مفهوم ما يسمى بتسنيد أو توريق الديون, وعلى أهمية وسبل تطبيقها في الأسواق المالية, وعلى خصائص هذه العمليات والمخاطر الناتجة عنها. ولتوضيح هذه الأمور, التقت مجلة “الجيش” الخبير المالي والإقتصادي الدكتور أحمد جشي (أستاذ محاضر في الجامعة الأميركية اللبنانية), كما استندت الى دراسة حول هذا الموضوع أعدها الوزير السابق والنائب الأول لحاكم مصرف لبنان الدكتور ناصر السعيدي, والدكتور نصري أنطوان دياب.
الخبير المالي والإقتصادي الدكتور أحمد جشي تحدث عن مفهوم التوريق أو التسنيد, فقال أن الدول النامية تواجه تحديات كبيرة قد تؤثر على النمو الإقتصادي فيها, ليس أقلها إرتفاع كلفة رأس المال والمديونية العامة المتزايدة وافتقارها الى أسواق مالية فاعلة. أمام هذا الواقع, شرعت هذه الدول بالبحث عن السبل الكفيلة لمواجهة هذه التحديات ومن بينها عملية تسنيد الديون أو التوريق.
فالتوريق أداة مالية يتم من خلالها الإقتراض الطويل الأجل من الأسواق المالية, المحلية منها والعالمية. والتوريق إصطلاحاً هو عبارة عن تجميع موجودات متشابهة ذات طبيعة غير سائلة ونقل حيازتها الى منشأة ذات غرض خاص, تقوم بدورها بإصدار أوراق مالية لها حق في هذه الموجودات بعد الحصول على تصنيف ائتماني. أما إختصاراً, فهي عملية تحويل تدفقات نقدية مستقبلية الى تدفقات نقدية حالية.
وقد حصلت أول عملية توريق في الولايات المتحدة الأميركية في مطلع السبعينات حيث تم تسنيد عدد من القروض السكنية, ثم توالت بعدها الإصدارات حتى مطلع الثمانينات, تاريخ حصول أول عملية توريق خارج الولايات المتحدة وبالتحديد في المملكة المتحدة. ولم يتم إستخدام هذه الأداة المالية خارج الدول الصناعية إلا بعد العام 1995. وقد اقتصرت عمليات التوريق بين الفترة الممتدة من العام 1970 ولغاية العام 1990 على العقارات المرهونة وقروض السيارات والبطاقات الائتمانية, ثم توسعت بعدها لتشمل معظم التدفقات النقدية.


وقد عمدت المؤسسات المالية العالمية الى تسنيد بعض موجوداتها لأسباب عديدة أهمها:
- تحرير رأس المال المرتبط بهذه الموجودات.
- الحصول على تمويل بشروط أفضل.
- تصحيح الخلل الناجم عن التفاوت بين تواريخ استحقاق كل من الموجودات والمطلوبات.
- تحويل المخاطر الإئتمانية للديون الى طرف ثالث عن طريق المشتقات الإئتمانية, عوضاً عن النقل المباشر للملكية لما يترتب عليه من أكلاف قانونية.
وبذلك, استطاعت هذه المؤسسات, من خلال تجزئة عملية الإقراض وتفكيك المخاطر المرتبطة بها, من إدارة المخاطر بطريقة أكثر فاعلية. وبالرغم من المساهمة الفاعلة لعمليات التوريق في تطوير ونمو أسواق رأس المال العالمية, إلا أنها ما زالت محصورة بغالبيتها بمؤسسات وأسواق الدول الصناعية.
- ما هي منافع التوريق في الدول النامية وما هي العقبات التي تواجه هذه العملية؟
­ لقد أظهرت عملية التوريق جدواها في الدول النامية في تحقيق الأمور التالية:
- تأمين التمويل الطويل الأجل من الأسواق المالية العالمية بتكلفة أقل.
- تأمين التمـويل اللازم للمؤسـسات الصغيـرة والمتوسطـة.
- تأمين مصادر تمويل جديدة للدين بتكلفة أقل.


فالمؤسسات المالية في الدول النامية تعاني من عدم القدرة على الإقتراض الطويل الأجل من الأسواق المالية العالمية, نظراً للتصنيف السيادي المتدني للدولة التي تنتمي إليها وبالتالي لتصنيفها هي. وقد عمدت بعض المؤسسات المالية الى تسنيد بعض موجوداتها كوسيلة لتحسين تصنيفها الإئتماني وفصله عن التصنيف السيادي للدولة. وقد أتاح هذا النوع من العمليات تأمين قروض سكنية لذوي الدخل المحدود في غياب قدرة الدولة على التمويل, وإحجام المؤسسات المالية في ظل مخاطر مرتفعة لهذا النوع من القروض.
وبالرغم من مساهمة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في التنمية الإقتصادية وخلق فرص عمل, إلا أنها لا تزال تعاني من إمتناع المصارف التجارية عن إقراضها للمخاطر الكبيرة المحيطة بها. نتيجة لذلك, ومن أجل دفع هذه المصارف نحو تمويل المؤسسات الصغيرة وتخفيض كلفة الإقتراض, قامت بعض الدول بإنشاء مؤسسة تعنى بضمان القروض الصغيرة, ما ساهم في إطلاق عمليات تسنيد واسعة النطاق وفي قيام المصارف التجارية بتمويل المؤسسات الصغيرة بعد تدني مخاطر التسليف المحيطة بها.
أما بعض الدول النامية, وفي ظل إرتفاع مديونيتها العامة وإفتقارها لمصادر تمويل من الأسواق العالمية, فقد شرعت الى تسنيد إيراداتها الخارجية حيث تم إيداع هذه التدفقات النقدية في حسابات تراست في الخارج, ما أزال مخاطر التخلف عن الإيفاء بالدين وأدى الى تحسين التصنيف الإئتماني المرتبط بهذه العمليات.
وتجدر الإشارة الى أنه بالرغم من الأزمات المالية المتكررة لبعض الدول التي قامت بتسنيد إيراداتها الخارجية وتخلف بعضها عن الإيفاء بديونها, إلا أنه لم تسجل لتاريخه أي حالة تخلف عن الإيفاء بالدين المرتبط بعمليات التوريق.
- هل أن ايجـاد بـيئة ملائـمة لعملـيات التوريـق ضـروري لإنجـاحـها؟
­- بالرغم من أهمية التوريق في عملية التنمية وتطوير أسواق رأس المال, إلا أن نجاح هذه العملية مرهون بتوفير العناصر التالية:
- إنشاء وتطوير أسواق المال الأولية والثانوية للأدوات المالية والأساسية, كسندات الخزينة, التي من دونها لا يمكن تطوير أسواق الأوراق المالية أو تعزيز السيولة. ففي غياب المعلومات حول "منحى العائد" لا يستطيع المستثمر إحتساب التوقعات المستقبلية لمعـدلات الفائدة وبالتالي تحديد أسعار الأوراق المالية المختلفة. وتجدر الإشارة الى أن عملية تطوير أسواق السندات والأوراق المالية تتوقف على رغبة الحكومات في ذلك. ففي بعض الدول النامية التي تعاني من مديونية عامة مرتفعة, تلجأ الحكومات الى الإقتراض الكثيف الذي يؤدي الى تقليص إقتراض القطاع الخاص وتقييد المنافسة, وبالتالي الى عـدم نمـو هذه الأوراق وعـدم فاعليتها ما يلحق الضرر بكل من المستثمر والمقترض على حد سواء في المـدى البعيد.
- وضع إطار قانوني مناسب: إن أحد أهم المعوقات أمام نجاح عملية التوريق في الدول النامية هو غياب الإطار القانوني الذي يعالج الأمور التالية:
- الفصل القانوني للموجودات موضوع التوريق عن سائر أصول المؤسسة التي أنشأت هذه الموجودات.
- كيفية إتمام عملية نقل الموجودات من إحلال دائن محل آخر أو التنازل عن الممتلكات لصالح الدائنين أو إستبدال سند دين بآخر. فلكل من هذه الوسائل تعريفه القانوني الخاص به وإلتزاماته القانونية المتعلقة به.
- إمكانية إسترداد التجهيزات والمعدات في حالات التخلف عن الإيفاء بالدين من دون الرجوع الى المحاكم.
- تحسين معايير المحاسبة العامة وتأمين الشفافية: إن توفير الحد الأدنى من الإفصاح يتيح للمستثمر تقييم عائد ومخاطر الإستثمار ويزود الجهات الرقابية بالمعلومات الوافية لتطبيق ضوابط إدارية متينة, فضلاً عن المساعدة في الحصول على تصنيف إئتماني أفضل.
- إعتماد التصنيف الإئتماني الصادر عن مؤسسات دولية: حيث يتم التصنيف بطريقة متساوية لكل أنواع الأدوات المالية حول العالم, فتكون مثلاً نسبة الخسارة المتوقعة لسند مصنف BBB في ألمانيا هي نفسها لسند مصنف BBB في دولة نامية.
- التشريع الضريبي: وجوب عدم إعطاء حوافز ضريبية متفاوتة لأشكال التمويل المختلفة, حتى لا يصبح الحافز الضريبي المحرك الأساسي لعمليات التوريق.
- معالجة تأثير ازدواجية الضريبة وإختلاف السلطات القضائية على عمليات التسنيد التي تجري في الأسواق المالية العالمية.
- التخفيف من الأعباء التي ترتبها رسوم تسجيل ونقل الموجودات ورسم الإصدار وغيرها من الرسوم التي غالباً ما ترافق عملية التوريق.

 

مقتطفات من دراسة أعدها الدكتور ناصر السعيدي والدكتور نصري دياب

تحت عنوان “تسنيد الموجودات سوق وفرص جديدة في لبنان”, أعد الدكتور ناصر السعيدي والدكتور نصري دياب دراسة حول الموضوع, نقتطف بعضاً منها.
- التسنيد وأسواق رأس المال اللبنانية:
تستمد عملية التسنيد في لبنان أهميتها من العاملين التاليين:
أولاً: كونها تشكل أداة مالية جديدة تستطيع إجراء تحول في السوق السكنية والعقارية بإنشاء سوق للقروض العقارية, وتأمين موارد وسيولة جديدة طويلة الأجل لتمويل الإسكان, بالاضافة الى سائر الاستخدامات, كتسنيد قروض المصارف التجارية, وقروض السيارات, وإيرادات بطاقات الإئتمان, وقروض الإيجار التمويلي الخاصة بالتجهيزات على أنواعها, وغير ذلك.
ثانياً: إمكانية جعل لبنان مركزاً إقليمياً لعمليات التسنيد. إن اعتماد البنية التشريعية والرقابية الملائمة لتسنيد الموجودات يتيح للبنان أن يكتسب ميزة مقارنة بالنسبة الى سائر البلدان العربية التي لا توجد لديها تشريعات كهذه, والتي يمكنها أن تستخدم أسواقنا المالية. وبهذا يكون لبنان قد حذا حذو مدينة دابلن (Dublin) ومدينة هونغ كونغ (Hong Kong) , وقد استطاعت كل منهما إنشاء سوق للتسنيد نشطة وناجحة. والواقع أنه من الممكن لعمليات التسنيد والخصخصة أن تؤدي الى نهضة في بورصة بيروت.
- التسنيد وتمويل البنية التحتية:
من الممكن, في لبنان والبلدان النامية, أن يكون التسنيد بواسطة أوراق مالية مدعومة بموجودات مستخدماً بشكل متنوع في مشاريع التنمية والإستثمار في البنية التحتية, علماً بأنه يوجد في لبنان عدد كبير من مشاريع البنية التحتية التي تتطلب تطويراً وتمويلاً. وتشمل هذه المشاريع الطرق والجسور والكهرباء, وخطوط أنابيب النفط والغاز وخطوط أنابيب أخرى, والبنية التحتية للإتصالات السلكية واللاسلكية كالاتصالات على الموجة الواسعة, وغير ذلك من البنى التحتـية الأساسية. ومن الممكن تمـويل مـثل هـذه المشاريع باستخدام تقنية التسنيد.
- التسنيد والمصارف:
تستطيع المصارف التجارية إعادة هيكلة محافـظ قروضها عن طريـق التسنـيد. فالقروض غير المنتجة أو المشكوك فيها يمكن تجميعها وبيعها لصناديق استثـمار منشأة خصيصـاً لهـذه الغـاية, مع تأمين ضمـانة إضافيـة ملائـمة, وطمأنـة المستثـمرين الباحثـين عن إستثمارات ذات عائد مرتفع. وتتيح عملية التسنيد للمصارف أن تسعر قروضها وفق شروط ومخاطر السوق. وهذه من متطلبات ومبادئ “لجنة بال” التي تطالب بتقييم المخاطر في المحافظ المالية والتسليفات لدى المصارف (Value at Risk) , كما تتيح لها أن ترفد ميزانيتها العمومية بالسيولة. وبالتالي, من الممكن للأوراق المالية المدعومة بموجـودات أخرى, في حال وجـود إطـار تشريعي صحيح وتكاليف غير مفرطـة, أن تنشـئ قيـمة وتكـون مجديـة لدى الجـهات المصـدرة ولدى المستثـمريـن.
- أسواق مالية جديدة في لبنان:
إن إقـرار مشـروع قانون تسنيد الموجودات إضافة الى مشروع القانون المعني بتنظيم هيئات الاستثمار الجماعية وتوفر تقنيات التسنيد, سيعود بمنافع عديدة على الإقتصاد اللبناني خصوصاً على القطاع المالي وقطاع الإسكان ويطلق سوقاً جديداً هو سوق الرهونات  (Mortgage Market) ما يؤدي الى زيادة نسبة السيولة في هذه الأسواق, والى تدفقات مالية جديدة وتمويل طويل الأجل, إضافة الى إعطاء لبنان والأسواق المالية اللبنانية ميزة تفاضلية تجعله يطوّر ويستخدم تقنيات التسنيد الحديثة.
إن الفـراغ التشريعي الحـالي على صعيـد عمليات التسنيد في لبنان يدفع بالشركات المعنية الى اللجوء الى بلدان أخرى للإستعانة بتشريعاتها في هذا المجال, ما يؤدي الى تخفيض حجم إستثماراتها في لبنان وحتى إنعدامها, وإن تنظيم هذه العمليات في لبنان سوف يشجع الشركات على القـيام بها محلياً ويسمح بالقـيام برقابة محليـة فعّالة عليها, ما يتـيح له أن يصبح مركزاً إقليمياً لسوق تسنيد الموجودات للقـطاع الخاص والقطـاع العام.